طلب اتحاد العمال (الاسم الجديد لاتحاد العاملين) السوداني من الحكومة أن تزيد في سني التقاعد للمعاش وتجعلها خمس وستين سنة بعد أن كانت ستين سنة فقط وعلل الاتحاد ذلك بأن الستين قد أصبحت سناً مبكرة في الظروف الحالية وأن كثيراً من العاملين يكونون موفوري الصحة وقابلين للعطاء الايجابي في هذه السن. وأرى أن هذه النقطة صحيحة خاصة بعد الاستنارة الشاملة التي أثرت في السودان على طرائق التغذية وتحسن أحوال تناول الحياة مما جعل كثيراً من الناس يبدو وهو في الستين كالشّاب الذي كان في الأربعين قبل بعض العقود السالفة في السودان، خاصة وأنه منذ حوالي ثلاثين سنة (جيل) أصبح تناول الخمور في أوساط الموظفين نادراً في حين أنه كان هو القاعدة في الوقت الذي سبق ذلك. وهناك تعليل جميل آخر لزيادة مدة الإحالة للمعاش وهو أن الخدمة المدنية قد تردت وأن السودان محتاج أن تنتقل خبرات الكبار الجيدة إلى الأجيال الجديدة وأن إزالة الكبار من دست الخدمة سيحرم الخدمة من هذه الميزة. ثم يبررون تأجيل الإحالة للمعاش خمس سنوات إضافية إلى أن الخمس والستين هي السن التي يكون فيها معظم الموظفين قد أكمل تربية أصغر أولاده وأرشدهم ووضعهم في الوضع المعقول لاستقبال تكاليف الحياة مما يجعل بقاءه في البيت خسارة مقبولة ومحتملة. ولو تأملنا ما يحدث في العالم لوجدنا أن هذا اتجاه عالمي عام فالاتحاد الأوروبي قد فكر في أن تكون سن التقاعد سبعين سنة وقال بعض الأوروبيين إنها يمكن أن ترفع إلى خمس وتسعين سنة لأن معظم الناس في أوروبا يكونون في عافية تامة إلى سن الخامسة والتسعين... بل إن في بريطانيا اتجاهاً قوياً إلى إلغاء سن التقاعد نهائياً حتى لا يمنع الإنسان من العمل إلاّ عدم مقدرته عليه. لكن وكما يقول السفسطائيون فإن لكل قضية دفاع وهجوم فإن كان بعض الدفاع هو ما ذكرناه آنفاً فإن للمعترضين على زيادة سن التقاعد دفوعاتهم. إذ يرى هؤلاء أن السماح لكبار السن بالبقاء مدداً متطاولة في الخدمة المدنية قد يعوق الخدمة المدنية ويبقى فيها الروح التقليدي البطئ غير المواكب لمتطلبات العمل الحديثة خاصة وان معظم الكبار غير متصلين بمعرفة الحاسوب والعمل من خلاله. ثم إن إبعاد كبار السن مبكراً قد يفتح آفاقاًَ للشباب لتسنم هذه المواقع القيادية ويعطيهم الفرصة لاتخاذ القرار دون الوصاية والدكتاتورية من الكبار خاصة وأن بعض هؤلاء الكبار قد ظل متشبثاً بهذه المواقع لأوقات مديدة حتى كادت بعض الإدارات أن تكون كالملك الخاص لبعض الناس. كان المعاش في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي أمراً مخيفاً. لأن الخدمة كانت شيئاً حلواً لا يريد الناس مفارقته حتى إن كثيراً من الموظفين كانت إحالته للمعاش تعني تقريباً إحالته للقبر. وقليلاً قليلاً فهم الناس أن الوظيفة قيد حتى إني قد سمعت كثيراً منهم يستدل بما ينسب لعباس محمود العقاد من أن (الوظيفة هي رق القرن العشرين) وأصبح المعاش يفتح للناس آفاقاً جديدة في وظائف أخرى وتجارة وتصرّف تجعل بعضهم يندم على أي يوم أمضاه في سجن الوظيفة. قالوا إن كاتباً غربياً قد كتب كتاباً سماه (الحياة تبدأ بعد السبعين)... وقد قرأت لبعض الصالحين أنه كان على عكس من يتباكون على الشباب يقول ( لا مرحباً بالشباب ونزقه وجهله وآثامه ومرحباً بالشيخوخة أقوم مسبحاً وأتكئ حامداً وأسعى مكبراً وأضجع مستغفراً). ومن منا لا يحلم بأن يكون ذلك الشيخ (الفايق الرايق) الذي يلبس جلابيته وعمامته ويأخذ عصاه المحنوفة إلى كل عرس ومأتم وعيد ومناسبات اجتماعية أحده وجمعته وأربعاؤه سواء يمكث في أي مكان شاء أية مدة شاء لا يستوضحه أحد ولا يوبخه أحد ولا يخاف من أحد إلاّ من مولاه الذي سواه.؟