قطر تستضيف بطولة كأس العرب للدورات الثلاثة القادمة    شاهد بالصورة والفيديو.. طفلة سودانية تقلد الفنانة هدى عربي في أغانيها ورقصاتها وتضحك الجمهور والحاضرين الذين قاموا بتصويرها    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني في أوروبا يهدي فتاة حسناء فائقة الجمال "وردة" كتب عليها عبارات غزل رومانسية والحسناء تتجاوب معه بلقطة "سيلفي" وساخرون: (الجنقو مسامير الأرض)    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأربعاء    سعر الدولار في السودان اليوم الأربعاء 14 مايو 2024 .. السوق الموازي    سعر الجنيه المصري مقابل الجنيه السوداني ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    حصار ومعارك وتوقف المساعدات.. ولاية الجزيرة تواجه كارثة إنسانية في السودان    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    صندل: الحرب بين الشعب السوداني الثائر، والمنتفض دوماً، وميليشيات المؤتمر الوطني، وجيش الفلول    هل انتهت المسألة الشرقية؟    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    تقارير تفيد بشجار "قبيح" بين مبابي والخليفي في "حديقة الأمراء"    أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    المريخ يكسب تجربة السكة حديد بثنائية    مدير عام قوات الدفاع المدني : قواتنا تقوم بعمليات تطهير لنواقل الامراض ونقل الجثث بأم درمان    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    شاهد بالفيديو.. "جيش واحد شعب واحد" تظاهرة ليلية في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور    لأهلي في الجزيرة    تامر حسني يمازح باسم سمرة فى أول يوم من تصوير فيلم "ري ستارت"    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    شركة "أوبر" تعلق على حادثة الاعتداء في مصر    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    محمد وداعة يكتب:    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقفون بعد الثورة.. من التواصل العمودي إلى التواصل الأفقي..بقلم : سعيد ناشيد
نشر في حريات يوم 15 - 08 - 2011


سعيد ناشيد …
افتتح العالم العربي مطلع العام الجاري (2011) بسلسلة من الثورات والانتفاضات والاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة وغير المتوقعة، فيما اصطلح عليه باسم الرّبيع العربي.
من تونس، موطن شاعر الإرادة أبي القاسم الشابي، انفجر النّبع الأول وتدفق الشلال ودوى هدير الحناجر على إيقاع النشيد الملحمي : إذا الشعب يوما أراد الحياة.
ولأن الشعب أراد الحياة بالفعل، فقد انهار حاجز الشرط “إذا”، وانهمر السّيل منساباً بين الشوارع والأزقة والمدن يتجاوز الحواجز ويتخطى الألغام إلى أن غمر تونس بكل أطيافها وأطرافها، ثم جاد بفيضه على سائر البلاد العربية، مدشنا بداية تاريخ عربي جديد، سيكون ولا شك زاخراً بالآمال والأحلام وبالمخاوف أيضا.
مع ارتفاع منسوب السّيل ارتفعت عزيمة الشعب وارتقت من مستوى الإرادة الهادفة، التي غايتها أن يتحقق موضوعها، إلى مستوى الإرادة المجرّدة، التي غايتها التجلي الأقصى للإرادة. ما عادت إرادة الشعوب ترقب أباً محرراً أو إماما منقذا أو حزباً طليعياً؛ فقد انهارت كل أشكال المهدوية السياسية، وأمسى الشعب يتيماً مدركاً ليتمه، وملقى به ليواجه غده وقدره ومصيره بلا يقين ولا دليل. لم يعد للإرادة العامة من موضوع تتعلق به بدءاً وابتداء أو شرطاً واشتراطاً سوى الإرادة العامة نفسها، أي إرادة الإرادة : الشعب يريد.. الشعب يُؤكد أنه هو الذي يريد، وهو الذي يحدد ما يريد.. الشعب يريد والباقي مجرّد تفاصيل.
وضمن أدق التفاصيل وأشقها نجحنا في الانفلات من وحدة العدم وائتلاف الموت، إلى تعدد الوجود واختلاف الحياة؛ فوحدهم الموتى يتشابهون ويتطابقون. هكذا أمسينا بفضل نعمة الإرادة أحياء نرزق وننعم برحمة الاختلاف ونجادل بعضنا بالتي هي أحسن. أو هكذا يجب أن يكون حالنا وفق شريعة الوجود الإنساني الذي- كما علمنا كانط – ليس وسيلة لأي غاية أخرى؛ لأنه غاية في ذاته، لأنه غاية الغايات.
