صدر ضمن سلسلة كتاب «دبي الثقافية» كتاب «نحو وعي ثقافي جديد» للدكتور عبد السلام المسدي، ويقع الكتاب في «202» صفحة، وقد اهدى المسدي كتابه الى كل سياسي عربي آمن بحرية الفكر وصبر على امتحانها. ورغم ان د. المسدي كان وزيرا للتعليم العالي والبحث العلمي في تونس ثم سفيرا لبلاده في الجامعة العربية وفي المملكة العربية السعودية، الا انه بالاساس استاذ للسانيات في الجامعة التونسية، وعضو مجامع اللغة العربية في تونس وطرابلس ودمشق وبغداد، الا ان السياسة لم تأخذه بعيدا عن مجاله، ولعل هذا ما دفعه الى تنبيه المثقفين في الاقطار العربية من افراد النخبة بقوله في تمهيد الكتاب: (لتعلم معي منذ البدء ان الثقافة امر جليل، بل لولا خشية المظنات واتقاء انفلات التأويل لقلنا إن الثقافة اجل من ان تترك بيد السياسيين، فلا يعجب، والسبب في ذلك أن رجال السياسة يضعون الزمن الجماعي على مرآة زمنهم الفردي، أما رجال الفكر فينحتون زمنهم الفردي على مقاس الزمن الجماعي وحتى الذين يرتقون إلى سدة القرار من بين المثقفين والمفكرين فقلما تراهم في وطننا العربي يصمدون امام اغراءات المناصب، ويدفعهم حرصهم ذلك إلى التنازل تدريجيا عن مبادئهم، وبدلاً من أن يعتبروا أنفسهم ضيوفا على العمل السياسي، نراهم يخلعون أرديتهم الفكرية ليلبسوا جلابيب المهابة الطارئة، فاذا تخلت عنهم السياسة ألفوا انفسهم غرباء على حقول الفكر والثقافة. وكتب التاريخ على العرب ان يكونوا من الشعوب التي اناخ الاستعمار على مصائرها دهرا، ولكنهم كانوا في طليعة البلدان التي استماتت في معاركها التحريرية، حتى نالت استقلالها، وبعد توالي العقود ها هم العرب يبسطون على الفكر الإنساني النقدي حالة مستعصية، فهناك مأزق في صيرورتهم التاريخية، هناك حجم هائل من التناقضات بين العديد من مكونات الوجود الجماعي لديهم، وليس هذا من الكلام الجزاف، ليس هو من المزايدة بالخطاب لأنه لا يروم الاثارة، ولكن (الكلام) هو نفسه اصبح يطرح في واقعنا العربي المتدحرج أزمة حادة بين دلالاته في ذاته وما هو دال عليه خارج سياسة اللفظ بين بنية المفاهيم ومشكلات السياق المتنزلة فيه. لكأن ما يتحدث عنه فلاسفة السياسة وفقهاء الفلسفة فيسمونه بالعطالة التاريخية لم يصدق يوما كما يصدق على امة العرب منذ نصف قرن، والعجيب أن عجلة التاريخ كانت تدور على منوالها حتى في الحقبة الاستعمارية، ولكنها انحشرت شيئا فشيئا في مأزق خلال هذه العقود التي هي عمر دولة الاستقلال في جل اوطاننا، هذه العطالة المولدة للدهشة والباعثة على الحيرة الفكرية هي شبيهة بما يصيب الآلة في مجال الظواهر المادية، وذلك حين يتوقف جهاز الحاسوب، ولا شيء يبدو مسببا لعطب، وكم من حالة حصلت فلا يجد المهندس الفني من قول يقوله لك وانت تستنجد به، ان علم الحاسوب ليس من العلوم الصحيحة صحة تامة كالرياضيات. هي هذه العطالة المحفوفة بالعبث الوجودي الذي يسافر على الأرض الغريبة إلى تخوم اللا معقول نقرأها على شاشة السياسة، إذ يتعجب: لماذا لم تنجز دولة الاستقلال وعدها