كشفت دارسة جديدة على جرذان أن أدمغة مَن يعانون الكآبة عاجزة عن ضبط النشاط في مناطق محدَّدة من الدماغ بسبب تعطّل نظام المكابح الفطري فيها، وقد يؤدي هذا الاكتشاف إلى أنواع جديدة من مضادات الكآبة. لا تحقق الأدوية المضادة للكآبة من نوع مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الاختيارية (SSRI)، مثل Citalopram وProzac، النتائج المرجوة في الحالات كافة، ويعجز العلم عن تفسير السبب. علاوة على ذلك، لا يعرف العلماء الكثير عن تأثير هذه الأدوية في الدماغ، فهم يملكون معرفة محدودة عن الأسباب التي تجعلنا نُصاب بالكآبة في المقام الأول. لكن دراسة جديدة بالغة الأهمية أُجريت على جرذان قدّمت للباحثين معلومات مهمة، كاشفة آليات يبدو أنها تؤدي دورًا في تطور الكآبة. يعرف العلماء أن الكآبة تعود إلى اختلال في توازن نظام النواقل العصبية في الدماغ، التي يرتكز عملها على تحسين التواصل بين خلايا الدماغ العصبية المعروفة بالعصبونات. ينشّط بعض النواقل العصبية العصبونات، في حين يعيق بعضها الآخر عملها. ويمكن مقارنة هذه النواقل بدواستَي السرعة والمكابح في السيارة، وتوازنهما يشكل نشاط العصبونات. إن كان الدماغ سليمًا، يمكنه الضغط على أي من هاتين الدواستين، حسبما تدعو الحاجة. ولكن إن كان يعاني الكآبة، تتعطل إحداهما على الأقل. وكي يستعيد المريض توازنه، من الضروري إصلاح الدواسة المتعطلة. في جامعة آرهوس في الدانمرك، أجرى فريق أبحاث دراسات على جرذان جعلوها تُصاب بالكآبة مستخدمين حيلاً عدة. من المعروف أن منطقة الحُصين (hippocampus) في الدماغ تؤدي دورًا أساسيًّا في الإصابة بالكآبة، وعندما أخرج العلماء أدمغة هذه الجرذان وتلاعبوا بعصبونات محددة فيها، اكتشفوا خللاً في الناقل العصبي GABA، الذي يساهم في ضبط التواصل بين نوعَين من الخلايا العصبية: العصبونات المتوسطة والخلايا الحبيبية. يذكر كيمو جنسن، بروفسور متخصص في الفيزيولوجيا والفيزياء الحيوية تعاون في هذه الدراسة مع مدير المشروع أوفي ويبورغ من جامعة آرهوس: «عندما تتعطل المكابح، تعمل دواسة السرعة بشكل متواصل. نتيجة لذلك، تتعرض الخلايا الحبيبية لنشاط مفرط، ويدفع فرط النشاط الخلايا إلى إفراز مادة الغلوتاميت التي تقتل العصبونات. عندما يموت جزء من خلايا الدماغ في تلك المنطقة، يبدأ الحُصين بالتقلص. وبما أن الأخير يؤدي دورًا كبيرًا في توليد المشاعر والذاكرة، نُصاب بالكآبة. فنحزن ويصعب علينا التذكّر». التواصل هو الأساس توصل العلماء إلى هذا الاكتشاف خلال تفحصهم شرائح الحُصين الرقيقة في أدمغة جرذان المختبر. وبما أن شرائح الدماغ كانت لا تزال حية، تمكن الباحثون من تحفيز الخلايا العصبية بطرق مختلفة بهدف تحديد ما إذا كانت تعمل بالشكل السليم أو أنها تعاني خللاً ما. اعتمد العلماء كوسيلة للتحفيز صدمات كهربائية صغيرة، إلا أنها قوية كفاية لتشغّل المكابح. وكما هو متوقع، تفاعلت الخلايا العصبية السليمة مع الصدمة بإفراز كميات كافية من GABA لتحدّ من النشاط الذي أثارته الصدمة. لكن الخلايا في حالة بعض الجرذان المكتئبة لم تتجاوب مع هذا الحافز. وبدا جليًّا أن تأثير المكابح كان محدودًا. يذكر ويبورغ: «أظهرت قياساتنا أن الخلايا الحبيبية في الجرذان المكتئبة ناشطة أكثر مما يجب أن تكون، ما يعني أن الخلايا في حالة الحيوانات المريضة تتواصل مع المناطق الأخرى من الدماغ أكثر مما يجب. ويؤدي فرط النشاط هذا إلى موت الخلايا، الذي يؤدي إلى الكآبة». مضادات الكآبة تصلح المكابح شعر الباحثون في البداية أنهم