نواصل تصفحنا لكتاب «نقوش الخطى على رمال السودان- ترجمة د. موسى عبد الله حامد» وكاتبه دونالد هولي، الذي تنقل في خدمة حكومة السودان البريطانية ما بين قوة دفاع السودان والسلك الإداري ثم السلك القضائي. كانت أولى محطاته في سلك الإدارة هي كوستي حيث عمل مساعداً لمفتش المركز فيليب برودبينت، وعن تلك المدينة أي كوستي كتب يقول «قام مجلس للمدينة برئيس سوداني هو الشيخ أحمد كوكو التاجر المحلي البارز، وقد عمل معنا أول قاضٍ سوداني في ذلك الوقت هو محمد أحمد أبو رنات الذي تبوأ فيما بعد منصب رئيس القضاء، واكتسب شهرة عالمية وصار صديقاً حميماً لي. ومن بعده جاء أحمد بدري أحد أفراد الأسرة الشهيرة التي ساهمت كثيراً في تقدم السودان، فوالده هو الشيخ بابكر بدري رجل رفاعة الذي سبق زمانه بسنوات كثيرة عندما صار أول مؤسس لتعليم البنات، حين افتتح مدرسة البنات برفاعة. ولأحمد بدري شقيق آخر هو الدكتور علي بدري الذي صار أول وزير سوداني للصحة، كذلك تعرفت على قاضٍ آخر في كوستي هو أحمد خير الذي امتهن المحاماة بعد تقاعده عن العمل الحكومي، ثم صار وزيراً للخارجية في حكومة الرئيس عبود في الستينيات. كذلك كان قاضينا الشرعي آنذاك هو الشيخ علي عبد الرحمن، وهو رجل مرتفع القامة وقور يرتدي الجلابية البيضاء الطويلة والحزام الحريري وطربوشاً ناعماً مميزاً تلتف عمامة بيضاء من حوله، وصار فيما بعد وزيراً في الحكومة السودانية الأولى برئاسة الأزهري. وكنا أنا والمفتش نسكن في منزلين حديثين، ولكل من منزلينا حديقة واسعة، وبين المنزلين حمام سباحة، وذلك ترف استثنائي على مستوى المركز، وتشتمل حديقة كل منزل على ذلك الخليط الاستوائي المعهود من الورود والأزاهير والفواكه». وعلى إثر حديث تلك المنازل الفخيمة المتسعة التي يستأثر بها حتى مساعدو المفتشين من صغار الإداريين الإنجليز في معظم مدن السودان، تذكرت خطاباً نشرته إحدى الصحف قبل بضعة أسابيع، أرسله أديبنا الراحل الطيب صالح إلى شقيقه في عام 1953م من لندن عند بدايات عمله في هيئة الإذاعة البريطانية، راح يصف له فيه معالم لندن الشهيرة مثل قصر بكنجهام وأبراج لندن العتيقة، وحينما وصل إلى «10» داونج ستريت مقر رئاسة الوزراء أثارت استغرابه ضآلة المبنى، فراح يقول لشقيقه في الخطاب «عجبت لهؤلاء الإنجليز الذين يحكمون نصف العالم من هذا البيت المتواضع الصغير، والذي أرى بيتنا في شمال السودان أكثر منه وجاهة، بينما صغار موظفيهم الذين يديرون لهم المستعمرات ومن بينها مدن السودان، يسكنون بيوتاً أشبه بضياع وقصور اللوردات في اتساعها وحدائقها الوارفة..!!» «نواصل غداً»