الأكبر وهو تحرير الكائن العربي من لحظة الخوف وبرهة الارتجاف، ولولا محاذير سوء الظن مرة أخرى ومتاهات التأويل لذهب البعض - وهو يقارن اليوم بالامس - الى القول الارتجاف هو هو وقد يكون الآن اكبر، ونقرأها على لوحة الاقتصاد فالارض العربية بينٌ ما عليها وما في بواطنها، ملأى بالثروات الطبيعية، ولكن العطالة جاثمة، فالعرب ينوسون بين الخصاصة والثراء، وبعض الأغنياء تراهم مسلوبي الإرادة في ما يملكون حين يودعون ما يملكون في خزائن المصارف الدولية المقامرة. ولكن العطالة تقرأها ايضا في اليمشهد الفكري بين الثقافة والمعرفة، وليست حالة الأمية بعد كل هذه العقود من الاستقلال، الا شاهدا من بين الشواهد العديدة والمتنوعة، ويكفي لو أردنا اختزال الظواهر الكبرى من ملامحها البادية، أن نرى الجهد الاعظم لدى النخبة كيف يصرفونه في البحث عن الوسائل والمنهج والمسالك قبل ان يلجوا الى جوهر القضايا ومضامينها، ناهيك عن أن ثنائية الماضي والحاضر لم تحسم بعد لدى فئات عديدة من النخبة، ولا حسمت إشكالية القراءة ولا اشكالية التأويل، وبين السياسة والاقتصاد والثقافة ينبثق جامع أكبر يكون هو الشاهد الجامع لكل واجهات العطالة التاريخية، انه مأزق اللغة لعربية على ايدي أهلها وأبنائها. وفي فصل المثقف والسلطة يقول د. عبد السلام المسدي (ليس اعجب في الدنيا من مثقف يزهد في السياسة، ولا من سياسي يريد أن يزهد المثقفون من حوله في السياسة، ولو علم هؤلاء وأولئك بأحد الاسرار الخفية لكفوا عما هم فيه، فحرية الرأي مدرسة كاملة بكل أشراطها، وهي في طبيعتها وفي جوهرها مؤسسة قائمة في قلب الحياة الجماعية، والذي هو أكثر خفاءً وأشد إشكالاً هو أن المؤسسة المعرفية من الجامعات ومراكز البحوث لا تقوى على النهوض بأمانتها ما لم تسد الحرية كامل اطراف المجتمع، وهذا مما يحياه كل ذي بصيرة اذا بكامل الامر هنا وهناك، فالدرس والتعليم والبحث والتأليف كلها آليات فكرية نتروض حتى يرتاض بها القائمون عليها، ولكن عمادها المتين لا يكمن في جوهر العقل الخالص، بقدر ما يكمن في الطريقة التي يتعامل بها العقل مع الوجود، وهو المسمى بالعقل العملي، فكيف تربى العقول في رحاب الجامعات اذا لم يكن سيد الموقف هو الانصاف الفكري، واذا لم تكن الموضوعية والتجرد والاعتدال هي السيد الذي يحتكم الناس اليه، بل أن الحرف الأول من ابجدية كل المعارف هو التمرس بنسبية القيم مهما يكن الحقل العلمي الذي ينشط فيه الذهن. لن يتسنى للعلماء أن ينشئوا أجيال الباحثين، ولن يتسنى للأساتذة المربين ان يكونوا افواج الطلاب، اذا لم يكن هؤلاء واولئك قد تشبعوا خارج اسوار الجامعة بروح الانصاف، وقد تهيأت نفوسهم للاقتدار على كلمة الحق وانطلقت عزائمهم نحو خوض مغامرات الكشف، فالحقيقة العلمية مشروطة بأشراط المجتمع ناهيك عن أن بعض البديهيات قد تخفى على العلماء لالتباس أمرها بين الناس، وقد تصبح شذوذا إن شاع أمر فسادها بين أرجاء المجتمع، وهاكم أنموذجا واحدا، فمؤسسة المعرفة كثيرا ما تطرأ عليها بعض العلل كالفيروسات