(1) ٭ (أنا أحبكم وفخور بتركيا)، بتلك الكلمات في مطار اسطنبول أسدل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الستار على تكهنات وهواجس بأن بقايا المحاولة الانقلابية قد تعيد الكرة، وتنظم صفوفها، ولكن خلال ست ساعات انتهى كل شيء، وعادت الحياة إلى المطارات والميادين العامة وفتحت الجسور وتحركت القطارات من جديد. ٭ بعد منتصف الليل بقليل أطل الرئيس أردوغان من خلال تطبيق (Face time) وخاطب شعبه، وقال (إن الشرطة تواجه الانقلابيين وإن على الشعب التوجه إلى الميادين وإنهم قلة وسينالون عقابهم)، وللحقيقة فانني ظننت ان كل الأمور قد أفلتت من الرئيس التركي لدرجة مناشدة الشرطة لمواجهة الجيش، وتسليح الشرطة وتدريبها وقدراتها وامكانياتها لحفظ النظام العام، وليس لمواجهة الانقلابات، ولكن تفاصيل تلك الليلة كشفت وقائع جديدة وكثيرة ودروس. (2) ٭ خلال ست ساعات كان أردوغان قد خاطب شعبه ست مرات بوسائل مختلفة وفي مواقع مختلفة وبرسالة واحدة، سنقابل هذه المحاولة بحزم وعلى الشعب الخروج للميادين لحماية الديمقراطية، وخلال دقائق محدودة كانت الميادين تفيض بالجموع المتدافعة وتحاصر الدبابات في الميادين العامة ، في التفاف شعبي معبر حول الفكرة والمبدأ، لم يكن الجميع من مؤيدي حزب العدالة والتنمية، فقد ظهر قادة الأحزاب والمعارضة في دعوات ومناشدة لمقاومة المحاولة الانقلابية، لقد نجح أردوغان في تحقيق التواصل مع شعبه وأعطى رمزية لوجوده وطمأنينة، كما أنه جعل الغاية حماية الوطن والمبدأ، وذاك درس أول، لعل قوانا السياسية تتذكره وهي ترفع البندقية بديلاً للحوار، وتعتصم بالمحاججة دون المنطق، وتنحاز إلى مصالح محدودة دون الغايات الوطنية الكبرى. (3) ٭ ثم وبعد ما يقارب عشرين عاماً من آخر انقلاب في تركيا عام 7991م، مازالت الدولة العميقة تقاوم، لقد حدثت تغييرات كثيرة في العالم وخاصة القدرات التواصلية، وتعززت التجربة الديمقراطية في تركيا مع ذلك فإن هناك جيوباً مازالت بذات التفكير، والمنهج والمنطق. ٭ أعجب من ذلك، الطريقة التي عالج بها أردوغان وحزبه خيارات الدولة العميقة، وهي بناء مؤسسات جديدة وذات فعالية وتأثير وهي (الشرطة). ٭ لقد كان غريباً، على الأقل بالنسبة لي، دعوته للشرطة بالتصدي للمحاولة الانقلابية، وزالت دهشتي وأفراد الشرطة يقتادون القادة والجنود إلى سراديب الاعتقال، لقد أسهم عدم استجابة هيئة الأركان مع المحاولة الانقلابية في عزلتها، ومع قوة التدافع الشعبي وحرفية الشرطة وقوى الأمن تداعى وانهار المخطط الانقلابي بسرعة، وتبدو هذه المحاولة أكثر عتبة مهمة للحكومة التركية لاعادة بناء الجيش وفق منظومة جديدة، فقد كان الجيش التركي هو المؤسس لتركيا منذ سقوط الخلافة التركية، ولأول مرة سيطلق يد الحكومة لبناء مؤسسة الجيش وفق رؤية جديدة تتوافق ودولة مدنية. (4) ٭ وربما يرفض أي رئيس آخر مخاطبة شعبه بهذه الطريقة، (Face time) وعبر هاتف، ولكن أردوغان فعلها، وليس ذلك فحسب بل عباراته ونبراته كانت واثقة وتحدث مباشرة عن محاسبتهم، وهذه الثقة حركت الشارع وأعطت دفعة لبقية الأجهزة، ويبدو أن هناك خلية نشطة وفاعلة وأدارت الأزمة بفاعلية، ودلالة ذلك: – لم يتم اعتقال أية شخصية سياسية أو وزير سوى رئيس هيئة الأركان. – تم التركيز على تحرير وتخليص المناطق ذات التأثير مما يعبر عن وجود جهة تحدد الأولويات، ثم تحرير المطار والجسور والميادين بما يسهل الحركة ومحطة التلفزيون الرسمية، وأسقطت أول طائرة حاولت قصف محطة الأقمار الصناعية، وتم اطلاق سراح رئيس هيئة الأركان، بينما تم الالتفات إلى مقرات الوزارات وبقية المؤسسات لاحقاً. – خلال كل الخطابات فإن الأرقام المذكورة واحدة، من خلال بيان وزير العدل في البرلمان أو رئيس الأركان بالوكالة والمدعي العام ورئيس الوزراء، ولم تزد أرقام المعتقلين أو الضحايا رقماً واحداً، وكل ذلك يشير إلى ان جهة واحدة تدير الأزمة. وأفرز الحدث مظاهرة أخرى، نأتي إليها إن شاء الله.