التقيت عرضا بأحد قيادات المؤتمر الوطني الشابة أخيراً، ودار حديث كثيف حول شؤون وطن صغير يجمعنا ووشائج قربي دافئة ترحمنا، احفظ له امانة المجالس حتى بما فيها شفرة مولانا احمد هارون في علاقته بقيادات الحركة الشعبية، إلا مدحه لجريدة «الصحافة» التي اجرت معه حوار مطولا، وخاتمة حديثه الذي قال فيه «لا صوت يعلو فوق صوت الانتخابات». فطنت الى انه يقصد مقالاتي في صفحة الرأي حول دارفور، التي لم تكن تتفرج على الانتخابات، لكنها في حالة فسيفسيات السلام، وهي حالة ليست لها علاقة لا من قريب ولا بعيد بفساسي الديوك اي مؤاخرتهم، ولكنها حالة بروز لجيل قيادي جديد. هذا الجيل قوامه حركة نسائية تولدت من رحم العمل الانساني والطوعي. المرأة بدارفور تقوم بما يفترض أن يقوم به الرجال من كسب من عمل اليد، حتى يظن الناظر من بعيد انها تؤول اليها قوامة الأسرة، لكن لاحترامها وتدينها اختارت طوعا ان تكون القوامة للرجال، حيث مثلت معاني الحديث النبوي الشريف في نفسها الذي يقول «لو كنت آمر أحداً ان يسجد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها». رغم ذلك لم نسمع بامرأة واحدة على مدار التاريخ بدارفور تم اختيارها شيخاً أو عمدة ّناهيك ان تكون اميرة او ملكا او مقدونية!!!! رغم خطورة دور الادارة الاهلية في فض النزاعات، التي تسيست بتدخل الحكومة في تعيين قيادتها، مما افقدها كثيرا من قوة التأثير التي تستلزم الحياد. وباضعافها ضمرت قوتها في تحقيق السلام ورتق النسيج الاجتماعي. وشبَّ النزاع المسلح هنالك واحرق ثوب هذا النسيج الاجتماعي الدارفوري، وهُرع كثير من الناس بحثا عن ملاذ آمن فوجدوه وقتذاك في معسكرات النازحين، وتصدرت شريحة من نساء دارفور وتقدمن الصفوف في المساعدة الانسانية لهم، كيف لا واغلب المتأثرين اخواتهن من النساء أيضا. وانشأن المنظمات الوطنية الجادة منها وغير الجادة اي التي تسمي منظمات «شنطة اليد وهي تشبه شنط تمكنا التي كان يتأبطها الشبان في اول ايام ثورة الانقاذ»، فكسبن ثقة النازحين والمتأثرين. وتلقت هذه القيادات النسوية الجديدة كثيرا من التدريب الداخلي والخارجي. وعلى سبيل المثال، تلقت تدريبات من وكالات الأممالمتحدة المختلفة العاملة بالسودان منها الفاو، برنامج الاممالمتحدة الانمائي، اضافة إلى بعثة الينميد عن طريق برامجها الانسانية القصيرة المسماة ب quick impact. وخارجيا، تلقت هذه القيادات تدريبات على يد المنظمة المصرية للاغاثة والتأهيل، حيث اشتمل برنامجها على القانون الدولي العام، فض النزاعات، وقبول الآخر. وذلك بالتنسيق الكامل بواسطة الأستاذة احلام مهدي صالح مديرة منظمة احلام الخيرية، بجانب المشاركات في الورش الخارجية الكثيرة التي اتاحت لهن فرص الاحتكاك مع كثير من الناشطين في الحقل الانساني مما اكسبهن خبرات نادرا ما تتاح لهن من داخل السودان. هذه التدريبات زرعت كثيراً من القدرات في هذا الكادر الجديد الذي بدأ يلتقى قادة الحركات المسلحة خارج السودان ويدير معها الحوارات مما اكسبهن ثقتهم والتواصل معهم بعامل وشائج القربي وعاطفة النساء الجياشة، حيث انهن أعمق تأثرا بالحرب من غيرهم. وبلغ تعداد المنظمات الوطنية بدارفور 247 منظمة حسب احدث مسح قامت به الاممالمتحدة للمنظمات الوطنية بدارفور، ف 57% من هذه المنظمات تقودها نساء دارفور وكامل عضويتها ايضا من النساء. وتتوزع هذه المنظمات بين ولايات دارفور الثلاث، 104 بالشمال 