خصَّص برنامج «حتى تكتمل الصورة» حلقته أول أمس، السبت «12يناير2013م»، التي استضاف فيها د.سيّد الخطيب مدير مركز الدراسات الاستراتيجية، أحد أبرز المشاركين في جولات التفاوض مع دولة جنوب السودان، لمناقشة الوضع السياسيّ الراهن، على ضوء القمة الرئاسية التي جمعت الرئيسين «البشير- سلفاكير» بالعاصمة الاثيوبية أديس أبابا بدايات يناير الجاري. - لامستُ شعوراً عاماً عند بعض الكتّاب والمهتمين، أشبه باللامبالاة، تجاه ما يدور من مفاوضات، كأنه نتاجُ شعورٍ بأن المفاوضات تراوح مكانها، وبعضهم يقولون ان الاجتماع الأخير لم ينتج جديداً؟ ليس صحيحاً القول بأن هذه الجولة لم تخلص الى جديد، صحيح أنها لم تناقش قضايا جديدة، فقد عُقدت لأجل الاسراع في انفاذ ما هو متفق عليه أصلاً في ما سُمِّي «مفاوضات ما بعد الاستفتاء» والتي تأخَّرَت كثيراً. الجديد هو، أولاً: المستوى الذي التقى عليه الطرفان، وهو أرفع مستوى في البلدين. ثانياً: الاتفاق الذي وُقِّع في نوفمبر الماضي، وسُمِّي «اتفاقية التعاون بين السودان وجنوب السودان» غطى القضايا التي تُسمَّى «القضايا العالقة بين الطرفين» جميعها، وتم الاتفاق عليها جميعاً، ما عدا قضية الحدود، وهذه ذاتها هناك اتفاق عليها تقريباً بصورة شبه كاملة، ولكن في اللحظة الأخيرة، بسبب تعبير معيَّن، لم يكن من الممكن أن تُضَمّ هذه القضية الى القضايا المتفق عليها. فاتفاق التعاون الشامل هو المعالجة، ولكن بعد أن وُقِّع تباطأت الخطى، بل لم يَجرِ أيّ حراك أصلاً تجاه التنفيذ، برغم استقلالية ما يلي الطرفين من استعدادات، وليس من الضروري أن ينجزاها معاً حسب علمي، على الأقل هذا الطرف مضى، بعد التوقيع على اتفاق التعاون الشامل، في الالتفات الى هذه الاستعدادات، خصوصاً في ما يتعلَّق بتصدير نفط الجنوب عبر البنية التحتية للسودان. فالقول بأن الاستعداد للتنفيذ كان متوقِّفاً غير صحيح بنسبة «100%»، ولكن الصحيح أن التنفيذ حيال اتفاقية التعاون نفسها لم يتحرّك. - لماذا؟ أعتقد أن مستوى الحماسة في ما يتعلَّق بالتنفيذ ليس متساوياً، ليس متساوياً بين الطرفين الموقِّعين على الاتفاق، وليس متساوياً في كل الجبهات عند كل طرف، وهذا أمرٌ يمكن أن يُناقش بعد أن تُحَلّ الأمور الصغيرة التي تُعتبر حججاً لهذا الطرف أو ذاك، لا يمكن أن نمضي في الاتفاق دون أن يحدث ذلك، وهذا ما جرى في القمة بالضبط، ولذا لم تطرح قضية جديدة في القمة، ولم يكن أمرها تفاوضاً بالمعنى التكتيكيّ للتفاوض؛ هذا موقفي وذاك موقفك، وانما الغرض منها التحقُّق من مدى الالتزام ازاء تنفيذ الاتفاق؛ هل هو على أعلى مستوى، من دولة جنوب السودان، ومن السودان، أم ليس كذلك، وقد أتت التزامات الرئيسين بالاجابة أنْ نعم، هناك التزام. أما بشأن الموضوع الشكلي، في ما يتعلَّق بالمساندة والايواء، فقد طالب السودانُ دولة الجنوبَ بموقف معلن، وأكَّد الرئيس سلفاكير ما سَلف لهم من اقرارٍ، وما تلاه من قرارٍ يقضي ب«فك الارتباط»، وقال ان هذا القرار لا يزال موضع التزام من حكومة الجنوب، ووعد بتقديم الوثيقة المطلوبة منهم بهذا الالتزام. - أيْ أن سيقدّم تعهُّداً مكتوباً؟ «أيوة»، ولكن ليس معناه أن الارتباط قد تم فكّه، ولكنه تعهُّد مهم. - وما المهم فيه اذا أتى لتأكيد ما هو مؤكّد سلفاً؟ تحملك ضرورة التعاون في أية اتفاقية على أن تقيس الأداء على الأرض والذي لا يصير واقعاً الا بعد تحويله الى التزامات، وبالطبع لا يعني وجود الالتزامات، من شاكلة هذا الالتزام المكتوب، أن الأمر قد نُفّذ، والمهم في مسألة الايواء والارتباط أنها لا يبدأ التحقق من توقفها فعلياً الا بتفعيل اتفاقية المنطقة منزوعة السلاح. ولذلك يضع تنفيذ الاتفاق هذا الالتزام، وكل الالتزامات الأخرى من جانب السودان وجنوب السودان، في المحكّ. حيث تنشط الفرق المدرَّبة والمؤهَّلة لمراقبة المنطقة المنزوعة السلاح، وعندئذٍ سيتبيَّن اذا كانت هناك مساندة ومساعدات لوجيستية، وما الى ذلك، من قِبل حكومة جنوب السودان، لهؤلاء الذين يقاتلون في المنطقتين. ليس صحيحاً أن الالتزام نفسه لا معنى له، ولكنه لن يكون وحده الحَكم بيننا، يجب التحقّق عملياً، وهذا رهين ببدء التنفيذ، ولذا التزم الرئيسان بأن يبدأ التنفيذ حالما تُقَدَّم المصفوفة الشاملة، وحينها سيثبت اذا كان هناك دعم أم ليس كذلك. - يرى بعض الكتّاب أن المساعي لفك الارتباط بين الفرقتين التاسعة والعاشرة والجيش الشعبي مقصورة على المستوى الأمني وحسب، اذ ليس هناك حديث عن فك ارتباط على المستوى السياسي. وما يسمّى «الجبهة الثورية»؛ الاسم الذي تتحرّك به المجموعة ذات الارتباط بجنوب السودان وتدير نشاطها، يقول البعض انها تجد السند السياسي من الجنوب، وأفرادها يتحركون بجوازات دولة جنوب السودان، ويتلقون دعماً سياسياً منها. هل هناك حوار عن السند السياسي لتلك المجموعات في اطار التفاوض مع دولة جنوب السودان؟ طبعاً. أن يكون هناك ارتباط لقوى سياسية «عضوي أو حقيقي» بدولة أخرى؛ أمرٌ لا يقرّه الدستور أساساً، لا دستور السودان ولا دستور جنوب السودان، ان كان لهم من اتهام، وهذه مسألة تُحسم بالدستور. ولكن يسهل على حكومة جنوب السودان أن تقول بأن هذا الفصل قد تم منذ انشاء «الحركة الشعبية قطاع الشمال» قبيل الانفصال. وهذه التي تحدثت عنها الآن أمور عملية تُثار أثناء تنفيذ الاتفاق، ومن حق حكومة السودان أن تثيرها ان كان هناك أي نوع من الدعم. والايواء ليس عملاً مسلحاً ضد السودان، ولكنه نوع من أنواع المساعدة لحركة متمرِّدة على السودان، وهو عمل سلبي غير مسموح به، بنصّ الاتفاقية، التي تمنع أن يقوم أي طرف بايواء أو دعم، وهذا يشمل كل شيء. عندما تبدأ اللجنة السياسية الأمنية المشتركة تثار كل هذه القضايا، ومن حقّ أي طرف أن يثير أي نوع من أنواع الدعم يقدَّم من جانب هذا الطرف أو ذاك لفئة خارجة على القانون أو فئة متمرّدة. وهناك بالطبع السُّلطة الأخلاقية السياسية التي تُمارَس من خلال هذا الاعلان. دَع الناس يقولون آراءهم في ما يتعلق بهذه المساعدة، وفي وقت من الأوقات ستُوْصَم هذه الأمور بالعمالة، حال كان هناك سودانيون يمارسون عملاً سياسياً أو قتالياً ضد بلدهم، مستعينين فيه بجهةٍ أخرى. دع الأمور تكون واضحة، وسيشير المختصون في اللجان المختصة الى هذه الأمور، وان كان هؤلاء يتحدّثون من منطلق أن الاتفاقية أغفلتها فالاتفاقية لم تغفلها، وتحدثت عن الدعم، مطلق الدعم، مادياً كان أم بأشكال أخرى. - ان كنا نعلم أنهم سودانيون فما بالنا نطلب الحل عند دولة جنوب السودان؟. بصراحة، هناك من يقول ان الاتفاق الذي وقّعه د.