ربما يكون القارئ قد سمع أو قرأ عن مشروع المخطط الهيكلي لولاية الخرطوم الذي يقول المسؤولون في الولاية أنه يهدف إلى إنشاء تسع مدن جديدة غرب أمدرمان وشرق الخرطوم بحري لاستيعاب ستة مليون ساكن. وقد استوقفني الخبر المنشور في جريدة التيار عدد السبت 16 مايو 2009 حول الموضوع . فقد جاء في الجريدة أن المهندس عبد الوهاب عثمان وزير التخطيط والتنمية العمرانية بولاية الخرطوم قد أوضح أن التكلفة الكلية للمشروع يتوقع أن تصل إلى تسعة مليار (بليون) دولار أمريكي وكما يعرف القارئ فإن المليار أو البليون يساوي ألف مليون. وسوف ينفذ (1200) مشروع في إطار المخطط الهيكلي لتنمية موارد الولاية. وأرجو أن يلاحظ القارئ مسأله تنمية موارد الولاية لأنها نقطة جوهرية . وجاء في نفس الخبر الذي نشرته جريدة التيار أن البروفسور سيف الدين صالح رئيس الهيئة الاستشارية لمشروع المخطط الهيكلي قد استعرض المحاور التي يرتكز عليها المخطط موضحا أن أهمها مشروعات محور البيئة. وأرجو أن يلاحظ القارئ القول بان أهم المشروعات هي مشروعات محور البيئة. وسوف أتناول في هذا المقال أسئلة محددة حول مشروع مخطط الخرطوم وهي أولا ما هي بالضبط مقاصد ذلك المشروع وهل هي تنمية موارد الولاية كما يقول وزير التخطيط والتنمية العمرانية أو هي إصحاح البيئة كما يقول رئيس الهيئة الاستشارية للمشروع وثانياًً ما هي علاقة المشروع بالخطة القومية لتوزيع السكان بين الحضر والأرياف ؟ وكيف تخطط سلطات الولاية لبناء مدن جديدة وهي لم تعالج تردي البيئة في العاصمة الموجودة اليوم التي يجوز أن نطلق عليها بدون تحفظ عاصمة الذباب والبعوض؟ اعتقد أن هناك خلطاً كبيراً وعدم وضوح حول المقاصد الأساسية لمشروع المخطط الذي يقال أحيانا أن المراد منه إنشاء تسع مدن جديدة لاستيعاب ستة مليون ساكن ويقال أيضاً أن القصد منه تنفيذ (1200) مشروع لتعزيز موارد الولاية ويقال أيضاً أن محوره الأساسي هو البيئة. فكل من تلك المقاصد يختلف في طبيعته ومتطلباته ومخرجاته عن الآخر ومن الصعب التوفيق بينها. فمثلا إنشاء المدن الجديدة يتطلب في الأساس الاستثمار في البنيات التحتية من شوارع ومصارف ومدارس ومستشفيات وغيرها وهذه ليست مشاريع تجارية يجوز أن تعزز الموارد المالية للولاية . والقول بتنفيذ (1200) مشروع يعني أن سلطات الولاية تريد أن تصرف الأموال العامة التي تأتي من جيب دافع الضرائب تصرفها في مشاريع تجارية مثل المصانع والمزارع وغيرها . وهنا يجب ان ندق ناقوس الخطر. فقد أثبتت تجربة السودان وتجربة كل البلاد الأخرى أن مثل هذه المشاريع التي تملكها الحكومة هي أكبر باب للفساد وسرقة الأموال العامة وتبديدها والاتجاه العام في كل الدنيا وحتى السودان هو انسحاب الحكومة من النشاط التجاري وتركه للقطاع الخاص لان الشخص الذي يستثمر المال الذي يخرج من جيبه هو وليس من جيب دافع الضرائب سيكون احرص من الموظف الحكومي على استثمار ذلك المال برشد والحفاظ عليه و تنميته ولم تعد هذه المسألة مجال مغالطة خاصة بعد الانهيار الكامل للمعسكر الاشتراكي.. فلماذا يريد المسؤولون في ولاية الخرطوم إنشاء (1200) مشروع تجاري حكومي؟ وما هي تلك المشاريع وكيف سوف تختلف عن المشاريع الحكومية التجارية التي عرفها الناس في الماضي؟ ويريد المسؤولون في الولاية إنشاء مدن جديدة لاستيعاب ستة مليون مواطن إضافة إلى سكان الخرطوم الحاليين الذين تقدر الإحصائيات الرسمية عددهم بحوالي ( 5 .6 ) مليون نسمة في 2008 ويتوقع أن يرتفع عددهم إلى (9) مليون في 2018. ويبدوأن المسؤولين عن ولاية الخرطوم يخططون لان تستوعب الولاية ثلث سكان السودان. والسؤال هو: هل يتفق هذا المخطط مع أية إستراتيجية قومية لتوزيع السكان بين الأرياف والحضر ( urban areas ). فهذه المسألة تحتاج إلى إعادة نظر. ما الذي تحتاجه الخرطوم اليوم؟ قبل التفكير في إنشاء مدن جديدة يجب أن تكون الأسبقية الأولى للمسؤولين الحكوميين في ولاية الخرطوم وعلى رأسهم والي الولاية إصحاح البيئة بالقضاء على الذباب والبعوض وإزالة الأوساخ والقذارة . فان الفاقد في أرواح الناس وأيام العمل والدراسة والتكاليف المالية الناتجة عن الأمراض التي يسببها البعوض والذباب مخيف . فقد وصلت الإصابة بمرض الملاريا في ولاية الخرطوم مليون حالة في الأسبوع كما جاء في جريدة التيار عدد الخميس 21 يناير 2010 كما أن الخرطوم الحالية ببعوضها وذبابها وقذارتها لابد أن تكون مصدر حرج للسودان. فالخرطوم لا تشبه العواصم . ويكفي أن ينظر أي شخص من خلال أية فتحة من أي من المصارف المغطاة التي توجد في وسط امدرمان أو الخرطوم مثل المجرى الذي يسير بمحازاة شارع عبد المنعم في وسط الخرطوم أو شارع البوسطة في أمدرمان أو أي مجرى آخر ليرى المياه الراكدة والأوساخ والقذارة .مجاري لا تجري فيها المياه ومصارف تحبس المياه بدل أن تصرفها بل توفر غطاء يحميها من وهج الشمس ويحول دون تبخرها. وقد تحولت المجاري التي حفرت في عهد الإنقاذ لتصريف مياه الأمطار، أو كما قيل، تحولت إلى كارثة بيئية حقيقية. قد تراكمت فيها الأوساخ وتحولت إلى حابس للمياه بدل تصريفها ووفرت أفضل بيئة لتوالد البعوض والذباب (مياه راكدة تغطيها القمامة التي تمنع تعرضها للشمس وتبخرها). والطريقة التي حفرت بها تلك المجاري تثير الريبة والشكوك حول نوايا من اصدر القرار بحفرها . فهي أولا لا ضرورة لها على الإطلاق لان مياه الأمطار تجرى في كل المدن في الفراغات التي لا توجد فيها مباني وخاصة الشوارع وقد سافرت كثيرا والحمد لله ولم أر مصارف لمياه الأمطار مثل التي توجد في عاصمة السودان. وثانيا حفرت بعض المجاري بطريقة تخالف المنطق الهندسي الذي يعرفه الشخص العادي. مثلا حفر مجرى أمام مدرسة عجيب البدري الثانوية بنات بمربع (12) بالفتيحاب يمتد من الشمال إلى الجنوب آو العكس. وقد حدثني السيد/ سليمان يحيى العمدة رئيس اللجنة الشعبية للحي انه و آخرون قد اعترضوا على حفر ذلك المجرى وقالوا للمسؤولين إنهم لم يروا في حياتهم مياه الأمطار تجري في الفتيحاب من الشمال إلى الجنوب أو العكس. وقد لاحظت أن مياه الأمطار قد جرفت التربة الهشة في المجرى الذي يسير بمحازاة شارع فتاشة في امدرمان وقد تؤدي أمطار الخريف القادم إلى انهيار وسط الشارع المشيد بالأسفلت وتضيع بذلك الملايين التي أنفقت في تشييد الشارع. والسيد/ عبد الرحمن الخضر الوالي الحالي للخرطوم غير مسؤول عن حفر المجاري المغطاة او المكشوفة ولكنه مسؤول عن استمرار الوضع الحالي الذي تتطلب معالجته في تقديري: أولا: إصدار قرار بالتخلص من كل المصارف القديمة غير السالكة التي توجد في وسط كل من الخرطوم و امدرمان والخرطوم بحري بإزالة الغطاء عنها وردمها. وثانياً: اصدار قرار بالغاء كل المصارف المكشوفة ومطالبة المحليات بردمها وثالثاً: يجب بدل مناشدة المواطنين لتجفيف مكيفات الهواء يجب إصدار قانون يلزم الناس بتجفيف مكيفات الهواء في الشتاء أو تشغيلها بانتظام والتأكد من عدم توالد البعوض فيها. والنص على غرامات مالية كبيرة على من يخالف ذلك والتفتيش بانتظام للتأكد من الالتزام بالقانون. ورابعاً: من اكبر مصادر توالد البعوض في الخرطوم آبار السايفون التي حفرت بالمنازل تحت التشييد ووصلت إلى مستوى الماء ولكن لم ( تغوص) كما يقول الصناع بمعنى لم تحفر حتى تصل إلى طبقات المياه الجارية تحت الأرض. وهذه يجب أن يصدر قانون يلزم أصحابها بأن يصبوا فيها الزيوت الراجعة ويغطوها تغطية محكمة تمنع خروج البعوض منها. وان ينص القانون على غرامة مالية كبيرة على من يخالف ذلك. وخامساً: يجب التخلي عن النظام الحالي لجمع القمامة الذي يقوم على أساس وضعها أمام المنازل لتقوم القطط والكلاب وأحيانا بعض الناس بنثرها في الشوارع بدل أن تجمعها عربات النظافة التي لا تقوم بعملها بانتظام وحسب ما هو مطلوب. ويجب أن توفر الولاية براميل لتوضع فيها القمامة. وسادساً: إكثار المراحيض في الأماكن العامة وإصدار قانون ينص على عقوبات رادعة على من يتبول أو يقضي حاجته خارج المرحاض. وسابعا: توجيه الموارد البشرية والمالية إلى صحة البيئة بدل صرفها على أناس يتقاضون أجوراً عالية ولا يقومون بأي عمل يذكر. وأخيرا نأمل أن يأتي قريبا اليوم الذي يتم فيه التحقيق حول المجاري والمصارف المكشوفة ومحاسبة الشخص الذي بدد الأموال العامة فى حفرها وسبب الكارثة البيئية التي تعيشها الخرطوم اليوم.