طبيعي أن يكون للبعض أو للكثيرين حنين إلى مرحلة ما قبل الإرادة وما قبل الولادة. غير أن اللافت أن الحنين إلى تعطيل الإرادة يتخذ أوجهاً تستند في مجملها إلى ما يصطلح عليه إيريك فروم ب”الخوف من الحرية”، كحالة مَرضية، وأحياناً كحالة مرض جماعي تستدعي تدخل بعض آليات التحليل النفسي جنباً إلى جنب مع سيرورة التحرّر السياسي.
لكن دعنا نعترف الآن، وبكل تواضع، بأن الإرادة المنبثقة من هدير الحناجر الصادحة قد أحرجت العقل منذ البداية وأربكت بعض حساباته. لماذا؟ أولا لأنها باغتته وأخذته على حين غرة؛ وثانياً لأنها انفلتت من عقال التفكير المراحلي والذي هو التجلي الأكثر بداهة للعقل، فرفعت منذ الوهلة الأولى، أي منذ اللحظة التونسية، سقفها المطلبي عالياً : “ارحل” (ديكاج). العقل غير قادر على تبرير السقف المرتفع فجأة أو تحمّل مجازفة مفتوحة على هذا النحو، بل هو ميال إلى تبرير الفعل فقط حين يتحقق الفعل عبر مراحل متدرجة قد تطول أو تقصر. وأحياناً، إنه يتحفظ على الفعل بدعوى الممكن وموازين القوى وحسابات المصلحة ونحو ذلك، أكثر مما يميل إلى تبرير الفعل المباشر والآني والحاسم. ولعل مثل هذا التوجس يتناسب مع الدلالة الاصطلاحية للعقل : عقلك هو ما يعقلك بمعنى يربطك ويلجمك، بمعنى يكبل إرادتك.
هكذا اكتشفنا في الأخير أن ما كان ينقصنا ليس العقل تحديداً، وهو الذي طالما دعانا إلى الرضا بالقليل والقناعة بالحد الأدنى والاكتفاء بأنصاف الحلول. بل ما ينقصنا، أو ما كان ينقصنا على وجه التحديد، هو الإرادة.
لقد خسرت حضارتنا معركة الإرادة منذ البدء وقبل أن تخسر معركة العقل في الأخير : تعرض دعاة حرية الإرادة، أمثال جهم بن صفوان والجعد بن درهم وغيلان الدمشقي، للمحنة، قبل أن يتعرض لها دعاة حرية العقل، من المعتزلة والفلاسفة. ومن يدري فربما تكون استقالة الإرادة، أو إقالتها، قد ساهمت بدورها في ما سيصطلح عليه جورج طرابيشي بالعقل المستقيل. تذكروا فقط أن حفظ العقل يظل، في كل أحواله، من مقاصد الشريعة، غير أن الإرادة لم تجد مكانها ضمن المقاصد.
ثورة الإرادة كانت ثورة متجلية في الشوارع والأزقة والمدن، كانت ثورة هادفة إلى إسقاط الأنظمة الشمولية التي ضاق بها الناس ذرعا وضيّقت الخناق على الحريات وضربت الطوق على كل المنافذ التي يمكن أن تتسرب منها الإرادة إلى ضوء التجلي. غير أن الينبوع انفجر فجأة، وانطلق السيل جارفاً معه الكثير من البداهات، وفارضاً على المثقف أسئلة ووظائف جديدة.
إن كان إسقاط الاستبداد مغامرة غير مضمونة النتائج، وإن كان الأصل في الحرية أنها مجازفة مفتوحة على احتمالات شتى، فإن العقل يدعونا إلى أن لا نسير قبل أن نعرف اتجاهات المرور ونحدد نقطة الوصول : إلى أين نحن ذاهبون أولا؟ هذا هو سؤال العقل. لكنه أيضاً سؤال قد يكبل الإرادة، لا سيما حين يكون الأفق السياسي مسدوداً أو محكم الانسداد، فلا يبقى أمامنا سوى أن نقتحم أفق المجهول. هل يعني هذا أن العقل سقط أيضاً أمام ثورة الإرادة وإصرار الشباب على المجازفة والاندفاع، أم أننا فقط أمام تحولات في العقل ستواكب أو أنها قد تواكب تحولات الوجود الاجتماعي؟
أزعم الجواب الثاني.