في وضع حرج، فلم يستطيعوا تحديد ما إذا كانت المكابح المعطلة سبب الكآبة أو أن هذه الأخيرة كانت السبب في إتلاف عصبونات GABA. ولكن بعد إجراء المزيد من التجارب، يعتقدون اليوم أن المكابح المعطلة هي على الأرجح السبب. عندما أعطوا الجرذان المكتئبة مضادات للكآبة، استعادت مكابح GABA فاعليتها في التحكم في الخلايا الحبيبية. نتيجة لذلك، عاد التواصل بين مناطق الدماغ إلى طبيعته، ومن ثم اختفت الكآبة. يذكر جنسن: «من المثير للاهتمام أن المكابح عاودت العمل عندما أعطينا الجرذان دواء Citalopram. لكن المشكلة تكمن في أن تأثير مضادات الكآبة محدود، فلم تُصلِح هذه المضادات المكابح وتقضي على الكآبة إلا في عدد محدود من الجرذان. أما البقية فظلت مريضة. ونأمل بأن تفسر الدراسات المقبلة لمَ لا تملك هذه الأدوية الفاعلية ذاتها في الحالات كافة». توقعات كبرى لنظام المكابح كانت الفكرة السائدة حتى اليوم أن الكآبة تعود إلى عدم تلقي العصبونات كميات كافية من الناقل العصبي السيروتونين، الذي يؤدي دورًا أساسيًّا في ضبط المزاج. طُوّرت مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الاختيارية (SSRI)، مثل Citalopram وProzac، بادئ الأمر لزيادة كمية السيروتونين في الدماغ. ولكن تبيّن في السنوات الأخيرة أنها لا تشفي الحالات كافة. فالإصابة بالكآبة تشمل مناطق أخرى من الدماغ وأنواعًا أخرى من النواقل العصبية. ويدعم اكتشاف الخلل في مكابح GABA هذه النظرة. يأمل الباحثون أن يتمكنوا على الأمد الطويل من فهم نظام المكابح ودواسة السرعة في الدماغ بطريقة تتيح لهم تطوير أدوية تساهم في إصلاحه، إن تعرّض لأي تلف. يبدو أن مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين الاختيارية (SSRI)، التي كانت غايتها الأساسية استهداف السيروتونين، تنجح في بعض الحالات في إصلاح مكابح GABA المعطلة، إلا أنها ليست كافيةً لأنها تساعد عددًا محدودًا من المرضى. يذكر جنسن: «هدفنا تطوير علاجات جديدة تكون بديلاً لمضادات الكآبة وتعود بالفائدة على مَن لا يتجاوبون بفاعلية مع مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين. ونجري اليوم دراسات مثيرة للاهتمام في هذا المجال». يمكن أن تستهدف هذه الأدوية دواسة السرعة أو المكابح. لكن كيمو جنسن يعتقد أن المكابح هي الأهم، بما أن تنشيط نظام السرعة يؤدي إلى إفراز الغلوتاميت، الذي يؤثر سلبًا في الخلايا. ويضيف: «أدرس نظام المكابح منذ سنوات كثيرة، وبدأنا نفهم تأثيراته الخاصة في مناطق الدماغ المختلفة. أعتقد أن هذه الاكتشافات قد تمهد الطريق أمام بعض العلاجات الجديدة والفاعلة». طوال سنوات، وُصفت المنومات لمرضى الكآبة، لكن المشكلة تكمن في أنها تجعلهم يشعرون بالنعاس وتفقدهم تركيزهم. وإذا تمكن العلماء من استهداف نظام المكابح في الدماغ بدلاً من ذلك، فقد يتعافى المريض من دون أن يعاني هذه التأثيرات الجانبية القوية. حقائق نشاط الدماغ كهربائيٌّ، ويحتاج كل عصب إلى معرفة ما إذا كان يجب أن يكون كهربائيًّا أو لا. إذا تعطلت دواسة السرعة أو المكابح في الخلايا، تتعطل هذه الأخيرة أو تعمل بإفراط. من هنا تنشأ الحاجة إلى توازن دقيق بين الاثنين. الحُصين منطقة في الدماغ تشبه حصان البحر. يملك كل إنسان اثنين من أحصنة البحر، واحد في كل فص من الدماغ. يشكّل الحُصين جزءًا من الجهاز الحوفي (limbic system) ويؤدي دورًا في ذاكرتنا وإحساسنا بالمكان. الحُصين هو المنطقة الأولى في الدماغ التي يُلاحظ فيها العلماء تغييرات عند الإصابة بالكآبة وداء ألزهايمر.