80 بالجنوب و57 بغرب دارفور. وأغلب هذه المنظمات تكونت بعد عام 2003م حيث بداية انفجار الوضع الانساني هنالك. وقبل ذاك نشأت بعض المنظمات القاعدية بتأثير من مشاريع الأممالمتحدة الانمائية التي قامت في جنوب دارفور في كل عد الفرسان، شمال دارفور أم كدادة، وذلك لأن هذه المشاريع تقوم على فلسفة مشاركة المجتمع في تنفيذ برامجها عبر منظماته القاعدية هذه. وبعض هذه المنظمات القاعدية نشأت ابان كارثة نقص الغذاء هنالك التي انفجرت نتيجة للجفاف الذي ضرب الساحل الغربي في عام 1984م، والقى بظلاله على كل من دارفور وكردفان معا، وقيل ان نازحيهم اثروا في تغيير نظام نميري في عام 1985م، اضافة الى 232 منظمة مسجلة بالخرطوم، وتعمل لدارفور منطلقة من هنالك. وينحصر أغلب نشاط هذه المنظمات الخرطومية في العمل الانساني، وذلك بجلب الدعم له عن طريق الاتصال بالمانحين بجانب انشطة أخرى كالمناصرة السياسية. ونعيب على هذه المنظمات الافتقار إلى التواصل بينها، وقد يرجع ذلك الى انها صنفت نفسها، اما مع الحكومة او ضدها، كما أن بعضها يقوم على اساس اثني او جغرافي مما أطر عملها واقعد بقدرتها في التحرك. وهذا التسييس القى بظلاله على عملية الشراكة بينها والمنظمات العالمية، بحكم تأثيره على المبادئ الإنسانية من حياد وشفافية ومحاسبية. رغم أن هذه المنظمات الوطنية تفتقر الى القدرات الفنية الضرورية والامكانيات الادارية والمحاسبية الشحيحة، الا انها افرزت جيلا من القيادات السياسية الجديدة من الشباب بمعسكرات النازحين المؤثرين على ذويهم وطلائع من النساء، شريحة جديدة برزت بقوة في المسرح السياسي أخيراً بدارفور، أذكتها الثقة الذي تم بناؤها عبر السنين الطوال بالاحتكاك المباشر بين جنبات العمل الإنساني، حيث بلغ تعدادهن «24» امرأة، منهم مريم أبو حميرة رئيس مجلس امناء منظمة الرحماء التي وردت في مقالي السابق كمثال لقيمة الحياد. سألتهن، لماذ كل هذا التسييس للعمل الانساني النظيف؟ قالوا نريد ان نملك ناصية القرار السياسي حتى نوظفه لصالح العمل الإنساني، وزادوا بقولهم، الم تسمع باحزاب الخضر في اوربا التي تنادي بالحفاظ علي البيئة؟ وصلت الى دست الحكم هنالك، لكي توجه سياسة الحكم من اجل الحفاظ على البيئة. وحالهم يشبه حالة قادة كتائب الدفاع الشعبي بجنوب كردفان الذين برزوا من خلال قيادتهم لذويهم في مسارح العمليات، ومنهم محمد أبكر وتاور المأمون ومحمد آدم الشفيع وبهلول وغاليهم، حيث كسبوا ثقتهم التي اضحت كتيجان الياقوت على رؤوسهم من فرط لمعانهم وامكانية التعرف عليهم من بعيد!. حملوهم واقعدوهم بمقاعد المجلس التشريعي المنتخب الذي خيّر في اختيار واليهم فاختاروا الوالي الاسبق المرحوم، بإذن الله، بابا الله بريمة ابن البلد على دكتور حبيب مختوم «له التحية» رغم انجازاته التنموية العظيمة هنالك، حيث استفّز فوزه أحد المسؤولين، فصرخ بغير بوعي عند سماعه لنبأ الفوز بقوله «دفعنا به ليسقط يقوم يفوزّ!!!!.» ولسان حالهم يقول «تحرير لا تعمير» وهو الشعار الذي رفعه الزعيم اسماعيل الازهري في حكومته الاولى في عام 1958م، في وجه مطالب اتحادات العمال آنذاك. ومن هنا تأكد لنا ان السياسة هي أن يظهر لك الناس خلاف ما يبطنون، وهو ما يتمثله المثل القائل «السنون عضام والبطون برام» تحاكي بياض العظام في لمعانها، حيث تقوم شاهدا على صفاء النية، ولكن تضمر في بطنها أمرا مخالفا أسود يماثل سواد البرام.