التي تصيب كل جسد حي، ومن أكبرها خطرا وأعجبها خفاءً السطو على المعلومة وتجاهل مصدرها وغمط حق صاحبها، فكيف يستوي أمر التنشئة العلمية إذا لم تكن الحرية الفكرية هي السائدة كي تتصدى لهذه الاعراض، وتداوى الحسد المعرفي من تبعاتها. إن المثقف الحر لا يطلب جزاءً ولا يرتجي شكورا وهذا ليس تفضلا منه، ولا هو تعفف باسم الاخلاق، وما هو بشهامة من شهامات المروءة اطلاقا.. هو ليس شيئا من ذلك، والسبب قاهر وغلاب، فالشكر والجزاء كلاهما استئجار، والأجر ناسف للحرية ومعطل لتصديق المثقف، بل بمجرد حضور الجزاء ينتفي الفكر وينتقص، ولكن الأمر يرجع الى حقيقة اخرى، فما من كلام الا وهو متوقف في الوقت نفسه على مضمون الخطاب وعلى استراتيجية الخطاب، والفارق الجوهري بين مجال العلم ومجال السياسة أن الخطاب في العلم يتحدد بالمضمون ويزدان بالاستراتيجية، أما الخطاب في السياسة فيقوم اساسا على الترتيب ومراعاة حيثيات السياق في الزمان والمكان وطبيعة الارسال واطراف التلقي. إن الاستراتيجية في السياسة أهم بكثير من المضمون، وحوار الثقافات جزء من السياسة الدولية، لذلك يحتاج المثقف العربي الى ان يتحلى بالحرية الفكرية الكاملة عند المحاورة في أي محفل دولي، وهذا معناه أنه محتاج الى ان يثبت امام الآخرين بأن فكره نقدي لا يقيم على نفسه محظورات ولا ينحني تحت وطأة الذعر، او يرتبك تحت هاجس الرقابة الذاتية، وقد يضطر في إثبات ذلك، الى المجاهرة بحقيقة او حقيقتين تتصلان بشؤون وطنه وامته مما هو جار مجرى البديهيات، حتى ولو جاء مضمونهما نقدا خالصا لبعض اوضاع الناس في داخل الوطن، ثم بعد ذلك بوسعه أن يذكر ألف حقيقة لانصاف وطنه وامته، فيكون صوته مسموعاً لأن الجميع تأكدوا ان خطابه ليس اعادة انتاج للخطاب الرسمي، والخطاب الرسمي في الاعراف الديمقراطية مظنة ارتياب، هو ذلك الحد الادنى الذي بدونه يعجز المثقف عن ابلاغ رسالته في كثير من المحافل الدولية، وهو ذلك الذي كثيراً ما يضيق به صدور الساسة عندما يغيب عنها أن حرية الفكر قوامها النقد ومرماها البناء وغايتها الاصلاح الذي يصل بكل مشروع الى تمامه وبكل فكرة الى كمالها للاسمى. وتناول في فصل خاص ثقافة الفكر الحر - وعن حرية التعبير يقول د. عبد السلام انها تعني حق كل فرد في الاعلان عن آرائه والعمل على اشاعتها بعد ان يكون قد مارس حقه الطبيعي في ان تكون له آراؤه الخاصة حيال اي موضوع واية قضية. اما حرية التفكير فهي العبارة التي كانت بعمومها كفيلة بتغطية كل ظلال المعاني دون تخصيص ودون تمحيص، وكثيرا ما تم تداولها على انها القرين المماهي لحرية الفكر، ولكن النظر المتأني في بعض سياقات استعمالها يدفع الى ترجيح تأويل مخصوص ومفاده ان عبارة حرية التفكير يقصد بها الاقرار بالرأي الآخر الذي يتجول بين الرأي المختلف والرأي المخالف والرأي الضديد والرأي المضاد، وكلها مستويات مستقل كل واحد منها بنفسه، معاييرها التباين في الأول والتميز في الثاني، والذي هو لازم الحضور بالضدية في الثالث، والذي هو ناقض للجذور في الرابع.