بسم الله الرحمن الرحيم عبدالله مكاوي علي الرغم من كمية الخسائر والطعنات التي وجهها هذا النظام القاتل الي جسم الكيان الوطني المنهك اصلا، إلا ان ضربته الأخيرة التي وجهها الي مؤسسات المجتمع المدني، آخر بقعة ضوء في ظل هذا الظلام الكاسح، والمقصود مركز الدراسات السودانية ومن بعده مركز الخاتم عدلان للإستنارة والتنمية البشرية، كانت الأوقع والأعظم أثرا، وذلك ليس بسبب ما تقوم به هذه المراكز من دور توعوي وفعل تنويري وترسيخي لقيم حقوق الإنسان والديمقراطية، الوصفة السحرية والفريضة الغائبة عن الفعالية السياسية ولاعبيها الأساسين، والعاملة بدورها علي تهذيب شراسة السلطة وأنانيتها المفرطة ونزوعها الي الهيمنة المطلقة علي الكل الوطني وإحتكارها للتفسير والمرجعيات التي تؤول في نهايتها الي مجرد مصالح ذاتية وآنية تتلون بكل التلاوين ال(دستورية/برلمانبة/إستبدادية) و محصلتها النهائية المحافظة علي الإمتيازات وتأبيدها، ولكن عمق المأساة يكمن في قدرة هذه المراكز وبالأصح القائمون علي امرها علي تحدي هذا الواقع المعاكس لبداهة الحقائق والبرهين والمهدر للكرامة الإنسانية والناشر للظلام، في الإبقاء علي شعلة الأمل بالخلاص متقدة كنيران المجوس التي لا تعرف الإنطفاء، وهو بالضبط ما يحتاجه المجتمع في هذه اللحظة التاريخية التي يلفه فيها اليأس ويحاصره الإحباط من كل إتجاه، وهو ما ظل النظام يعمل بجهد لا يعرف الكلل علي بثه عبر كل أدواته الأمنية/الإعلامية، بل حتي المنابر الدنية كالمساجد لم يتورع في توظيفها لهذه االغاية التي تكتسب عنده أهمية بقاء اوسيلة حياة. وهذا الاسلوب التقليدي الذي إستمرأه النظام في الإجهاز علي معارضيه، أي اسلوب التهم المجانية بالإرتماء في أحضان الأجنبي والمنظمات الغربية المشبوهة او الإستتباع لدول البغي والإستكبار، بعد شيطنتها وتلغيمها في وعي البسطاء ومن ثم إستخدامها كسلاح فتاك ضد المعارضين ،وهو اسلوب يخلو من الذكاء ويعتمد فقط علي إستخدام الحرية المطلقة وإالغاء حق الآخر في التعبير وتجريده من قيمته وأحقيته بالتمتع بالوطنية الكاملة والأهلية المجتمعية، خاصة عندما يكون هذا الآخر مستند علي مشاريع أكثر إرتباطا بالواقع وأقدر علي مواجهة تحديات المستقبل وتطمين الجماهير، عكس طرح النظام الفالت من اي عقلانية ويعتمد فقط علي تجيش العواطف وإستثمار الدين، مما أدي لسقوطه المدوي بعد أن أحاط به الفشل من كل الاقطار، ليتحول الي مجرد مشروع إقصائي متفرد بالنعيم لأصحابه وباعث علي الشقاء لكل الآخرين غير المنتمين لزيفه وضلاله، وتوسع بؤسه ليطال المعارضة بالتخريب والتضييق والإغراءات المسمومة بالمشاركة الملغومة في السلطة، وبالطبع تحت شروط سقفه وعيونه ورقابته أي بما لا يخل بتوازن الرعب والمال والسلطة الذي يصب في مصلحته، والمحصلة كانت إحتلال كامل للدولة الوطنية و إستيلاء علي كل مقدراتها وإمتصاص لعافيتها وعرق ودماء المجتمع، وكل ذلك بزعم بناء دولة المشروع الحضاري والإنسان الرسالي، والمقصود تبرير تجريد المجتمع من كل حقوقه وتحويله الي هامش الحياة والتاريخ، ولم يكتف هذا النظام بذلك اي سلب المجتمع حاضره وتهديد مستقبله، وانما حاول تصوير هذه الجريمة النكراء والفعلة الشنعاء كفعل يستحق عليه الثواب في الآخرة، أما في الدنيا، علي الأقل إذا لم يقم المجتمع بشكره فليس أقل من التكتم علي أسئلته وتأجيل مطالبه وتطلعاته وتعطيل عقله او ضبطه عي شوكة القدر وكله ثواب من عند الله! والنتيجة تحويل الشعب بكل قطاعاته الي