كيف لي بالصبر يا قبطان (موت التقى حياة لا انقطاع لها.. قد مات قوم وهم بين الناس أحياء) إذا لم يتوقف قطار المريخ الحالم في محطة القبطان فأولى به أن يخرج عن قضبان البحث والدراسة ويتخذ مكانه بين صفوف القطارات العاطلة. ولكم ان تعجبوا من هو القبطان. هو حاج حسن عثمان حاج علي من أسرة الكوارتة ومن أرباب السودان وسكان أم درمان، فهم ذروة الحسب معدن المجد، فالقبطان نافذة يطل منها القارئ على الأدب والنثر المريخي وبناياته التي تناطح سحاب الفكر وسماء البيان، فهو أسير الكلمة المريخية والأديب الأغر والشاعر الأجل. القبطان هذا العلم الهرم الذي تتكئ عليه أيادي الفخر المريخي ويتبختر بأدبه اللسان المريخي بين ساير الألسنة، فأدبه تتسع له الأحداق وتبرق بمجرد أن تقع عليه. (كيف التعزي عنك يا حاج حسن.. أم كيف لي يا حاج حسن بالصبر). إن سيرة القبطان داء للقلوب، وجلاء للألباب وان أولى ما جمعت أخبار القبطان لأنه جمع الحب والعمل وما أدهش المحبين العاملين في المريخ وأضاف الى ذلك من الزهد في المناصب والصبر ما يلح دونه أهل العزم من الملوك والزاهدين، فسيرته تقوم إلى الأمر تارة باحتذاء أثره وتارات بتنكيس رؤوس العجزة عنه. هو من أعز الله به المريخ وأعلى به شأنه والذي ما عرف المريخ رجلاً أشبه بالقبطان في شجاعته في الدفاع عن المريخ. هو القبطان البطل والرجل العظيم الذي نحث أنفسنا على التشبه به ولو بجزء يسير بما وهبه الله من صفات نبيلة وخلق كريم حتى نحوز سبق المفاخر والمحاسن ونعيد جولاته الخوالي وما ذلك على الله بعزيز. فنحن أحوج ما نكون أن نسير على دربه ونقتدي به فهو الذي وضع مقاييس الحقائق الثابتة موضع التنفيذ، وأعطى المريخ صورة مشرقة ومضى إلى ربه تاركاً خلفه أنصع الصفحات سطرها التاريخ باحرف من نور. كان قدوة في جميع أعماله بمزاياه الكريمة وسمو أخلاقه ولذلك فهو معيار الفضائل المريخية كلها والمقياس الصحيح لكل من ينشد هذه الفضائل، ولعل قليلاً من التأمل في سيرته تبعث فينا الحمية المريخية للاقتداء به لنصل بمشيئة الله الى المجد الذي حققه. كان ذو فكر صائب وخبرات حياتية لا يمكن لزاعم أياً كان أن ينكرها، فقد كان فريداً بين أقران عصره، كان تالياً للقرآن يعظمه ويتلوه حق تلاوته ويحسنه ويخشع عنده ويقيم حروفه في التلاوة وكان مصدقاً بما فيه ويقف عند أحكامه ويفهم علومه وأمثاله، يعتبر بمواعظه ويتفكر في عجائبه ويعمل بمحكمه ويبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخه ونشر علومه ومعارفه. كان يقرأ القرآن بصوت عذب جميل كأنما أوتي مزماراً من مزامير آل داؤود.. شب القبطان ودرس علوم الدين واللغة ولم يقنع بها بل دفعه نهمه العلمي أن يتزود من الثقافة وينهل من مواردها المختلفة، فأقبل على المنطق يتفهم دقائقه، وعلى الفلسفة يتعمقها وعلى العلوم الطبيعية يستوعبها ويزيد بها ثقافته ثراء وخصباً وسعة، كانت له ذاكرة تعي وبصيرة تنفذ إلى ما في الحياة من عبر ومن جوانب اختلاف أو التقاء وإلى ما يتحكم فيها من نواميس وكانت له منطقية تفصل وتنظم وتضع كل شيء في موضعه، كان عبقرياً حيث جعلت منه عبقريته مجدداً مبتكراً نابعاً في جوانب شتى من مجالات العلم والمعرفة. كان القبطان عفيف النفس، طاهر اللسان، كثير الحياء، واسع الضياء، مديم الفكر، طويل الفكر مشكور السعي بإذن الله، حلو الكلام، عالي المقام، جاد الطبع، مرهف الحس، طريف المجلس، حاضر الذهن، سباق البديهة، يعرف متى يطلق النادرة ومتى يستبقيها بجوفه، سديد الرأي، بحراً للجود. (كل أبائه كرام بني الدنيا.. لكنه كريم الكرام) بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه وتنطلق الحكمة من نواحيه، ويستوحش من الدنيا زهرتها ويستأنس من الليل وحشته وكان غرير العبرة. هذا هو القبطان الذي نمني أنفسنا على التشبه به ولو بمعشار ما وهبه الله من صفات نبيلة وخلق كريم حتى نحوز سبق المفاخر المحامد ونعيد صولاته وجولاته في فن الحياة عامة. الحديث عن القبطان أمر تستهويه النفس الكريمة التي تربت على العزة وعاشت في ظل الكرامة وماتت على حسن الخاتمة. (فيه السماحة والفصاحة والتقى.. والبأس أجمع والحجى والخير) أي دموع تلك التي نبكي بها رحيلك الحزين وأي ألم نطيق..؟ إن المآثر الكريمة مهما أراد لها صاحبها أن تظل حبيسة في صدره قابعة بين جدران قبره فلا بد لها يوماً أن تثور على الستر وتتمرد على الكتمان وتمل الصمت الموحش فتنبت على ظهر الأرض زهرات جميلات يفوح أريجها العطر ليداعب الجفن الحزينة ويريح الأنفاس اللاهثة الباكية. امتلأ قلبه الكبير بالعطف والحنان والكرم فكان يقتطع اللقمة من أفواه ابنائه ليطعم بها المحتاجين والجائعين، كانت داره العامرة ملاذاً لأصحاب الحاجة وملجأ للمساكين ومنتدى لا يفرغ ولا ينفض للأصدقاء والأعداء معاً. مضى القبطان في ذمة الله وفي رحابه إن يشاء يرحمه ولا أقول إن يشاء يعذبه فإنه لا يعذب ذا شيبة. (كنت أؤثر أن تقول رثائي.. يا منصف الموتى من الأحيائي) ربي أدعوك كما أمرتني واستجب دعائي كما وعدتني، اللهم في كرمك ما هو فوق الأمل وفي حلمك ما يسد الخلل وفي عفوك ما يمحوا الزلل.. اللهم بيّض وجه عبدك حاج حسن ويمن كتابه ويسّر حسابه وأجعل الجنة مثواه. ابنك إسماعيل عبد الله الخضر (ود تندلتي).