كان يقدم عرضا موجزا لورقته المعنونة « مآلات انفصال جنوب السودان علي المناطق الثلاث « .. لم تكن هناك فسحة من الوقت للحوار أو التبادل أو التعارف عن قرب، بسبب كثرة الأوراق وتتالى المتحدثين في ندوة « تقرير المصير الحق والواجب « بالخرطوم .. لاحظت أن البعض ينادونه بلقب «مولانا» الذي يعنى في التقليد السوداني أنه من رجال القانون.. ورقته كانت من بين أوراق أخرى هامة أثارت الاهتمام والنقاش. وقد قام بعد ذلك بنشرها على عدة حلقات بجريدة «الصحافة» بعد أن قام بتطويرها كما ذكر، طبقا لما دار من مناقشات في قاعة الصداقة. الورقة تهدف في جوهرها إلى التحذير من نذر الحرب والصراع في مناطق جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وأبيى في حالة انفصال الجنوب، وذلك بعد أن قدم عرضا للتكوين الإثنى ونوعية العلاقات القائمة فى هذه المناطق وكيفية تحولها إلى الصراع أثناء الجولة الثالثة من الحرب الأهلية، وانحياز نسبة غالبة من السكان إلى الحركة الشعبية. وقد تناولت الورقة أيضا التعقيدات التي سوف تحيط بمسألة « المشورة الشعبية» التي تعنى لدى البعض الحصول على حق تقرير المصير، بمعنى الانضمام إلى الجنوب أو الاستقلال أو النظر في خيارات أخرى، مع الإشارة إلى استدلالات وقراءات عدة في هذا الشأن، الأمر الذي يترجم فى النهاية الكثير من المخاوف الحقيقية لدى الكاتب وهو أحد أبناء المنطقة الذين يحملون همومها، ويشفقون من المستقبل، وينادون بأنه من الممكن تجنب كل هذه الكوارث عبر العمل الجاد والحادب والمخلص، وعبر إعمال ما يسميه فقه الضرورة من اجل الحفاظ على الهدف الأسمى المتمثل في الحفاظ على حياة الإنسان وأمنه وحقه في السلام والتنمية. إطلاعي على ورقة حسين كرشوم قادني إلى متابعة العديد من أعماله وكتاباته السابقة، وقد فهمت منها أنه انتقل من العمل في سلك القضاء إلى حقل العمل الانسانى والاغاثى، وتراكم خبرات عملية ومباشرة في كثير من أصقاع السودان التي نكبتها الحروب والصراعات وجمعت إلى ذلك قسوة الطبيعة في بعض الأحيان.. فأصبح أكثرا دراية وقربا من هموم ومعاناة أهل حزام التماس الرابط بين شمال السودان وجنوبه، وليس فقط هموم وأوجاع منطقته ومرتع صباه في جبال النوبة. يقول كرشوم «إن شعب التماس هو الذي يملك قرار الوحدة وليست صناديق الاستفتاء وحدها.. التماس هذا الشريط الذي يحزم به السودان وسطه.. هو الذي تقرر فيه «83» قبيلة ترقد على خاصرته المتمددة من غرب السودان إلى شرقه.. تمكث 8 أشهر بقطعانها بالجنوب والبقية بالشمال .. الأطفال الذين لا يتصّورن انفصال أمهم عنهم، فقد ينفصل الأب عن الأم ولكن من غير المتصّور أن تنفصل الأم عن أولادها.. و كلاهما كان وقودا للحرب هنالك بين الشمال والجنوب حيث الحرب بالوكالة.. جاء وقت دفع المستحقات- ولا أقول التنمية - ولكن الاعتراف بالقضية هو في حد ذاته قضية». يقول في موضع آخر: إن غير الوحدة يعني صحو كل الحروب النائمة والخلافات المؤجلة.. والوحدة من وجهة نظره لا يقررها السياسيون أو ذوو الأغراض و الأهداف السياسية وحدهم، وإنما يقررها المواطن العادي الذي يحسب حساباته العادية مثل: ماذا يعني الانفصال لي ؟ هل هو بمثابة فرصة للحصول على وظيفة ؟ هل هو للحصول على الحرية ؟ ألست بحر الآن!.. ماذا يحقق الانفصال ؟ .. مزيد من القتال القبلي وانفراط الأمن. يقول ان نسج ثوب للوحدة يقوم كحائط صد ضد العودة إلى الصراعات الاثنية الحادة، وما يستتبع ذلك من تداعيات وتطورات، وانه من اللازم والضروري تشجيع الحركة الاجتماعية الثقافية الحرة التلقائية البعيدة عن المظلة الرسمية التي كانت تحفز مؤسسات المجتمع حتى تعبر عن نفسها بشكل واضح.. يقول أيضا أن السودان بلد مركب ثقافيا واجتماعيا، ثري بتنوعه، شامخ بقيمه وموروثاته التي بدأت تزحف نحو متاحف التاريخ بفعل مواقف القوى السياسية. يلجأ كرشوم كثيرا إلى رواية حوادث وحكايات من الواقع تعبر عن الحكمة الفطرية، وتشيد بالتفاعل السلس والايجابي بين الناس الذين إذا تركوا لطبيعتهم فإنهم يبحثون عن طرق التلاقي والامتزاج ويعبّدونها من أجل العيش المشترك ويعّبرون عن ذلك في أمثالهم وأهازيجهم وذكرياتهم التي يستخلصون منها العبر.. في هذا السياق يورد تفاصيل واحدة من تطبيقات «سياسة المناطق المقفولة « التي أتى بها المستعمر البريطاني لقطع التواصل وإقامة الحواجز، فيروى قصة مؤتمر «الكتن» في 1947م الذي نظمه المفتش البريطاني «دينج جِبرا « الذي أشُتهر بأنه كان قاسيا في إدارته.. هذه القصة أكثر تأثيرا وإيضاحا من عشرات الكتب التي تحدثت عن هذه السياسة التي وضعت بذور الصراع والحرب الأهلية.. دُعي إلى المؤتمر ناظر الحوازمة آنذاك «حماد أسوسة» ، ومك النوبة الدلنج «أمين الدردمة» ولفيف من العرب والنوبة. سأل المفتش الأمير حماد أسوسة أين تسكن الأرنب؟ رد بأنها تسكن القوز. فقال «جبرا « العرب ده الأرنب، ولازم يسكن القوز.. ممنوع عربي يسكن الجبال.. فاهم؟ . ثم التفت المفتش إلى «الأمين الدردمة» وسأله : اين يسكن الكيكو «حيوان أشبه بالفأر لكنه اكبر قليلا» ؟ قال الكيكو يسكن الجبل. قال: «خلاص النوبة ده الكيكو لازم يسكن الجبل.. فاهم؟»، وانفض المؤتمر. وكان اقصر مؤتمر على وجه الأرض!!.. ثم شرع دينق جبرا في حرق منازل العرب المقامة في اسفل الجبل، ولم تسلم منازل النوبة المقامة في القوز فقد لقيت ذات المصير. يقول الكاتب بوجدان مكلوم انه « إذا فشلت الوحدة، فلا يهم بعد ذلك ان يكون السودان ثلاث دول او اربع او تسع او لايكون البتة ، أو تتقسم اطرافه بين الدول التي تحيط به، لان الارض التي روتها دماء السودانيين من عشية الاستقلال حتي الآن من الطرفين، كانت من اجل السودان المّوحد ، ولم تكن من اجل ٍإطالة امد حكم هذا الزعيم أو ذاك أو اقامة دولة الأماتونج « .