انتفاضة الإرادة ضد الاستبداد هي أيضاً انتفاضة ثقافية، تتجه نحو تحطيم أغلال ثقافة القضاء والقدر والخنوع والاتكال والامتثال، وهي ثقافة ضاربة بجذورها في أعماق التراث الديني القديم، وكان ضحيتها العقل نفسه؛ هذا العقل الذي اكتفى، في الغالب وفي الأخير، بعلمنة نزعة الاستسلام للقضاء والقدر، وتعويضها بمفاهيم تحيل إلى العجز التاريخي.
تحرير الإرادة من عقال العقل الجامد، ومن سقف الممكن النازل إلى الحضيض، ومن عطالة الفعل والطموح والاندفاع، هو بالذات ما يصطلح عليه نيتشه باسم إرادة القوة، التي لا يقصد بها تمجيد العنف، وإنما يعني بها الطاقة الحيوية للحياة وقوة الطموح الغريزي للإنسان، بمعزل عن أخلاق الطاعة وثقافة الامتثال.
الإرادة، في أقصى تجلياتها، لا تكون إلا سلمية ومترفعة عن كافة أشكال العنف أو العنف المضاد. فالانتقام ليس سوى رد فعل انفعالي ولاإرادي، أيا كانت ذرائعه. وهكذا نفهم كيف انبثق وعي الحرية بنحو سلمي وبمنهج لاعنفي في التعبير عن إرادة التغيير، التي هي التجلي الأكثر بداهة لإرادة الحياة. وهكذا صدح التونسيون بصدور عارية وحناجر واثقة بالشعار : (تونس حرة حرة ..). ثم صار حدس الحرية مدوياً في شتى الربوع العربية : (.. حرية وبس).
الحرية إحراج ثان للعقل. لماذا؟ لأن الحرية جاءت، هذه المرّة، منفلتة من عقال كل إطار مرجعي : إنها حرية لا تستند إلى أي موقف تاريخي كما يرى تيار الاجتهاد الديني. وهي في المقابل ليست باسم الحق الطبيعي للإنسان، ومن ثم لا سند لها في قانون الطبيعة، كما كان الأمر في تجربتي الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية، وأهم النصوص الموازية للتجربتين، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للثورة الفرنسية ووثيقة استقلال الولايات المتحدة الأمريكية ونص الدستور الأمريكي.
هذه الحرية التي صارت فجأة تتكلم باللغة العربية (حرية) وباللغة الكردية (آزادي) وباللغة الأمازيغية (تيلْلي)، وبدلالات العيش الذي لا يكون مشتركاً إلا بقدر ما يكون حرا، تكاد تكون حرية بلا مرجع ولا سند؛ هي مثل حدس الحياة المتحررة من كل تحكم إيديولوجي. إنها بشعارات الثورة السورية “حرية وبس”. هي النبع الذي ينفجر على حين غرة من الوجدان الجماعي دون سابق إنذار مفاجئاً حتى المعنيين بالأمر أنفسهم.
“فجأة كانت الثورة”، وفق تعبير صريح لفتحي بن سلامة. كان النبع عفوياً في انفجاره وفي مساره، ما شكل إحراجاً ثالثاً للعقل الذي ظل، منذ أفلاطون إلى اليوم، عقلا ميالا إلى احترام سقف الضرورة ومنطق نظام الأشياء ومبدأ القانون الطبيعي. ومن ثم كانت وظيفة العقل تنحصر في تحييد وظائف الصدفة والعفوية والتلقائية.
انبثق النبع الثوري عذباً صافياً يتجاوز الحواجز ويتخطى الألغام ويتسرّب بسلاسة غير معهودة وغير متوقعة منساباً بين الشوارع والأزقة والمدن إلى أن غمر تونس كلها أمام ذهول العالم وإعجاب الكثيرين.
وكان أن تساءل الجميع : ماذا بعد تونس؟ وإلى أين سيتجه هذا النبع المارد؟ ضمن الرهانات كانت مصر حاضرة بقوة. لكن ماذا بعد مصر؟ هنا بالذات واجهت المثقف العربي صعوبات وارتباكات وترددات. ضمنها كانت سوريا الامتحان الأصعب. كيف لا وقد بدت الحالة السورية كاشفة عن أزمة المثقف كلما تعلق الأمر بتضارب المصالح والقيم؟
لسنا في معرض التذكير بالنماذج والأسماء، وقد أثارت ما يكفي من السجال. غير أننا نود التأكيد على وجود حالة تشويش ذهني تقود الكثيرين إلى الخلط بين خط الدفاع عن المصالح الوطنية والقومية والذي هو وظيفة السياسي، وبين خط الدفاع عن القيم والذي هو وظيفة المثقف الأصيل.
