لم يعد الموضوع المطروح موضوع وحدة السودان وكيفية المحافظة عليها، خصوصا بعدما باشرت الأممالمتحدة تحركا يستهدف وضع قوات فصل بين الشمال والجنوب تفاديا لحروب لا نهاية لها. كذلك، لم يعد مطروحا معارضة الحكومة السودانية لمجيء القوات الدولية التي ستشكل قوات فصل بين الشمال والجنوب. ما هو مطروح حاليا يتلخص بسؤال واحد هو الآتي: ما هي الصيغة التي تحول دون إراقة الدماء وتضمن مستقبلا افضل للسودانيين أكانوا في الشمال أو الجنوب؟ لابدّ من استخدام العقل بعيدا عن الشعارات الكبيرة من نوع المحافظة على وحدة السودان. هناك بكل بساطة رغبة لدى الجنوبيين في الانفصال نظرا إلى أنهم يشعرون بألا شيء يجمع بينهم وبين أهل الشمال وهم عرب ومسلمون، بأكثريتهم الساحقة. ربما كان الدكتور حسن الترابي أفضل من لخص المشكلة عندما حذر قبل أيام من "تمزق السودان" قائلا:" أخشى ان يحدث في السودان ما حدث في الصومال، بل أسوأ من ذلك. فالصومال شعب واحد وبلد واحد ودين واحد، لكننا أنواع". منذ استقل السودان في العام 1956، كانت سنوات طويلة من الحروب بين الشمال والجنوب. لا حاجة إلى تعداد الفوارق بين المنطقتين بمقدار ما ان هناك حاجة إلى الانطلاق من الاستفتاء المقرر إجراؤه بعد اقلّ من ثلاثة أشهر للتطلع إلى المستقبل والبحث عن صيغة تضمن مصالح الشمال مثلما تضمن مصالح الجنوب الذي لا يستطيع تصدير نفطه من دون المرور بالشمال. ما قد يكون اهم من الوحدة ايجاد مصالح مشتركة بين الشمال والجنوب والتأسيس عليها من أجل الجمع بين المنطقتين مستقبلا في اطار يمكن ان يشبه الوحدة أو الفيدرالية. فما نراه اليوم هو ان هناك بالفعل رغبة دولية بالتخلص من السودان الذي عرفناه. ثمة من يقول ان هناك مؤامرة على السودان وثمة من يقول ان هناك اسبابا حقيقية وموضوعية تجعل من المستحيل بقاء البلد موحدا. في كلّ الاحوال، يمكن لمثل هذا النوع من الجدال الاستمرار إلى ما لا نهاية ويمكن ان يفضي إلى حروب جديدة حذّر منها الرئيس أوباما بنفسه مبديا تخوفه من سقوط "ملايين القتلى" في حال تجدد القتال بين الشمال والجنوب. ما هو مثير للانتباه في السنوات الخمس الاخيرة التي بدأت بتوقيع الاتفاق بين الشمال والجنوب، وهو اتفاق أدى إلى وقف الحرب المستمرة منذ واحد وعشرين عاما والاتفاق على إعطاء الجنوبيين حق تقرير المصير في استفتاء موعده في التاسع من يناير 2011، ذلك الغياب العربي الذي يعكس رغبة في التعاطي مع الحدث بعد حصوله. لا تشبه طريقة التعاطي مع السودان في العام 2010 سوى طريقة التعاطي مع العراق في العامين 2002 و2003. في تلك المرحلة، كان الطفل يعرف ان الامريكيين سيجتاحون العراق وسيسقطون النظام. اجتمع العرب مرات عدة، آخرها في شرم الشيخ على مستوى القمة ودعوا إلى تفادي الحرب بدل البحث في ما يجب عمله، أو على الاصح في ما يمكن عمله، في ضوء الحرب الأمريكية التي كانت قدرا. الآن هناك تقسيم للسودان. لم يحسن العرب في السنوات القليلة الماضية التعاطي حتّى مع قضية دارفور. باستثناء التحركات الخجولة لجامعة الدول العربية عبر الامين العام السيد عمرو موسى الذي لا يمتلك سوى امكانات محدودة، والجهود الحثيثة التي بذلتها دولة قطر، كان هناك غياب عربي تام عن دارفور... ما يبدو السودان مقبل عليه يتجاوز قضية دارفور. ما على المحك اكبر من السودان نفسه الذي يمكن أن يصبح دولا عدة أو أن يؤدي تمزيقه إلى تفجير دول مجاورة له. لماذا، لا يكون هناك اجتماع عربي على أعلى مستوى يخصص للسودان ولمناقشة مرحلة ما بعد تقسيم السودان. لعلّ أخطر ما في دعوة الأممالمتحدة إلى ايجاد منطقة عازلة ما بين الشمال والجنوب ان التقسيم حاصل وقد صار واقعا. لم يعد السؤال مرتبطا بالمحافظة على السودان. صار السؤال ما العمل بعد تقسيم السودان لا أكثر ولا أقل ؟ في النهاية، هل العرب جدّيون أم لا ؟ هل أخذوا علما بأن الحرب التي تعرض لها العراق كانت بداية لعملية تستهدف اعادة رسم خريطة المنطقة؟ يفترض بهم ان يطرحوا مثل هذا النوع من الاسئلة على انفسهم وان يقرروا هل هناك مصالح عربية مشتركة أم لا ؟ هل هناك منظومة أمنية عربية أم لا ؟ فما يشهده السودان اليوم يتجاوز حدود البلد الاكبر مساحة في افريقيا. المطروح اعادة رسم حدود الدول في افريقيا وما لا شك فيه ان مصر معنية اكثر من غيرها بالمخاطر التي يمكن ان تنتج عن تقسيم السودان الذي يمر به النيل الذي يشكل شريان الحياة بالنسبة اليها. ربما كان ما يستطيع العرب عمله بالنسبة إلى مستقبل السودان محدودا. لكن الواجب يقتضي عقدهم اجتماعا يخصص للبحث فيما سيترتب على تقسيم البلد. ما دام ليس في استطاعتهم عمل شيء للحؤول دون ذلك، لماذا لا يفكرون في كيفية الحد من الاضرار التي يمكن ان تنجم عن مثل هذا التطور الذي يمكن ان يصب في مصلحة أهل الشمال وفي مصلحة أهل الجنوب في حال هناك من يحسن إدارة عملية التقسيم. إذا كان تقسيم السودان شرا لا بد منه، لماذا غياب التفكير في تحويل هذا الشر إلى ما يمكن الحد من الخسائر العربية بطريقة ما. بقلم : خيرالله خيرالله (كاتب لبناني ) ..