ما الموقف المصري ازاء ما يحدث في السودان؟ هل ستقبل القاهرة، كما هو متوقع، بانفصال الجنوب وظهور دولة جديدة لا تعرف توجهاتها بدقة وعلى ضفاف النيل، وتخاطر بمصالحها الاستراتيجية على النهر؟ وهل تستطيع التأثير في المشهد السوداني وتقديم اقتراحات يقبلها شريكا الحكم؟ واذا لم يكن من الامر بد، فهل لدى مصر استراتيجية واضحة للتعامل مع الدولة الجديدة (المرتقبة)، والتي لم يعرف حتى اسمها، أم أن هذه القضية ستؤجل لحين اعلان الدولة اهدافها واستراتيجياتها على مختلف الاصعدة؟ صحيح أن مصر بذلت جهودا كبيرة من أجل تصحيح ما حدث. وبالفعل تم حل الكثير من مشاكل لاجئي أبناء الجنوب، وتغاضت الدولة عن طلب الكثير من الأطراف الثبوتية، والبطاقات التي يصدرها مكتب مفوضية اللاجئين، والتي تضمن مرتبات ومساعدات لهؤلاء، وقدمت لهم الكثير. ما يحدث في السودان اليوم يجد صدى مباشرا له في مصر. فعلى الرغم من انشغالات الأخيرة الدائمة بالبوابة الشرقية وأوضاعها الداخلية، فان السودان يظل حالة خاصة، وهذا ما انعكس في تطور الشهور الأخيرة، وبالذات منذ مطلع هذا العام الذي شهد كثيرا من الأحداث والاجراءات على أرض الواقع، حيث بدأت مصر تتحرك وفقا لكل السيناريوهات المتوقعة وأسوأها بالنسبة لها هو اتجاه جنوب السودان نحو الانفصال وظهور نظام سياسي لا يرتبط بعلاقة صداقة مع مصر، خصوصا أن هناك مرارة داخل عدد من كبار قادة الجنوب من المساعدات بالتنسيق مع سفارة جنوب السودان في القاهرة، التي تحولت الى مركز للتعاون المتنامي بين مصر وحكومة جنوب السودان. مشاريع دعم واحتياط وأقامت مصر مشروعات عدة في الجنوب بفضل التنسيق الجديد وفي ظل الاستعداد لسيناريو الانفصال، حيث أقامت محطة لتوليد الكهرباء وشبكات كهربائية لتوزيعها في الجنوب، بالإضافة الى ثلاث محطات توليد كهرباء وتدريب 64 كادرا سودانيا من 2006 الى 2009، بالإضافة ايضا الى انشاء ثلاثة مصانع للكابلات والمحولات وألواح التوزيع. كما تم انشاء ثلاثين بئرا جوفية وتركيب وحدات طلمبات على المجاري المائية والمساعدة على استكمال قناة جونجلي وحفر 40 بئرا للمياه وتطهير المجاري المائية بحوض بحر الغزال وانشاء المراسي النهرية ودراسات لانشاء سد «واو» على نهر سيوى، بالاضافة لاقامة معمل مركزي لتحليل نوعية المياه بحوبا، وانشاء سد «فولا 1» و«فولا 2» على الحدود الأوغندية لتوليد الكهرباء. وبالاضافة الى ذلك تم اقامة عدة مستشفيات ميدانية، ومراكز تعليمية وجملة من البرامج التدريبية في جميع المجالات لمساعدة حكومة جنوب السودان على الاستعداد لإدارة جميع المرافق، خصوصا ما يتعلق بالشؤون المصرفية والبنكية، علاوة على تدشين خط طيران مباشر بين القاهرة وجوبا، وتعددت زيارات كبار المسؤولين الى مصر للسودان، خصوصا الزيارات التي قام بها وزير الخارجية أحمد ابو الغيط ومدير المخابرات العامة الوزير عمر سليمان في اطار الجهود المصرية للبقاء على اقرب مستوى لتطورات ما يحدث في السودان وتقديم الافكار المختلفة والحيلولة دون الدخول في ازمة عنيفة بين الشمال والجنوب. الكونفدرالية هي الحل وقدمت مصر اقتراحات لطرفي الحكم بتأجيل الاستفتاء طالما لم يتم حل الكثير من المشاكل المعلقة، مثل الخلاف على منطقة «ابيي» الغنية بالنفط، وحركة النقل والبضائع والمواطنين بين الشطرين والعملات الجديدة، ومستقبل 8 قبائل عربية تضم حوالي 3 ملايين فرد، وهم تاريخيا وجغرافيا تعودوا على التنقل