إنه التشويش الذي يقود بعض المثقفين أيضاً إلى الخلط بين واجب المنافحة عن القانون والتي هي وظيفة رجل الدولة، وبين واجب المنافحة عن الحق والتي هي وظيفة المفكر الحر.
رؤية المثقف يجب أن تستند إلى قاعدة واضحة تقول : حين تتعارض القيم مع المصالح، فإن المثقف يعطي الأسبقية للقيم. وحين يتعارض الحق مع القانون، فإن المثقف يقدم الحق على كل قانون. ومن دون شك تظل الحرية أول الحقوق وأسمى القيم.
ألم يقل سارتر بأننا محكوم علينا بالحرية؟
إذاً فالحرية ليست موضوع مقايضة. وبلغة الحقوق والواجبات : ليس من حق أي إنسان، رجلا كان أو امرأة، أن يبيع أو يقايض حريته أو كرامته، كما يعلّمنا الحكيم كانط. إذ ليس الإنسان حرّاً في أن يتنازل عن كرامته، سواء بدعوى التعقل أو بدعوى التدين أو بدعوى أي ادعاء كان. لماذا؟ لأن في ذات كل شخص تتجسد البشرية جمعاء، ولأن الحرية ليست ملكا لأي أحد بحيث يفعل بها ما يشاء؛ إنها طبيعة بشرية وملك للإنسانية.
ثورة الحريات العربية اليوم لا تقبل أي توصيف؛ إذ لا تحمل لوناً واضحاً : فلا هي يسارية حمراء، ولا هي سلفية صفراء، ولا هي إسلامية خضراء، ولا هي بيضاء اللون، مثلما يقال عادة عندما يزيح حاكم حاكماً فيتم كل شيء داخل أسوار القصر. إنها ثورة بألوان قزح، كما يحب أن يقول بعض مثقفي ومثقفات الثورة التونسية اليوم.
هذه الثورات، التي يعتبرها صادق جلال العظم، قطيعة مع إرث الإيديولوجيات، تفتقد أيضاً لأي شكل محدّد؛ فهي لم تتخذ شكل خلايا نائمة ولا قواعد متحركة ولا شكل إضراب عام غير محدود أو حرب تحرير شعبية أو زحف مسلح أو حرب عصابات، ولا أي شكل من أشكال التصاميم الثورية التي صاغها الفكر والممارسة الثوريان منذ سيمون بوليفار، إلى لينين وروزا لوكسمبورغ وماو تسي تونغ وتشي غيفارا وعمر المختار وعبد الكريم الخطابي وغيرهم.
فهل علينا أن ننتظر من هذه الثورات، التي تبدو مثل الماء بلا لون ولا شكل، أن تتخذ شكل الوعاء الذي ستنتهي أو قد تنتهي إليه، حتى نصدر عليها حكماً معقولا، فنقول بأنها كانت ثورات ديمقراطية أو حداثية أو دينية أو مدنية...؟
محاولة القبض على هذه الثورات فهماً أو تحكماً، تفسيراً أو تقريراً، قولا أو تأويلا، تبدو وكأنها محاولة محكومة بالإخفاق. فهل يعني هذا إفلاس رهان المعرفة؟
بالمعنى الديكارتي للمعرفة، من حيث هي استراتيجية فهم وتحكم، الجواب هو نعم : المعرفة التي تقود إلى الفهم الإجمالي لأي موضوع وإلى التحكم في أي ظاهرة، بما في ذلك ظاهرة ثورات الشارع العربي اليوم، معرفة غير ممكنة وغير متاحة.
ومن دون شك، تظل المعرفة رهاناً مطلوباً ومبتغى مقصوداً. غير أن استراتيجية المعرفة قد تغيرت، ليس بفعل الثورات العربية- طالما هذه الثورات هي نفسها من نتائج التحول المعرفي الذي طرأ على العقل السياسي وعلى الوجود الاجتماعي- وفرض بالتالي على المثقف إعادة النظر في بعض المسلمات.