مجرد متفرجين علي هذا المآل، يتغذوا علي الصبر والإنتظار في علاقة خوف وكره ونفاق متبادل بين شعب منهك ومعدم، ونظام يحاول الإبقاء علي هذا الحال لأن تغيره يعني بالضبط النهاية الفعلية لهذه الطغمة الحاكمة والمتحكمة بكل رموزها وإمتيازاتها وتراثها المسموم، وهي البداية الفعلية لتحرير الشعب من الياس لتقرير مصيره ولبناء خياراته لمستقبل أكثر رحمة وعدالة بعد هذه التضحيات الجسيمة. وبعد هذه المسيرة الحامضة والعلقم الذي تجرعه الشعب علي ايدي هذا النظام، جعل خيارت النظام السياسية معدومة في مواجهة المعارضة أومنازلتها في ساحة العمل العام بتفنيد طرحها او طرح بديل مقنع للشعب، او المزايدة علي المعارضة أخلاقياً بعد غرق مشروعهم الحضاري في مستنقع الفساد ووقوع معظم متنفذيه تحت طائلت الجرائم الإنسانية والتجاوزات الإدارية وإستغلال المناصب لأسرهم ومحاسيبهم، ويشهد بذلك التحولات المالية العجيبة التي وصلوا اليها خلال تسنمهم للمراكز القيادية في كل مؤسسات الدولة، التي اصبحت تأخذ الطابع الشخصي وتعكس الملامح الأسرية والقبلية والتنظيمية لمن يشغل قيادتها، وبالتالي أصبحت هذه الساحة ايضا مغلقة في وجههم ويستحيل إقناع أحد بالوقوف الي جانبهم فيها إلا لمستفيد بائنة مصلحته! كل ذلك دفع النظام لإختيار أسهل الطرق وهو طريق التشويه وإشانة السمعة لإثارة الغبار وحجب الرؤية عن المشاكل الفعلية التي يعاني منها النظام وتهدد تماسكه، وفي نفس الوقت محاربة نقاط الضوء أو المراكز المجتمعية الجادة التي تسعي بوسائلها السلمية والحضارية علي تحرير الواقع من القبضة الفاشستية الإنقاذية والدفع به نحو الحريات السياسية/الإجتماعية/الثقافية والأمان الاقتصادي مما يمنح الحياة معناها والإنسان جدارته وجدواه، لذلك وجود هذه المراكز سبب لهم صداع آنياً، وهي قادرة علي إنزال الهزيمة بهم وإذهاب ريحهم علي المدي الطويل، بعد أن أثبت القائمون علي امرها أنهم يتميزون بالنفس الطويل ووضوح الرؤية ويتبعون مناهج علمية في طبيعة عملها وطريقة إداراتها، إضافة الي أنهم يمثلون وجهة التاريخ الذي يدعم الإستنارة وحقوق الإنسان والديمقراطية اي أن مشروعهم بالرغم من قتامة الظروف و الصعوبات المادية ينمو بإضطراد ويقوي عوده مع مرور الأيام وكل الظروف المستقبلية تعمل علي تقويته و الأخذ بيده، بعكس المشروع الإستبدادي الكيزاني الذي يتبناه النظام اي بعد أن كان قويا ومغريا للبسطاء وأصحاب المصالح الخاصة أصبح طاردا ويفقد بريقه ويتقزم يوما بعد يوم، وبدأ الكل يفر منه ويجد لنفسه الأعذار للهروب من سفينته الموشكة علي الغرق والهلاك وهو مصيره المحتوم ولغيره لمن يعاند مسيرة التاريخ ولا يحترم عِبر الزمان ويستمع لصوت العقل وأنين الضحايا، ليصل به الضعف والهشاشة الي إستهداف حتي العمل المدني السلمي وأفراد محرومين من كل أشكال الدعم المادي والمجتمعي بل حتي ظروف الحياة والمعايش تلعب ضدهم، ولكنهم بالرغم من ذلك يسببوا للنظام الهلع والخوف ويفقدوه السيطرة والمبادرة والقدرة علي التصرف المناسب حتي تجاه المؤسسات والدساتير التي بناها بنفسه وكيَّفها لتراعي مصالحه وتحمي سلطاته، وإلا فماذا نسمي إغلاق هذه المراكز من قبل الأجهزة الأمنية إعتمادا علي تهم هوائية لا تستند علي أدلة، بل حتي في حالة توفر الأدلة فالأمر الطبيعي أن تقدم هذه الأدلة الي الأجهزة القضائية، وهي صاحبة الحق والقول الفصل في تجريم هذه المراكز او إغلاقها أو تبرئتها، لأن ذلك اولا يحفظ هيبة القضاء وما يعنيه ذلك من إطمئنان