نافع علي نافع ومالك عقار كان بامكانه ازالة كل هذه العذابات، فلماذا رفض المؤتمر الوطني هذا الاتفاق، بعد أن وقَّع عليه، ثم أتى الآن ليطلب الحل من دولة جنوب السودان؟ لا ، «كررها ثلاثاً». ليس هناك طلب للحل من دولة جنوب السودان، قضية المنطقتين لم تناقش أصلاً، ولم تُثرْ في القمة بحضور الرئيس سلفاكير أصلاً، ولكن حقيقة الأمر أن هذه القضية فيها تدخّل لجنوب السودان عن طريق علاقة هؤلاء بها، وكل ما أثرناه معها في هذا الشأن هو أن تمتنع عن ايوائهم، أما بقية جوانب القضية فمسألة سودانية بحتة، تُحل محلياً، ومن ذلك كان ما أشرتَ اليه من اتفاقٍ وُقع بين د.نافع ومالك عقار. المهم أنّ مسارها الآن منفصل عن بقية القضايا، والصلة الحقيقية؛ صلة الدعم والايواء، تُدْخِل جنوب السودان في هذا الأمر، وليس فقط في المنطقتين، فهناك دعم وايواء لبعض الحركات الدارفورية مثلاً، أو لبعض الحركات في الخرطوم، كل هذا يمكن أن يثار، ويثار مع دولة جنوب السودان، ويثار مع يوغندا، ويثار مع تشاد، ومع سائر دول الجوار، ان كان هنالك عمل ضد الدولة يتم بمساعدة دولة جارة، حينها من الطبيعي أن يثار الأمر، أما الحل السياسي لقضية المنطقتين فلا شأن لدولة الجنوب به، ويمكن، ان كانت العلاقات طيبة بين البلدين والثقة متوافرة، أن تتبرّع دولة الجنوب وتقول ان لديها مساعي حميدة في مسألة المنطقتين، كما تفعل اثيوبيا مثلاً، ولكن ليس هناك من حقٍّ أصيل يقتضي من دولة الجنوب أن تكون ضالعةً في هذه المسألة، الا بأن يقدّموا أيّ نوع من الدعم لحركةٍ مسلحة. - على ذكر اتفاق د.نافع ومالك عقار، هل تراه ما زال صالحاً، على الأقل في نصوصه، لايجاد مخرج لأزمة المنطقتين وادخال قطاع الشمال من جديد الى الحياة السياسية وعزل البندقية عن الصراع الذي يدور حالياً؟ في تقديري أن فكرة اتفاق «نافع-عقار» سلمية جداً، وتفوِّت الفرصة على من لا يبالون، فقد ثبت من تصرُّف العسكريين الذين أثاروا هذه القلاقل، أنهم لا يأبهون بأن يتأذّى مواطنوهم، ولا يتورَّعون أن يجعلوا منهم دروعاً بشرية، وبالارهاب يمكن أن يجندوا بعضهم. ولكن عندما تقوم الحرب عملياً، وفي ظروفنا، فانها بدون شك تخلِّف خسائر، قد لا تكون مقصودة ولكن لا مفرّ منها. وشخصياً، لا أريد لهذه الخسائر أن تقع، ففي حال تطاول أمد الحرب، سيؤدي الأمر الى أن ينحاز الجاهلون والأبرياء؛ اما الى تجريم الطرفين معاً، أو الى تجريم الطرف الذي أوقع عليهم الأذى. لذا لا بدّ من سدّ الباب أمام المغامرين الساعين الى صُنع قضية بدماء مواطنيهم. وفكرة الاتفاق الذي تم، تسدّ الباب أمام هذا الغرض، وان كنا نختلف بعد ذلك على أمور صغيرة، فهذا شيء آخر. وكل اتفاق تكون فيه جوانب تجعل الشخص يمتعض. لا بد من وضوح الهدف والغاية. وأعتقد أن معظم من يهاجمون ذلك الاتفاق «نافع-عقار» سحبوا هجومهم هذا الى فكرة الاتفاق السياسي نفسه، ولا مهرب من فكرة الاتفاق السياسي مع مواطني المنطقتين، وان كنا نريد أن نعالج هذه المسألة علاجاً انسانياً فقط حسب الاتفاقية الثلاثية، فهذا شبيهٌ بتقديم هدية لأولئك المعتدين، باعتبارهم طرفاً، ذلك ما دامت المنطقتان لم تطهرا بعد من المقاتلين، وما زال هناك مواطنون سودانيون تحت رحمة هؤلاء المتمرّدين، ولا بد أن تُقدَّم لهم المعونات الانسانية، وسيسهل الأمر على هؤلاء ان هم أزاحوا جانباً الأسماء والأشخاص الذين يثيرون... - مقاطعة: وكأنما تريد أن تقول ان السبب نفسيّ؟ أرى أن السبب سطحيّ، بعض الناس مهيئون دائماً لأن يتعلّقوا بأسباب شكلية، غير أن حكومة السودان، والشعب السوداني، والحزب الحاكم، لا بد أن يكون هدفهم واضحاً، وهو ألا تكون هناك حرب سودانية يتأذّى منها المواطنون السودانيون. - وُجِّه اليكم النقد بشأن اتفاق «نافع-عقار» لتجاوزكم التفويض الممنوح من المكتب القيادي. ولكني لا أودّ بحالٍ أن أعود بك الى الجدل، بيد أنه ما دام هذا الاتفاق صالحاً، بنصوصه، فهل من محاولة حقيقية للعودة به الى المؤسسات واستصدار موافقة عليه والدفع به من جديد الى المفاوضات؟ شخصياً لا أودّ أن أعود الى الجدل الذي أشرت اليه، ولكن أقول، بكل ثقة، انه لم يكن هناك، في أي وقت من الأوقات، خروج على المؤسسية، أو فصل في قضية غير متفق عليها، اطلاقاً. ومسألة الاتفاق تؤكد ذلك، وفي النهاية قال المكتب القياديّ رأياً في الاتفاق الذي وُقّع، أكّد فيه ولايته على بقية الاتفاقات. أن يكون هنالك اتفاق سياسي، فهذه فكرة لا يرفضها أحد في المكتب القيادي، هم تحدثوا عن اتفاقٍ بعينه، وان كانت لي من وجهة نظر في الاتفاق، ان كان صالحاً أم ليس كذلك، ازاء وجهة نظر المكتب القيادي أو غالبية عضويته، فاني أقولها للمكتب القيادي، وهذه ليست قضية رأي عام. ولكن اذا خرج أحدٌ باسم المكتب القيادي، وقال بعدم سعيهم -ليس لهذا الاتفاق- ولكن للاتفاق السياسي، تكون عندنا قضية، وهذه مسألة حزبية تُعالج حسب... - اعذرني على المقاطعة، ولكننا لا نستطيع أن نتجاوز هذا الاتفاق بعد حديث مجلس الأمن الذي خلق معضلة حقيقية؟ بالرغم من قرار مجلس الأمن، فذلك ممكنٌ حال رأيْنَا أنه الصواب، ولكن ليس علينا أن نلجأ الى القبول بأمرٍ نراه غير مقبول. يمكن التعامل مع قرار مجلس الأمن كما تم التعامل مع قرارات سابقة. ولكن أقول، من حيث مصلحتنا، وهَبْ أن القرار «2046» غير موجود أصلاً، لا بدّ أن تحل قضية هاتين المنطقتين حلاً سياسياً، بغَضّ النظر عن تعاملي مع الأفراد المتمردين، ومع قطاع الشمال، اذا رجونا ألا تكون لدينا حرب مشتعلة، وثمة خياراتٌ، بعضها عسكري، وبعضها سياسي، ولا يمكن أن نستثنى الخيار السياسي، مستحيل أن نستثنى الخيار السياسي. ولو أفنينا -ان كل ذلك هدفاً- كلَّ التمرد في المنطقتين، لا بدّ لمعالجةٍ سياسية من أن تتم. وبسببٍ من هذه المغامرة التي قام بها قطاع الشمال، وبسببٍ من الاستخفاف بأرواح المواطنين، لدينا أجزاءٌ من اتفاقٍ، هو دستور البلد، بشأن المنطقتين، ولم تُنفذ بعد. - أتعني «المشورة الشعبية»؟ نعم. لهؤلاء المواطنين حقوق. وسياسياً، لا تريد أن تقدّم مواطنيك هديةً لكل مغامر. ولا أريد أن أدخل في جدل، ولكن أنبِّه الذين يكتبون؛ ليست المسألة لعبة بين الهلال والمريخ، عليهم أن يُراعوا أن هذه أرض سودانية، وهؤلاء مواطنون سودانيون. وعندما كانت الحرب تدور في جنوب السودان كانت لحماية المواطنين الموجودين في جنوب السودان. والدخول في الحرب، خصوصاً الأهلية، ليست مسألة غالب ومغلوب، ولا هي مسألة خروج شكلي على القانون، وانما تكمن روحها في أن لهؤلاء المواطنين حقاً دستورياً، وعلى بلدهم أن يحميهم من التغوّل على حقوقهم بأي شكل من الأشكال. والثابت أنه، اذا طالت فترة عدم الوضوح هذه، بسببٍ من أن المتمرّدين ما زالوا موجودين، وان كانوا محض أسماء في المحافل، سيؤول الأمر بهؤلاء المواطنين لأن يصيروا ضحايا لهم. - هل حالة التأخّر، في انجاز حلٍّ سياسي في المنطقتين، كفيلة باشعال جنوبٍ جديدٍ، كما كان التهديد من قبل؟ انه كفيل باشعال الفوضى؛ فوضى أمنية، وسياسية، وفكرية، كما نشاهد ونقرأ، وفوضى حزبية. ونعلم أن هناك مناصرين كثراً للمؤتمر الوطني والحكومة رؤوسهم «مبلبلة»؛ لأن الأهداف الكبرى لا تُوضع أولاً، لتليها الأهداف الأخرى. ويمكن أن يختلف الناس في الوسائل، وثمة عبارة سائدة في الأدب وفي لغة الصحافة، انه حينما يقال «جنوب» فليس هو جهة جغرافية، وانما «حالة اسوأ»، وهو المعنى ذاته على مستوى العالم، اذ يُقال «going south»، فذلك يعني «حالة متدهورة،» وبهذا المعنى يمكن للجنوب أن يكون في أي «حتّة»، ولو أن هناك اضطرابات في جهةٍ ما تجعل تنميتها صعبة، وتجعل ضمّها، بصورة طبيعية وانمائية، الى الحياة السياسية، صعبة، فيمكن للجنوب أن يكون في أي «حتة»، وبدرجات متفاوتة. وهذا الادعاء عندما أطلقوه كان التحرّز منه ميسوراً، وبالرغم من هذا القول يبدو فيه شيء من الحكم القاسي على هؤلاء، الا أنهم لم يلقوا بالاً بالمرة للبشر. ومن أراد أن يخاطر بمواطنيه من أجل كسب سياسي، يجب السعى الى سد ذريعته، لاستنقاذ هؤلاء من أن يصيروا ضحايا له. واذا لم تُحسم القضية سريعاً، يمكن أن يأتي الجيل الجديد في المنطقتين بفهم مختلف للشمال والحكومة، خصوصاً عند اطلاعهم على بعض هذه الآراء، التي يُطلق بعضها بحسن نية. وأعتقد أن مَن صحوا بعد 10يناير، قبل سنتين، بدأوا في الكلام بأنه الآن لا مشكلة في أن تكون هويتنا السودانية واحدة، وهذا من أغبى ما اطّلعت عليه، اذ حاولوا أن يسحبوا هذا الكلام الى التشريع، وتحدثوا بأنه ابتداءً كان هناك تلويث لهويتنا، وأخيراً تخلّصنا منه، وبأنه كانت هناك عقبة أمام حريتنا في أن نشرِّع كما نريد، وانزاحت هذه العقبة. وكلاهما خطأ. فان كانوا يرون أن التلويث بسبب وجود عِرق معين فهذا الوجود العِرقي ما زال موجوداً في السودان كله، وهذه الخطيئة الأولى. أما في مسألة التشريع، فكأنهم كشفوا عنا قناعاً بأننا نخدم قضيتنا بالانتهازية، وذهبوا الى التهافت بأنه يمكننا الآن أن نخدم هذه القضية، مع ادانة الجهود السابقة كلها. عندما يريد أحدهم أن يتخذ من انفصال الجنوب ذريعةً ليقيم دستوراً اسلامياً، فكأنه يريد القول بأنه لم يكن هناك في السودان دستورٌ إسلامي من قبل، حين كان الجنوب لا يزال جزءاً من السودان، أما الآن، وقد ذهب الجنوب، فاننا نستطيع أخيراً اقامة دستور إسلامي!!. المسألة مسألة نِسَب، بغَضّ النظر عن ما يكمن داخل التوصيف ذاته من أمورٍ عرقية بلا شك، ودينية، وهي أمور كلها موجودة، وهذا يقود الى ذاك تحت مجهر التحليل. بالتأكيد ولم يخطر ذلك على بالهم، ولكن ان جلس شخص ليتحدث حديث مفكر مستنير، سيفضي به الأمر الى اثبات تُهم خطيرة جداً على أصحاب هذه العقلية. فالتنوع العِرقيّ ما زال موجوداً، وتعدُّد الأديان ما زال موجوداً، برغم انفصال الجنوب. والقضية في ما يتعلق بنوع التشريع، هي القضية ذاتها، فليَسعَ مَن يسعى الى أسلمة الدستور، ولكن دون استخدام تلك الحجة الواهية، التي تكشف وراءها تحليلاً خاطئاً كبيراً جداً، وسقطةً أخلاقية أكيدة. الصحافة