بين الشمال والجنوب، وهي قبائل محاربة وتملك اعدادا ضخمة من رؤوس الماشية، وهي لن تسلم ابدا ازاء اي اي طرف يحاول حرمانها من حركتها التقليدية على الحدود بين الشمال والجنوب، ومن الممكن ان تتكرر معارك دارفور في هذه المنطقة اذا تم حل مشكلة هذه القبائل العربية بالقوة. وطوال الشهور الاخيرة لم تتوقف القاهرة عن استقبال كل قادة الحركة والقوى السياسية في السودان شمالا وجنوبا، اضافة الى استمرار الاتصالات مع الرئيس السوداني، وكان آخرها الاجتماعات التي عقدت على هامش قمة {سرت} مع الرئيس حسني مبارك وتم تخصيصها لبحث ملف الاستفتاء المقبل، في ظل رفض مطلق من الجنوب التأجيل. وبالتالي اعادت مصر تقديم مقترحات أخرى تضمن انفصالا سلميا هادئا، ولكن لا يتم بشكل جذري، وانما التوصل الى اتفاق لاقامة نظام كونفدرالي بين الشمال والجنوب يضمن السيادة الكاملة للطرفين، ويبقي على امكانات للتعاون والتنسيق في مختلف المجالات. وحاولت مصر كسب دعم دولي وخاصة من جانب الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا وايطاليا لفكرة الكونفدرالية، ومخاطر الانفصال مع وجود قائمة طويلة من المشاكل الكفيلة بتفجير الوضع والعودة لحرب اهلية من جديد، مع تأكيدات مصرية عبر عنها الناطق باسم رئاسة الجمهورية السفير سليمان عواد والتي قال فيها ان ضحايا الاشتباكات القبلية منذ بداية العام وحتى الآن في منطقة «ايبيي» فاقت كل ضحايا الصراع في دارفور. واظهرت تصريحات وزير الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل قوامها وتقاربها مع الموقف المصري، حين اكد على «ان الاستفتاء على مصير جنوب السودان قد يشعل الموقف»، كما جاءت تصريحات عضو الكونغرس الأميركي والمرشح الأسبق لرئاسة الجمهورية جون كيري، حول أهمية إرجاء موعد الاستفتاء بمنزلة رسالة للإدارة الأميركية من اهمال ما يحدث في السودان، حيث تدفع الولاياتالمتحدة نحو إجراء الاستفتاء في موعده، وتقديم حوافز للجانبين لاتمام الاستفتاء. دعم العلاقات مع الشمال وإذا كانت مصر قد دعمت الى حد كبير علاقاتها بحكومة جنوب السودان، وأظهرت الكثير من نواياها الطيبة نحو إقامة علاقات تعاون مستقبلية بالمشروعات الكثيرة التي تم تنفيذ جزء لا بأس به، فإن مصر ترى- وفقا لما كتبه رئيس مجلس إدارة صحيفة {الأهرام} الدكتور عبدالمنعم سعيد- ان هناك فرصة جديدة لاجتذاب شمال السودان الذي تفوق مساحته مساحة مصر نحو مصر من جديد بعد سنوات من علاقات تراوحت ما بين التقارب والابتعاد، وان السودان في شكله الجديد سيكون في حاجة أكبر الى محيطه العربي، مع ظهور دولة في الجنوب، لا يعرف أحد توجهاتها الاستراتيجية. وقد تكون تلك فرصة لصياغة علاقة متكاملة وتعاون استراتيجي بين مصر وشمال السودان، وعندئذ يتحقيق التكامل والتقارب، حيث سيكون السودان الشمالي بحاجة للقاهرة بقدر ما ستكون الأخيرة بحاجة إلى السودان. وهذا سيناريو جديد متفائل على كل حال، في ظل قناعة كثير من القيادات السودانية وعلى رأسها رئيس حزب الأمة الصادق المهدي ان السودان سيتحول الى جبل مغناطيسي يجذب اليه جميع تناقضات المنطقة، نزاعات القرن الأفريقي وحوض النيل والشرق الأوسط، وهي نزاعات وصراعات لن يستطيع السودان شمالا وجنوبا الهرب منها. وفي ظل سيناريو جبل «المغناطيس» ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل تستطيع مصر انقاذ السودان أم تجذب مشاكل أكثر تعقيدا على بوابتها الجنوبية؟!