إن الحديث العريض عن الشورى يفتقد آليات لإنفاذه في الواقع، وجاء التناول الفقهي لأهل الحل والعقد تناولاً تنقصه الدقة والتحديد، وتم قصره تاريخياً على بطانة الحاكم وعصبته. وقد جاء التوجيه القرآني واضحاً للرسول «الأسوة» باهمية وضرورة الشورى ««فشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين»» آل عمران «159» ولم يقتصر الأمر على الرسول في شخصه كقدوة، بل جعل القرآن ذلك من خصائص المجتمع المسلم «والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون» الشورى «38»، فالصلاة والزكاة «أو الانفاق» تأتيان عادة مقترنتين في نصوص القرآن، وهما ممارستان واجبتا الفعل، وهنا تأتي الشورى متوسطة لهما، فالشورى بالتالي فعل وممارسة مستمرة وواجبة بمستوى الصلاة والزكاة. والشورى في سيرة الرسول «ص» راسخة، وهي من سنته العملية التي تحوذ مكانة في الدليل أعلى من قوله وتقريره، رغم أن قوله وتقريره قد أكد مراراً وتكراراً أهمية ممارسة الشورى في الشأن العام، ولكن ما هي الآليات والهياكل التي أنفذ بها الرسول «ص» الشورى؟ اصطفى الله الني «ص» حاملاً لرسالته، ولم يكن للاختيار الانساني دور في ذلك. ولكن الرسول «ص» بوصفه قائدا لجماعة توسل إليهم بالاقتناع والرضاء والاختيار. فعندما حجرت عليه قريش حرية أن يدعو إلى ما يؤمن به، تطلع للخروج من مكة وعرض نفسه على الناس في المواسم. فمنهم من رفضه بقسوة كأهل الطائف، ومنهم اشترط أن يكون الأمر لهم من بعده «أي القيادة والإمامة» حتى جاء وفد يثرب في البيعة الأولى «بيعة النساء» ثم في البيعة الثانية وهي التزام عن طواعية واختيار لشخص الرسول «ص» قائداً. وبناءً على بيعة العقبة الثانية بدأت هجرة الأفراد، وتوجت بهجرة الرسول «ص» نفسه، وبذلك توفرت شروط الدولة من إقليم وشعب وقيادة أو «سلطة». وبيعة العقبة هي أول عقد تأسيس في الدولة. وتكونت على ضوئها هيئة مثلت أغلبية شعب الدولة، فتكون مجلس العقبة من خمسة وسبعين شخصاً مثلت فيه المرأة بمقعدين وثلاثة مقاعد للصبيان «الشباب». وأهل العقبة كانوا هم محل شورى الرسول «ص» في كل الأحداث «بدر وأحد والخندق على سبيل المثال» وكانوا هم المجلس الذي لم يبت في أمر في غيابهم ممثلين في قيادتهم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ «زعامات الخزرج والأوس» واحتفظ مجلس العقبة بأهمية تمثيلهم طوال الخلافة الراشدة، وميزهم الخليفة الثاني في العطاء «الرواتب»، وكان هذا هو المجلس الأول في الدولة. والمجلس الثاني جاء مع بدر. وبدر هي الواقعة التي مجدها القرآن في سورة الأنفال، وكانت المعركة التي ثبتت الدولة في وجه أعدائها الخارجين من قريش. كما جمعت لأول مرة القوى ذات التأثير في الدولة والمجتمع الأنصار والمهاجرين. فبالرغم من أن اغلب الأنصار هم أوس وخزرج عدا استثناءات قليلة، وأغلب المهاجرين من قريش مع بعض الاستثناءات «صهيب وبلال مثلاً»، إلا ان القرآن والرسول تخطى التسمية القبلية وهي الطابع السائد في المجتمع حينذاك. واستمرت تسميتهم بالمهاجرين والأنصار. ومثلت بدر البعد الجغرافي في تمثيل الدولة «المهاجرون من خارج المدينة» وأن موقع المعركة كانت خارج حاضرة الدولة، وتكونت هيئة بدر من «314» شخصاً. واحتفظ البدريون بأحقيتهم واسبقيتهم طوال حياة الرسول «ص» وعلى مدار الخلافة الراشدة، حتى أن علي كرم الله وجهه رفض ترشيح الثوار له بالخلافة إلا بالرجوع لأهل الشورى أو أهل الحل والعقد. وكان أهل الشورى وأهل الحل والعقد هم من ظلوا أحياءً من مجلس العقبة ومجلس بدر. وبذلك كان هيكل مؤسسات الدولة من مجلسين، مجلس سبعيني «أهل العقبة» ومجلس مئوي «أهل بدر». والمجلس السبعيني مثل أغلب شعب الدولة، وبقواه المؤثرة ذات التكوين القبلي، ولكن القوى الاجتماعية ذات التأثير اختلفت شيئاً ما في واقعنا المعاصر واتجهت للتمثيل القطاعي والفئوي. والمجلس المئوي مثل الدولة على امتدادها الجغرافي السكاني، ما لم يتم تحديد اجراءاته وضبطه «بحكم الواقع الاجتماعي والتاريخي آنذاك» هو عدم وجود دورة زمنية لكل مجلس أو وسائل ابدال واحلال لمن توفي أو استشهد أو عقد اجتماعات دورية. وهذا ما يمكننا التعارف والاتفاق عليه في أي عمل تأسيسي إجرائي. وبالطبع فإن الوسيلة التي أصبحت عرفا سائدا هي طريقة الاقتراع للمجلسين حسب الدوائر التي يتم اقرارها. وبما أن السبعينية سبقت الهيئة المئوية «مجلس بدر» فيمكن كاقتراح أولي جعل دور المجلس الأول ستة سنوات، ودورة المجلس الثاني خمس سنوات. والحدث الكبير الذي تباينت فيه الآراء بين الشيوخ والشباب وبين من حضر بدر ولم يحضرها، كان غزوة أحد في السنة الثانية من الهجرة على الأرجح. وتكون جيش أحد من حوالي ألف شخص، وقد وعد الله بالنصر في بدر بألف أو ثلاث آلاف أو خمسة آلاف من الملائكة. وعليه يمكن أن تقوم مؤتمرات كل سنتين في حاضرة الدولة، ويكون تمثيلها حسب عدد سكان الدولة ألف أو ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف شخص كعملية تدريب وتفريخ للقيادة والتعلم على ممارسة الحوار والنقاش وعرض القضايا المهمة حتى يكون هنالك وعي عام بها. ونجد في تاريخ الأنبياء التوافق مع المجلس السبعيني والمئوي، فقد أمر الله موسى باختيار سبعين رجلاً من بني اسرائيل للاعتذار لشعبه عن عبادة العجل، وفي بدر أمر الرسول «ص» بتعداد الجيش، وتفاءل بالنصر عندما وافق تعدادهم تعداد جيش طالوت الذي هزم جالوت. ٭ مركز القارئ للدراسات والنشر.