قد تختلف النظم السياسية وآليات التحكم من بلد عربي لآخر، غير أنها لا تختلف في خاصية مشتركة، وهي أن السياسة في جل الأقطار العربية تظل عملا من دون جمهور. هذا هو الواقع الذي اعتاد كثير من المثقفين على تبريره، بحجة أن العقل لا يُحايث الشعوب ولا يلازم الشوارع، وأنه لا يحايث أحياناً سوى الدول والنخب أو بعضهما.
هذا التصور النخبوي يتوافق ، رغم مظهره الحداثي، مع المنظور التراثي الذي يرى أن الإصلاح مهمة الإمام حصراً. في الوقت الذي يتوقف فيه دور العالم على تقديم النصح للأمير والنصيحة لولي الأمر. أما الشعوب فدورها يقتصر على الدعاء لمن غلب تسليما بالحتمية التاريخية وبالجبرية الدينية.
بهذا النحو راهن بعض أنصار الحداثة الفوقية على التحالف بين النخبة وبعض أمراء التنوير، بمعزل عن أي دور محتمل للشعوب التي ينظر إليها باعتبارها متخلفة بطبعها أو متعصبة بطبيعتها.
كثيرون لديهم تحفظات حول الديمقراطية بدعوى أن الاختيارات الشعبية قد تقود إلى انتصار الأصوليات الدينية، كما حدث في إيران، والتي تحولت ثورتها من ثورة ديمقراطية مفتوحة إلى دولة دينية جبرية. وبالأثر الرجعي اتخذت الثورة صفة الدولة، لتصبح ثورة دينية.
كثيرون يتخوفون من تجارب التاريخ التي تكشف لنا كيف تمخضت بعض الثورات عن حروب أهلية ومجاعات، وكيف أفرزت، ولو بعد حين، ديكتاتورها الخاص : نابليون بالنسبة للثورة الفرنسية، ثم ستالين بالنسبة للثورة الروسية، ثم الخميني بالنسبة للثورة الإيرانية.
هل يمكن لثورة الشارع العربي الآن أن تتعرض للاختطاف السلفي أو للسرقة الأصولية الموصوفة فتصير استبداداً قداسياً على منوال الثورة الإيرانية؟
هل يمكن للانتخابات الحرّة والنزيهة في العالم العربي أن تكرس العودة إلى المجتمعات المغلقة، بالمعنى الذي ينتقده كارل بوبر وجورج سوروس، وكما يحدث اليوم للمجتمع الإسرائيلي في ظل انتخابات حرة وقضاء مستقل، وكما قد يحدث أيضا في انتخابات فلسطين والعراق ونحوهما؟
كثيرون يتخوفون من ذلك.
غير أن ثورات الشارع العربي شهدت متغيراً جديداً وسيكون حاسماً في تحديد مسارات الثورة ومآلات التغيير :
يقال بأن ثورة إيران كانت ثورة تقنية الكاسيت ثم التلفاز والمسجد والجامعة، وهذه جميعها تدخل ضمن أنماط التواصل العمودي القابلة للهيمنة والاحتكار. غير أن ثورة الشارع العربي اليوم هي ثورة الفايسبوك والتويتر، وهي أنماط من التواصل يصعب على أي طرف أن يتحكم فيها أو يحتكرها لحسابه الخاص.
تقنية الكاسيت، على منهاج الخميني وجلال كِشك وغيرهما، هي تقنية مركزية الصوت، والتمركز حول الذات العارفة والإنصات للعقل الكاشف لأسرار العرفان. إنها تقنية التواصل أحادي الاتجاه، حيث ينطلق الخطاب عمودياً من المرسل والذي هو الخطيب المفوّه نحو المتلقي المُنصت والمطيع لسلطان الكلمة.
في حين أن تقنية الفايسبوك والتويتر هي تقنية التواصل التفاعلي بين كافة الأطراف، والتي يشارك فيها الجميع في صناعة الخطاب وبلورة القرار وإنتاج السلطة.
لقد فاقمت آليات التواصل العمودي من إحدى أهم المعضلات المعرفية القروسطية، حيث كرست انقسام العقل بين عقل فاعل هو سليل العقل الفعال بالمعنى الأرسطي، وبين عقل منفعل هو سليل العقل الإيماني، أي بين عقل النخبة وعقل الجمهور، بين عقل الشيخ وعقل المريد، بين عقل الدولة وعقل الشعب. غير أن آليات التواصل الأفقي اليوم قد أعادت اللحمة إلى وحدة العقل الإنساني تحت ما يمكننا أن نصطلح عليه بالعقل المتفاعل.
