يقدّم الزعيم السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف في كتاب جديد نظرة حميمة إلى حياته في الكرملين وعلاقته بزوجته رايسا. وتبدو هذه محاولته الأخيرة لإقناع الروس بحب السيدة السوفياتية الأولى السابقة. كذلك يصف قيادة حزب يتفشى في الخداع والصراعات الداخلية. «شبيغل» تناولت الكتاب. يظهر جليًّا أن صحة ميخائيل غورباتشوف تتدهور، فقد اكتسب الوزن وبات وجهه منتفخًا. حتى إنه أمضى، كما قال، الأشهر الثمانية عشر الأخيرة «في المستشفى». خضع لخمس جراحات في غضون خمس سنوات، ويعاني اليوم حالة حادة من داء السكري. أُعلنت وفاته خطأ على موقع «تويتر» شهر مايو الماضي، فتركت مع أوجاعه بصمة واضحة عليه. أمضى ميخائيل سيرغيفيتش غورباتشوف، الذي بلغ الثانية والثمانين من عمره أخيراً، السنوات الخمس الماضية في العمل على كتاب جديد. يُترجَم العنوان الروسي الأصلي إلى «وحيد مع ذاتي» (Alone With Myself)، عنوان كئيب يصف مزاجه بدقة أكبر من النسخة الألمانية «كلٌ في أوانه»، التي تصدر خلال الشهر الجاري. هل نودّ قراءة كتاب آخر ألفه الرئيس الأول والأخير للاتحاد السوفياتي، الرئيس الذي ترك المسرح السياسي منذ نحو 21 سنة؟ سبق أن وضع غورباتشوف خمسة كتب. نُشر الأول عام 1989 وكان عن البريسترويكا، إعادة بناء الاتحاد السوفياتي، ثم ألّف كتابًا عن الوحدة الألمانية، وأصدر في عام 1995 كتابًا بعنوان «ذكريات». ألا تكفي هذه الكتب لنعرف تفاصيل حياته كافة وأوجهها؟ ألم نطلع على ما يكفي من حقائقه؟ لا، على ما يبدو. يمتاز كتاب «وحدي مع ذاتي»، الذي نشره هذا المصلح الفاشل في روسيا الخريف الماضي، بطابعه الشخصي. وقد أهداه إلى زوجته رايسا ماكسيموفنا، التي توفيت في شهر سبتمبر عام 1999. يشير غورباتشوف إلى أنها لم تمت بسبب سرطان الدم الذي أصابها، بل بسبب البريسترويكا وحزنها وإحراجها الشديدين نتيجة الطريقة التي عومل بها غورباتشوف في روسيا بعد عام 1991. يكتب زعيم الكرملين: «عاملني القدر بكرم، فمنحني فرصة نادرة». لكنه يندد أيضًا بقدره بعد عقدين على إرغامه على ترك منصبه. أحلك الأيام لم تتمتع رايسا غورباتشوفا، السيدة الأولى السابقة في الاتحاد السوفياتي، بشعبية كبيرة بين الروس. إلا أنها تشغل الجزء الأكبر من الكتاب الجديد. كان قد مرّ على زواجها بغورباتشوف نحو 46 سنة عندما توفيت رايسا، الحائزة شهادة دكتوراه في علم الاجتماع، في مستشفى جامعة مونستر في ألمانيا، قبيل خضوعها لزراعة نقي عظم. يكتب غورباتشوف: «كنا سعيدين معًا. فقد ساعدتني على تخطي أحلك الأيام». يصف غورباتشوف لقاءهما، حب رايسا للأزياء الجميلة، وعدم استعمالها أحمر الشفاه حتى بلغت الثلاثين من عمرها. كذلك يسرد قصصًا عن احتفالهما بزواجهما في مسكن للطلاب عام 1953 في ذكرى ثورة أكتوبر، عن ليلتهما الأولى معًا بعد أسبوعين من الزفاف، وعن إجهاض رايسا بعد بضعة أشهر. يكتب أيضًا عن السكتة الدماغية البسيطة التي أصابت زوجته في شبه جزيرة القرم في الأيام التي تلت انقلاب عام 1991، وعن تراجع بصرها وبداية إصابتها بالكآبة. كذلك يتحدث عن صراعها مع المرض والأيام الأخيرة التي أمضياها معًا في مونستر. يحمل الكتاب أموراً حميمة كثيرة، فهل نودّ حقًّا الاطلاع على التفاصيل؟ ولكن من المهم بالنسبة إلى غورباتشوف التوصل إلى هذه الاعترافات الداخلية العميقة، فعندما يقصده الزوار يصطحبهم في الحال لرؤية صورة زوجته. علاوة على ذلك، يساعد الكتاب القارئ على فهم ما ظنه كل روسي خلال البريسترويكا: لم تكن رايسا غورباتشوفا مجرد زوجة لزعيم الكرملين، بل تحوّلت إلى قوة محركة تخطت دورها كسيدة أولى. يذكر بعض التقارير أنها قالت لغورباتشوف في أكثر من مناسبة: «أنت محظوظ لأنك وجدتني». ولا شك في أن هذا أمر صحيح بالنسبة إلى مولود برج الحوت الذي كان دومًا منغمسًا في عالم الأحلام والخيال، بخلاف زوجته القوية، الحاسمة، والباردة على ما يبدو، التي تنتمي إلى برج الجدي. يحاول غورباتشوف راهنًا إصلاح صورة رايسا العامة. يقرّ بأنها كانت تتصرف بطريقة أرستقراطية جعلتها تبدو متكلفة في نظر البعض. لكنها كانت شخصًا منفتحًا ومثيرًا للاهتمام. يكتب غورباتشوف: «كل الكلام عن اتخاذها القرارات السياسية وممارستها الضغوط عليّ عارٍ من الصحة. ما كانت تعلم حتى طريقة عمل المكتب الحزبي، بل كانت تتأثر بما يُكتب عن هذه الأمور في الصحف. عندما كانت تتأرجح بين الحياة والموت، وعندما كنا أنا والعائلة إلى جانبها، لا بد من أن الناس فهموا أخيرًا المشاعر العميقة التي تجمعنا». صعود صعب إلى السلطة سياسياً، يقدّم «وحدي مع ذاتي» نظرة إلى الأوساط الحاكمة الأضيق خلال العقدين الأخيرين من العهد السوفياتي، وتبدو الأحداث فيها بعيدة كل البعد عن شعار «وحدة الحزب وترابطه» الذي كان يتغنى به السوفيات. بدلاً من ذلك، تفشت في مركز السلطة السياسية الحيل والاعتداءات، فضلاً عن المماحكة في شأن كل موقف. ما كان لغورباتشوف لفترة طويلة أي دخل بتلك الأمور كافة. بعد أن درس الحقوق، لم يستطع الحصول على وظيفة في مكتب المدعي العام، كما كان يخطط، بل واجه احتمال تعيينه في سيبيريا أو طاجكستان في وسط آسيا. وكي يتفادى هذه المشكلة، عاد إلى موطنه ستافروبول في منطقة القوقاز، حيث عمل بكدّ ليصعد السلم الحزبي. معروف أن غورباتشوف يدين بشهرته إلى يوري أندروبوف، الذي أصبح لاحقًّا أمين عام الحزب الشيوعي لفترة قصيرة. لكنه يكشف في الكتاب العلاقة اللصيقة التي ربطته برئيس الاستخبارات السوفياتية (KGB) هذا آنذاك وبمعلمه الثاني ديمتري أوستينوف، وزير الدفاع خلال عهد ليونيد بريجنيف وأندروبوف. آمن الرجلان بغورباتشوف الشاب وضماه في عام 1978 إلى حظوتهما بهدف موازنة سلطة المجموعة القديمة الحاكمة في الكرملين. ولا شك في أن غورباتشوف حظي بأفضل معلمين في الاتحاد السوفياتي. لكن أندروبوف أدرك مدى الحذر الذي يجب أن يتوخاه السياسي خلال عمله في موسكو المليئة بالمؤامرات بغية ضم وافد جديد مثل غورباتشوف إلى النخبة الحاكمة. حتى إنه عدل عن هذه الخطوة مرات عدة. وعندما كتب أندروبوف، الذي كان على فراش الموت، رسالة إلى اللجنة المركزية في الحزب واقترح فيها تسليم غورباتشوف الأمانة العامة في اللجنة المركزية، اختفت هذه الجملة بشكل غامض من النسخة التي أُرسلت إلى أعضاء اللجنة المركزية. كان الاتحاد السوفياتي آنذاك القوة العظمى في العالم الشيوعي. إلا أن بعض ما يدوّنه غورباتشوف يبدو أقرب إلى الملهاة المأساوية أو الدعابة. على سبيل المثال، عندما دعا غورباتشوف أندروبوف، الذي كان يملك منزلا قرب منزله، إلى غداء خاص، رفض رئيس الاستخبارات السوفياتية الدعوة. يكتب: «ما كدت أخرج من الباب مع زوجتي حتى وصل الخبر إلى ليونيد بريجنيف. وبدأ بعد ذلك الكلام الخبيث: مَن؟ أين؟ لماذا؟ وإلى أين؟». كذلك يصف غورباتشوف أن محطات التلفزة نقلت للناس عام 1985 صورة الأمين العام آنذاك قسطنطين تشرننكو، الذي كان مريضًا وفارق الحياة بعد أسبوعين، وهو يلقي بصوته في الانتخابات. إلا أن هذه المهزلة حدثت برمتها في غرفة مستشفى، وسقط خلالها تشرننكو أرضًا. لكن هذه التفاصيل حُذفت كلها من التقرير الأخباري. كشف الأسرار تناول غورباتشوف أداءه السياسي والبريسترويكا بنظرة ناقدة في الكتاب المؤلف من 600 صفحة. يكتب أنه لم يرِد ثورة، بل اعتقد أن إعادة هيكلة البلد كانت ستستغرق 25 إلى 30 سنة. إليكم مثالاً عن الحجج القديمة التي قدمها دفاعاً عن نفسه: كان زعيم الكرملين يسير على الدرب الصحيح، بيد أنه وقع ضحية الظروف. لكنه يقر بعد ذلك بارتكاب الأخطاء. فكان عليه، في رأيه، التصرف بحزم أكبر خلال استخدامه آلة الحزب، التي كانت لا تزال قوية عام 1985، كي يحقق أهدافه. كذلك يقر بأنه أخفق في استبدال الحرس القديم بسرعة كافية. ولم يكن ترؤس حزب جديد، كما نصحه كثيرون آنذاك، «مهمة سهلة». هنا نرى مجدداً غورباتشوف الميال إلى التسويات. لكنه يناقش في كتابه بصراحة متى أدرك فشل المهمة التي التزم بها. حدث ذلك عام 1986، حسبما يكتب غورباتشوف. في تلك الفترة، انخفض سعر برميل النفط إلى 10 دولارات، ما قضى على ثلثي عائدات النقد الأجنبي في البلد. ورفعت الحكومة في الوقت عينه الرواتب ومعاشات التقاعد، ثم ضاعت عائدات ضريبية كبيرة نتيجة الحملة المناهضة للكحول. يذكر غورباتشوف: «كانت هذه الطعنة الأولى في ظهري، إلا أننا لم نستطع تبديل سياستنا». يرى نقطة التحول الثانية في عملية الانتخاب الحرة الأولى في مارس عام 1989، حين مُنيت القيادة الشيوعية بخسارة كبيرة، ما دفع بخصوم غورباتشوف إلى شن هجوم مضاد. يذكر أن الحزب الشيوعي كان يجب أن يتعلم الدرس من الهزيمة ويتحول إلى القائد الأخلاقي لمجتمع متعدد. يا له من وهم! كان الحزب قد فقد مصداقيته على نحو لا يمكن إصلاحه. ونصل الآن إلى يلتسين، دومًا يلتسين. ما زال غورباتشوف عاجزًا عن تخطي واقع أنه مهد طريق موسكو أمام أمين عام الحزب هذا في سفردلوفسك، وهو الرجل نفسه الذي أطاح به عام 1991. لم يستطع تقبل فكرة حصول يلتسين على امتيازات كثيرة عندما استقال، في حين أن غورباتشوف لم يحصل إلا على معاش تقاعد يساوي دولارين من دون أي حصانة من الملاحقة القضائية. كذلك يؤكد أنه لا يفهم سبب تساهل الأميركيين مع أخطاء يلتسين، مثل قصف البرلمان عام 1993. لكنه يضمّن كتابه قصة لم يسبق أن أخبرها إلا لقليلين: حاول يلتسين الانتحار في 9 نوفمبر عام 1987 بعدما شبّه غورباتشوف بستالين أمام قيادة الحزب المجتمعة. فطردت اللجنة المركزية يلتسين، الذي كان رئيس الحزب في موسكو آنذاك، ونقلته إلى وكالة للبناء. لكنه كان إجراء موقتًا. نعرف أن يلتسين أُدخل المستشفى فجأة آنذاك، لأنه أصيب «بنوبة قلبية»، حسبما قيل. إلا أن غورباتشوف يكشف اليوم أن خصمه حاول الانتحار بواسطة مقص في مكتبه. لا يستفيض غورباتشوف في التعليق على هذه المسألة، ولكن لو نجحت محاولة انتحار يلتسين لما كانت الأمور كافة قد تبدلت ولما ظل غورباتشوف في سدة الرئاسة حتى اليوم ربما؟