«رؤيتنا توفير إمداد مائي آمن كماً ونوعاً وكيفاً». هذه العبارة كتبت على احدى اللافتات الموجودة في استقبال هيئة مياه الخرطوم، وهذا يقودنا مباشرة إلى مقارنة المياه التي نستخدمها اليوم، ولنبدأ بالكم فهل كمية المياه التي توفرها الهيئة كافية لتغطي كل ولاية الخرطوم؟ واذا كانت كذلك ماذا تسمي الهيئة المشكلات التي حدثت في فصل الصيف والعطش الذي ضرب اطراف الولاية وأواسطها. أما عن النوعية فتتمثل في مياه الشرب في الايام الماضية وهذه الايام، فهي خير جواب، والكيفية يبدو انها الاكثر حضوراً بين الثلاثة اهداف التي تتحدث عنها الهيئة. وتذمر المواطنون من الماء العكر الذي يستخدمونه وهم في حالة اشمئزاز تام منه، فهو لا يصلح، ولكن رغم ذلك فهم مضطرون للتعامل معه، فليس هناك خيار، هذا جانب، والجدل الذي يدور حول المواد المستخدمة في تنقية المياه بدأ منذ وقت طويل، حيث تستخدم مادة البولمر في المرحلة الاولى ويستخدم الكلور بعد ذلك للتخلص من الميكروبات والجراثيم الموجودة في المياه. ومادة البولمير أو «البولي دادماك» التي اعلنت الهيئة عن وصول كميات وافرة منها خلال الايام المقبلة، وتستخدم في تنقية المياه، دارت حولها خلافات علمية حول استخدامها ومردوداته، فهي تستخدم في تنقية المياه وازالة العكورة في فصل الدميرة، وهي احد مشتقات البولمير، وقد قوبل استخدام البولي دادماك في تنقية مياه الشرب برفض الكثير من العلماء والجهات البحثية في اعقاب بروز آثار صحية لاستخدامه مثل الفشل الكلوي، كما أن معالجة حبيبات البولمير بعد استخداماته تتطلب تقنيات خاصة. ويذهب معارضو استخدام البولمير الى ان استخدامه لم يرد في دستور الاغذية العالمي الخاص بمنظمة الصحة العالمية. ويذهب مؤيدو استخداماته إلى ان انواع البولمير كثيرة جداً، وما يستخدم منها في معالجة المياه وتحديداً في تكيف أو تطهير المياه أو في ما يسمى بالمعالجة الاولية في محطات التحلية له هدف واحد هو التخثير، أي ان تتجمع الشوائب والعوالق الموجودة بالماء الخام حتى تصبح ذات حجم كبير يسهل التخلص منها عن طريق الترشيح الرملي، وليست لها أي تأثير سيئ على الصحة، اذ يتم التخلص منها كلياً بالترشيح. ومن خلال المشكلات التي تعانيها المياه في الشبكات وقلة الامداد في بعض المناطق، يتجلى فشل هيئة مياه ولاية الخرطوم في توفير امداد مائي آمن كما مكتوب على أول لافتة في الباب، فقد أنشأت الهيئة محطة المنارة ولازال اهل الثورات عطشى، وتم انشاء مصنع الوسام للمواسير ولا تزال المشكلات قائمة في خطوط النقل وشبكات التوصيل، وهناك مناطق طرفية تعاني من انعدام المياه، ومناطق وسطية لا تصل إليها إلا عن طريق الموتورات، وفي الثلاثة أشهر الماضية حدث تلوث في مياه الشرب، وأدى إلى اصابة مجموعات كبيرة من المواطنين بالاسهالات إلى حد اكتظاظ المستشفيات وانعدام المضادات الحيوية بسبب كثرة الاصابات. ولا يمر وقت طويل على تجاوز مشكلة حتى تبرز أخرى، فإلى متى يستمر هذا الفشل؟ وإلى متى يظل المواطنون يدفعون ثمن اخفاقات الهيئة؟ وتوجهت إلى الشارع ووجهت بعض الاسئلة لمجموعة من المواطنين عن مدى رضائهم عن الامداد المائي من كل النواحي، فتباينت وجهات النظر، حيث قال سيد أحمد عمر إن الامداد المائي لا بأس به في منطقة وسط الخرطوم حيث يسكن، ولكن العكورة التي تطغى على المياه هذه الايام ادت إلى عدم اطمئنانه لاستخدامها في الشرب وفي الاحتياجات اليومية من استحمام وغيره، وقال في بعض الاحيان نضطر إلى غليها حتى نتمكن من استخدامها. ومضى في حديثه الى ان رسوم المياه تحصل بانتظام ولا يسمح لأحد بالتأخر في سدادها، وهي تتراوح ما بين «16 22» جنيها سودانيا شهرياً، مشيراً إلى غلاظة مناديب التحصيل وانهم لا يمهلون الشخص كثيراً ولا يتهاونون في الرسوم، فأين تذهب هذه الاموال ولا نراها تنعكس على خدمات المياه؟ فيما قال بابكر عوض الكريم الذي يسكن منطقة الخرطومجنوب، ان الامداد المائي عندهم في منطقة السلمة والازهري ضعيف ويحتاج لمزيد من الجهد من الهيئة، وهم يحلمون فقط بأن يصلهم امداد مائي مستقر كمرحلة أولى، ومن ثم يفكرون في لونها وطعمها. واضاف ان الوضع هذا غير مقبول. وقالت احدى المواطنات تسكن بالازهري مربع «9» إنه ليست لديهم خطوط مياه في منطقتهم، وعندما فكروا في ذلك طلبت منهم الهيئة ان يقوموا ب «رمي الخط» وعندما يأتي جيرانهم ويستقرون يدفعون لهم خسائرهم، مع العلم ان المستقرين اثنان فقط، وتكلفة الخط لا تقل عن خمسة آلاف جنيه سوداني، فكيف لهم ان يدفعوها؟ وما الذي يضمن لهم ان جيرانهم عندما يسكنون سيدفعون لهم؟ ولماذا لا تقسط الهيئة رسوم الخط؟ ومن ثم تقوم بخصمه منهم على أقساط، أليس هذا أضمن؟ ولا بد أن يكون الماء نقياً لكي يصلح لجميع الاستخدامات. وهذا مما لا شك فيه، وفي هذا الجانب يقول دكتور خليفة يوسف أستاذ الطب بجامعة الزعيم الازهري، من الضروري ان يكون الماء خاليا من الاوساخ والميكروبات والفيروسات والفطريات، والماء الصالح للشرب لديه مواصفات فيزيائية وكيمائية، والمواصفات الفيزيائية تنحصر في اللون والطعم والرائحة ونسبة السيولة، أما الكيمائية فهي التي يعتمد عليها نقاء الماء أو تلوثه، وتحتوي على نسبة محددة من العناصر المهمة لجسم الانسان من الصوديوم والكالسيوم والمنجنيز والنحاس والكلور ومعادن أخرى بنسب ضئيلة، وهذه العناصر توضع بنسب محددة تتناسب وتركيبة جسم الانسان وحاجته لها، واذا زادت هذه النسب تسبب مشكلات وتؤثر على صحة الانسان، واذا قلت كذلك لا تخلو من الضرر، ولا بد من التركيز على وضع هذه المواد حتى لا نفقدها أو نزيد منها، فهذا ضروري جداً ولا يحتمل الاستهتار. ويمضي في حديثه قائلاً ان أخطر شيء عندنا في السودان هو تلوث المياه بالاوساخ والميكروبات، ويمكن ان يكون التلوث نتيجة لبعض النواقل والزواحف الموجودة في المياه، وقد تتسبب في نقل الامراض بواسطة الماء، وايضاً الماء الموجود على الخضروات، ونسبة 80% من الامراض الفتاكة في الدول النامية ونحن من بينها تنتقل بواسطة الماء، ونتفادى هذا التلوث بالفلترة على مستوى المحطات وعلى مستوى البيوت، واستخدام المرشحات التي تختلف من نوع إلى آخر، فبعضها يمكن ان يزيل العوالق كلياً تقريباً أو نسب عالية من البكتريا، وبعضها يزيلها بنسبة 100%، وهناك نوع منها لضبط المعادن وتعمل على تعقيم المياه من الشوائب، وبعض المواطنين ليست لديه امكانية لشراء مرشحات أو فلترات، ومن الممكن ان نلجأ إلى الطريقة التقليدية والغربال والرمل، فهي تزيل كمية من الاوساخ، والغليان الذي نستخدمه في معظم الاوقات لا يزيل العوالق ولكنه يقتل الميكروبات. ولا اقصد مياه الشرب فقط وانما الطبخ وغسل الاواني والحمام. وأهم من ذلك غسل الفواكه والخضروات. ويحذر دكتور خليفة من ان هناك بعض المرشحات الصناعية بها مخاطر، ومن الممكن ان يتسبب استخدامها في الاصابة بالسرطانات في الاجنة، وهذه مسؤولية الدولة بأن توفر المرشحات التي ليست لديها اضرار صحية على المواطنين، وقال ان الدهانات التي تطلى بها الخزانات سواء أكانت من المحطات أو داخل