المتحاكمين لمظنة العدالة وإحترام القضاء والرضا بحكمه وثانيا إقناع الشعب بصدق الإدعاءات حتي لو كانت مفبركة وملفقة وثالثا إقدام الاجهزة الامنية علي هذا التصرف دون الرجوع للقضاء هو تبرير للبلطجة وأخذ مايراه الشخص حق عنوة ورجالة وفي هذا تقويض لفكرة الدولة نفسها ونسف لدعائم بقائها وإستقرارها، وإذا فهمنا سلوك الأجهزة الأمنية وهي تري نفسها فوق القانون بما تمتلكه من حصانه وتفسير ذاتي للقانون بحجة حماية النظام، ولكن ما لا نفهمه كيف ترضي مؤسسة القضاء أن يهمش دورها وينتقص من هيبتها وإعتبارها ملحق بالدولة يبدأ دورها بعد موافقة الأجهزة الأمنية أو بعد إعطائها الضوء الأخضر من الجهات المتنفذة، وكل هذا لا يمس هيبة القضاء فقط ولكن كل القائمون علي أمره وقدراتهم الشخصية ويتناقض مع مبدأ القضاء الذي أدوا القسم علي إحترامه والحرص عليه والسهر علي تنفيذه، وأخشي أن يكون هذا الإلتزام متوفر فقط عندما يتعلق الأمر بحماية النظام، وإلا فلماذا لم يبت القضاء في كثير من القضايا التي رفعها المحامون الديمقراطيون ضد جهات متنفذة او لرد حقوق ينص عليها الدستور حتي الآن. عودنا هذا النظام المراوغ علي الإستجابة للمقولة الرائجة، إذا أردت معرفة صحة أمر ما، فاعرف أولا موقف النظام من ذاك الامر وأتخذ موقفا عكسه، والمقصود طالما إستهدف النظمام هذه المراكز فهذا يبعث علي الإطمئنان ليس في قلوب العاملين بهذه المراكز فقط بل حتي في قلوبنا ونحن نقف بجانبهم في محنتهم/محنتنا/محنة وطن، ويؤكد أن سوء الظن بهذا النظام هو من حسن الفطن، فهذا النظام الظلامي، والظلام هنا ليس بصفة ولكنه خصيصة من خصائص او تركيبة هذا النظام القاصر والعاجز عن إنتاج مشاريع تنوية (مادية) او قيم أخلاقية (معنوية) بل حتي ما كان موجودا تم إهداره وتبديده برعونة وقصر نظر وسوء تقدير، والمؤسف ان بعض ممثليه لم يستفقوا من غيبوبتهم حتي الآن، لنستمع بدهشة وإستغراب عن إصلاح و مراجعات وتصحيح أخطاء، كأن الاخطاء هي الإستثناء مع إن العكس هو الصحيح بل هذا النظام يمثل الخطاء بعينه منذ مجيئه عبر إنقلاب وطرده للسلطة الشرعية المنتخبة من قبل الشعب مرورا بكل تقلباته وإنشقاقاته وقصره ومنشيته وجنراله وشيخه، لم يقدموا سوي الدمار لحاضره ورهن مستقبله لمخاطر جسيمة وديون عظيمة تحتاج الي جهود جبارة ورجال دولة حقيقون وتكاتف الجميع لوضعه في الطريق الصحيح وهذ او الطوفان كما يقال بحق وحقيقة! وسكة النجاة تبدأ اولاً بالخلاص من هذا الكابوس الجاثم علي صدورنا دون إحساس والاستفادة من أخطاء الماضي، ببناء نظام ديمقراطي بطريقة مبدئية من أعلي رأس الأحزاب السياسية وحتي أخمص قدمي الدولة الوطنية التشاركية مع الإحترام الكامل لدستور توافقي يعلي من قيمة الإنسان و يحرص علي الفصل بين السلطات ويؤسس لدولة القانون والمؤسسات ويحدث قطيعة نهائية مع الإنفراد بالسلطة والإنقلابت والإستبداد بكل صوره وإلا ستصبح هذه البلاد رهينة للحروبات الداخلية والتفكك والضياع وعندها فعليها السلام. في الختام التحية للقائمين علي أمر هذه المراكز وعلي راسهم الدكتور حيدر إبراهيم علي والدكتور الباقر العفيف وزملائهم وزميلاتهم ولجيع العاملين بمؤسسات المجتمع المدني الذين يؤكدون أن هذه الأمة بخير وقادرة علي النهوض من وسط هذا الرماد وأن جمر الإستنارة الحارق في ايدٍ أمينة، لذلك لأ خوف علي المستقبل في ظل وجود هولاء الرجال والنساء الأوفياء، كأنما قصدهم الراحل المقيم حميد بقوله، إرادة القمرة البتقدر براها تضوي الظلام.