الإسلام لم يأت لإقامة دولة، والرسول محمد صلى الله عليه وآله لم يحمل هذه الرسالة ليقيم حكما، هذه هي الفكرة الأبرز التي ينافح عنها الشيخ النّيل عبد القادر أبو القرون في كتابه 'الإسلام والدولة' الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، متناولا 'بتمحيص وتدقيق بعض ماجاء في المصادر التاريخية، منتهجا في محاولته هذه ميزانا أساساه القرآن وعصمة النبي ' .و لعل ما يلفت النظر في هذا الكتاب أن الشيخ النيل يقيم محاكمة لبعض الأحاديث المنسوبة إلى الرسول معتبرا أنها تمثل اساءة ما بعدها اساءة له ولنهجه. ويهدف الكتاب من خلال هذه المقاربة للموروث إلى تحريك الركود الذي يصفه صاحب الكتاب بأنه 'مصنوع' في دعوة علمية للنقاش والتحاور بهدوء، مؤكدا أنه يقبل المراجعة والمفاكرة. والدعوة التي جاء بها النبي وغيره من الرسل قامت على 'البلاغ' ولم تتعد حدوده ' وما على الرسول إلا البلاغ'، والاعتقاد بأن الدعوة لا تقوم إلا بالسلطان هو كما يراه مؤلف الكتاب 'ضعفا في الإيمان وخلافا للنهج الإلهي..أو حبا للسلطة التي نفاها الله عن رسوله (لست عليهم بمسيطر)، أو تعصبا بجهل لإثبات التفرقة بين الرسل'. وإقامة الدولة حسب كتاب 'الإسلام والدولة' لا يدخل في كيفية هذا البلاغ، لإن الدولة تقوم على فرض سلطتها على الناس، وهو الإكراه الذي يتنافى والإسلام. ولا يجد الشيخ النيل في قوله تعالى 'ان الدين عند الله الإسلام' وقال تعالى 'ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه' نقضا لفكرته التي يدافع عنها، ويقول: معلوم أن الرسل كلهم صلوات الله عليهم- ماجاءوا من عند الله الا بالدين، اي الإسلام. فإذا كان الله سبحانه يؤكد أن الدين عند الله الاسلام، فما جاء موسى إلا بالاسلام، ولم يؤسس دولة أو حكومة، ولم يكن حاكما ولا أميرا، وعيسى عليه السلام كذلك، جاء بالاسلام مصدقا لموسى عليه السلام وكتابه وما أنزل فيه من أحكام، ولم ينشئ دولة، وما كان ملكا ولم ينصب نفسه حاكما أو أميرا، وقال 'ما لله لله وما لقيصر لقيصر'، ولم يسجل التاريخ عن دولة موسوية أو عيسوية أو دولة ابراهيمية أو دولة لوطية. وجاء محمد مصدقا 'لما بين يديه من الكتاب' أي التوراة والإنجيل وما أنزل الله..جاء خاتم النبين مصدقا لكل ماجاءت به الرسل 'ومهيمنا عليه' والهيمنه كما يشرحها الشيخ النيل لاتعني الإلغاء لما سبق من تلك الكتب والديانات، وإنما تعني التوسع والشمولية لما تضمنته، ليكون النبي الخاتم رسولا لسائر الناس السابقين واللاحقين، لأن من آمنوا بتلك الكتب السابقة قد آمنوا بما تضمنه كتاب محمد صلى الله وبارك عليه وآله،فهم مسلمون من قبل بعثته. وهذه البعثة المحمدية هدفها الأجل هو 'اتمام مكارم الأخلاق'. ونجد فكرة تبدو قريبة من الطرح الذي يقدمه الشيخ النيل عند طه عبد الرحمن في كتابه 'روح الدين' إذ يرى أن الدين المنزل دين توحيدي واحد مذ أن خلق الإنسان الأول مفطورا عليه، فقد سمى الحق سبحانه هذا الدين الواحد باسم 'الإسلام' وجعل الأنبياء والرسل والمؤمنين يشهدون على أنفسهم بأنهم مسلمون، بيد أن الوحدة الدينية لاتعني الجمود على صورة واحدة لأحكام الدين، ذلك أن منزله، تعالى، أراد أن تتخذ هذه الأحكام صورا تختلف باختلاف الأطوار التي قدر أن يقلب فيها الدين، باعثا لكل طور رسولا يذكر الناس بأول ميثاق، ويعيدهم إلى فطرتهم، مجددا ايمانهم وأحكامهم ومحييا قلوبهم وأرواحهم وهذا هو المقصد من وجود هذه الأطوار التوحيدية هو التدرج في اكمال أحكام الدين، اسباغا للنعمة على العباد، اذ يأتي كل طور توحيدي بلبنة حكمية تضاف إلى ماسبقها من لبنات الأحكام الدينية، نازلا رتبة تعلو على رتبة الطور الذي تقدمه، وهي بذلك ليست تراكما لهذه الأحكام وإنما هي تعديل وتجديد لها بما يحقق للإنسانية مزيدا من التقدم الخلقي والروحي. ويترتب على هذا أن الطور الديني الخاتم متمثلا في الإسلام بمعناه الأخص- جاء بأحكام تتسع للتقدم المعنوي الذي حققته الأطوار السابقة بأحكامها المتتالية، بل إنها ترتقي بهذا التقدم درجة لم تدركها هذه الأطوار قط. يدافع كتاب 'الاسلام والدولة' عن نهج 'انتفاء الإكراه' لأن من يكره على شيء فهو كاره له وذلك يقود إلى النفاق، وليس الدين