المخازن، فهناك مواصفات معينة لها، وهي غالية الثمن ويتهرب الكثيرون منها. وخطورة الدهانات المستخدمة تكمن في انها تحتوي على مواد سامة مثل مادة «الكادمير» التي اذا ابتلعها الانسان تظل باقية في جسمه ما بين 16 33 عاما، واظن ان المواد المستخدمة هنا سواء مادة البولمر أو الكلور فإن هيئة المواصفات تضع لها مواصفة معينة مجازة عالمياً، وليست كلها، ولا يكون لها اثر يذكر على صحة الانسان. وذهبت إلى مقر الهيئة للوصول إلى رؤية واضحة حول ما يحدث في المياه هذه الايام، وإلى متى يستمر الحال؟ وما هي المسببات؟ وعزت الهيئة المشكلات في المياه إلى ارتفاع مناسيب النيل بصورة غير مسبوقة، مما أدى إلى ازدياد العكارة، ومواد التنقية تضاف بكميات معينة، كما ان الطلمبات التي تشفط المياه غطست داخل المياه، مما يضطرهم إلى رفع المنصات، وذلك بدوره يقوم بتعطيل المحطة فترة ساعة أو ساعتين، ويؤدي إلى تقليل الكمية المنتجة، ولكن مقابل ذلك سعت الهيئة إلى تشغيل الآبار لسد الفجوة. وأوضحت الهيئة أن انسياب المياه عاد إلى المناطق المتأثرة، وربطت هيئة مياه الخرطوم تحسن اوضاع المياه بانخفاض مناسيب النيل. الجدير بالذكر أنه في اثناء نقاشنا في مكتب اعلام الهيئة، طلبت منهم ان يخبروني بالضبط بنسبة الكلور التي تضاف إلى المياه لتعقيمها من الشوائب، فتم الاتصال فوراً بمديرة ادارة المعامل ليحصلوا على المعلومة من اصحاب الشأن، فإذا بها لا تدري، وطلبت منهم الاتصال بالمعمل، فهل يتوقع المواطنون ان ينعموا بإمداد مائي آمن كماً ونوعاً وكيفاً؟ اذا كانت مديرة ادارة المعامل غير متأكدة من كمية الكلور التي تضف إلى المياه؟ وكشف تقرير لمعمل استاك أن المياه غير صالحة للشرب، وتسبب بعض امراض المعدة والسرطانات ولا تحتوي على بكتريا، فيما ذكرت هيئة مياه ولاية الخرطوم أن كميات الطمي والمواد العالقة فاقت معدلات الاعوام الماضية، اذ وصلت الى «33» وحدة ضوئية، والطاقة التصميمية للمحطات النيلية لخفض نسبة العكورة 8 وحدات ضوئية، مما أحدث فارقا وادي الى ان تكون المياه عكرة. وأوضحت الهيئة أن ما جاء في تقرير معمل استاك لا يعني ان المياه غير صالحة للشرب، وذلك وفق ما جاء في التقرير ذاته، وقالت ان النتيجة الافتراضية اثبتت ان الاختيار سالب، ولا يمكن قول كلمة تلوث الا بعد فحص العينة وطريقة العمل والادوات المستخدمة لأخذها. وأشارت الى ان المياه المنتجة في المحطات النيلية والجوفية غير مخالفة للمواصفات العالمية، بالاضافة الى ان منظمة الصحة العالمية والمواصفات السودانية ذكرت أن 95% من العينات المحللة يجب ان تكون خالية من البكتريا. وذكرت الهيئة انها تعمل وفق المواصفات العالمية والمحلية، فهل كمية الكلور التي تضيفها الهيئة في محطات الشرب مطابقة؟ وأخبرنا مصدر موثوق به من داخل هيئة مياه الخرطوم، بأن كمية الكلور التي اجازتها منظمة الصحة العالمية لتضاف لتنقية مياه الشرب هي كيلو جرام لكل متر مكعب، ولكن الهيئة لا تلتزم بهذه الكمية، حيث تتم اضافة ما بين كيلو ونصف الى «2» كيلوجرام للمتر المكعب، فأين الالتزام؟ والمبرر أن نسبة التلوث عالية في المياه. وبعد أن بررت هيئة مياه ولاية الخرطوم عدم قدرتها على توفير نوعية جيدة من المياه بارتفاع مناسيب النيل، فماذا يحدث إن لم تنخفض مناسيب النيل؟ واذا ازدادت هل نتوقع ان يشرب المواطنون الطمي والطين؟ فعندما ترتفع مناسيب النيل تقول الهيئة إن الطلمبات غطست، وعندما ينحسر النيل تقول إن النيل قد انحسر وقلت المياه، فإلى متى تظل الهيئة تبرر؟