الذي أنزله الله على عباده ب'الشيء البغيض المكروه حتى يجبر عليه الانسان أو يقاتل ويراق دمه إن لم يعتنقه ويستباح ماله وعرضه، لكنه دين جاء ليتمم مكارم الأخلاق، ولامجال فيه للإعتداء على الحريات لقوله تعالى 'إن الله لايحب المعتدين'. وهذا'النهج الرباني' الذي يتحدث عنه الشيخ النيل يصطدم مباشرة بحديث منسوب إلى الرسول صلى الله عليه وآله ' أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى'، ويتساءل مؤلف الكتاب ما إذا كان يمكننا تصديق أن يكون الرسول يقول ويفعل مايعارض ما أنزل إليه من ربه، أو يتخذ نهجا غير الذي أرسل به؟. وعليه يؤكد الشيخ النيل أنه لاتوجد حادثة واحدة أجبر فيها النبي أحدا من الناس على أن يشهد أن لا اله إلا الله وأنه رسول الله، فقد فتح النبي مكة وقال 'اذهبوا فأنتم الطلقاء' بدلا من أن يأمرهم أن يقولوا لا اله الا الله. وإن كان أٌمر بأن يقاتل الناس على الشهادتين كما جاء في 'الحديث المزعوم' فكيف لم يمتثل لأمر الله وهو رسوله الأمين الذي لا ينطق عن الهوى. إن منح الرسول لأهل مكة الحرية واطلاق سراحهم بكل كرامة، جاء تماشيا مع إرساء قواعد الإسلام وطاعة للع الذي بين بصورة 'لا لبس فيها أن الحرية مصونة في الإيمان والكفر (لكم دينكم ولي دين). ويحمل الشيخ النيل على 'الفتوحات الإسلامية' ويصفها بالإستعمار، ويرى أن الحديث المذكور وغيره لم يأتي إلا ليبرر الإكراه الذي مارسه المسلمون بعد نبيهم، وفي السياق ذاته ينفي صاحب الكتاب أن يكون الرسول 'غازيا' ويتحفظ على مسمى 'غزوات الرسول' ويفند أن كل المعارك التي خاضها جاءت للدفاع، ولم يكن في أي منها هو الغازي، كما لم تأت أي منها لفرض الإسلام، بما في ذلك معركة بدر التي فرضت على المسلمين فرضا. ومعرفة مقصد البعثة برأي الشيخ النيل ضرورة لإنهاء العصبية الدينية الموجودة اليوم والتي يعتبرها تقنينا للعداءات وتبريرا للحروب والغزو المتبادل. وتحت عنوان 'دعوة أم دولة' يعتقد مؤلف الكتاب أن المتابعة على القيام بشرائع الرسالة لا يتعدى التذكير، أما الإكراه على التنفيذ، والسيطرة على الناس تحت شعار دعوتهم إلى الله فهي أمور لم يشرعها الله 'فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ'. وقياسا على ذلك فقد أنزل الله التشريعات الإلهية ليحتكم اليها الذين يرتضونها من الناس، ولم يؤمر النبي بإنشاء دولة لرعاية تنفيذها. يجادل هذا الكتاب في عدد من الأسئلة الخلافية: ما إذا كان الإسلام دولة سياسية أم دعوة إلهية للناس كافة؟ هل يجوز إجبار الناس على الدخول في الإسلام بحد السيف، أم أن الإسلام جاء لكفالة وحماية الحريات الدينية .. وما يدافع عنه الشيخ النيل باستحكام أن القول بنشر الإسلام بالحروب دعوة باطلة لايسندها الدين لا في القرآن الكريم ولا سيرة النبي المعصوم. والكتاب في موضوعه يطرح قضية سياسية خلافية بامتياز، سال من أجلها الكثير من الحبر والدم ولم تحسم إلى اليوم، لكن طرح الشيخ النيل على هذا الصعيد يمر من خلال 'الإيمان بالرسول'، والإيمان على هذا الصعيد يقوم على القناعة بأن المتابعة على القيام بشرائع الرسالة لا تتعدى 'التذكير'، أما 'الإكراه على التنفيذ، والسيطرة على الناس من أجل دعوتهم إلى الله فهي أمور لم يشرعها الله سبحانه ولا أصل لها في رسالة محمد'، أما الحكم بما أنزل الله فلا يعني كما يقول الشيخ النيل 'الدولة أو السلطة السياسية'، بل يعني 'التعامل طواعية بما شرع الله سبحانه بين الناس، فإن لم يفعلوا خرجوا عن حكم الله، وليس لأحد الحق في التسلط عليهم بعدم التزامهم بحكم الله أي بشرعه. ويصنف الشيخ النيل الكثير مما حدث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله ب'التسلط الدنيوي'، حيث 'احتاج الحاكم لمن حوله ليجبروا الناس ويكرهوهم على مبايعته وطاعته بالسيف'، كما أن 'السلطان بمعنى الإمارة والحكم السياسي لا علاقة له بالدين، وكما قال صلى الله عليه وسلم 'إن الكتاب والسلطان سيفترقان'. وما يراه الشيخ النيل لايعني أن الإسلام لا يعترف بوجود دولة أو يرفض تكوينها، لكنه يعتقد أن الإسلام لا تمثله دوله ولا تحده حدود، والمطلوب هو دولة مواطنة غير منحازة لدين. *كاتبة وأكاديمية من الأردن القدس العربي