المثقف اليوم ليس من يخبر الناس بالحقيقة التي يؤمن بها، ليس من ينقل إليهم المعرفة التي عَلِمها أو تعلمها، وبالأحرى ليس المثقف كاشفاً لأي سر من الأسرار، وإنما هو فقط من يستنفر حدس الحرية لدى الناس ويساعدهم على الاستعمال الحر والعمومي للعقل والمساهمة في تدبير انعدام اليقين، بعيداً عن أوهام الإحاطة بالفهم وكشف السر وامتلاك مفاتيح التفسير.
والحال أن تقنيات التواصل الأفقي التفاعلي، التي أتاحتها شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، قد قطعت الطريق أمام الإيديولوجيات الشمولية الكليانية التي تدّعي القدرة على الفهم الحاسم والقاطع لدابر الشك، سواء أكانت إيديولوجيات دينية أم فلسفية.
مع أنماط التواصل الأفقي تبدّد وهم احتكار الفهم الذي كثيراً ما كان يفضي إلى نوع من الكليانية الثقافية، حين يُطلب من كل مفكر أن يكون فاهماً مفسراً وكاشفاً لحُجُب الغيب، ما يجعله انعكاساً أرضياً للعقل الفعال بمعناه الأرسطي، أو مجرّد نبي معلمن ومن ثمة مشروع طغيان جديد. كان هذا مع ماركس في علاقته بالتجربة الشيوعية، كان هذا مع مشيل عفلق في علاقته بالتجربة البعثية، كان هذا أو كاد يكون مع ليو شترواس في علاقته بتيار المحافظين الجدد، كان هذا ولا يزال بالنسبة للأنبياء في علاقتهم مع الإمبراطوريات القديمة ومع مختلف الحركات الدينية الجديدة.
المثقف اليوم لم يعد سليل العقل الفعال ولا هو ينتمي إلى سلالة الأنبياء، فهو يتيم لا اب له في السلطة الدينية ولا أب له في السلطة السياسية، كما قالت رجاء بن سلامة في كلمة الافتتاح. المثقف لم يعد يدعو ويبشر، ينذر ويحذر. إنه فقط من يقول : أنا لا أفهم لكني أتفاهم. أنا لا أزعم أن هناك فهماً صحيحاً قد يدركه البعض دون الآخرين، لكني أزعم أن كل فهم هو مجرّد تفاهم.
المثقف اليوم ليس من أوتي مفاتيح الفهم وأسرار التأويل لينبئ بها الآخرين، وإنما هو من يمتلك القدرة على تدبير التفاهم وتأطير الفهم المشترك.
لقد جعلت تقنيات التواصل الجديدة كل خطاب مجرّد تخاطب، وكل حوار مجرّد تحاور، وكل فهم مجرّد تفاهم، وأزاحت كلا من العقل الفاعل (عقل الشيخ والمتكلم والأستاذ) والعقل المنفعل (عقل المريد والمنصت والتلميذ)، وأبدعت عقلا يتجاوزهما معا، هو العقل المتفاعل.
هذا يعني أن أوقات فراغ المثقف ستكون قليلة، وأن جهداً جهيداً ينتظرنا، حتى ونحن نجتمع هنا والآن في ملتقى على ساحل تونسي جميل لا تسكنه إرادة الحياة وحسب وإنما تسكنه متعة الحياة أيضاً (مدينة الحمامات).
لكن أليست متعة الحياة هي المصبّ العظيم لشلال إرادة الحياة منذ أن تفجر على إيقاع : “إذا الشعب يوما أراد الحياة”، إلى أن دنا من مصبه وبلغت قصيدة الشابي قوله : “وجاء الرّبيع بأنغامه، وأحلامه وصباه العطِر. وقبّلها قبلا في الشفاه، تعيد الشباب الذي قد غبر”.
فمن ذا الذي يجرؤ على حذف هذين البيتين من قصيدة أبي القاسم الشابي؟
من يخشى أن يتوج الربيع العربي بمشهد قبلات سعيدة؟
إن كان، فربما للتواصل التفاعلي وظيفة علاجية أيضاً. وهذا باب آخر.
نعم..
لم تكن الثورة التونسية أول ثورة في التاريخ، غير أن التاريخ سيذكرها باعتبارها أول ثورة مدنية حضارية سلمية، أول ثورة للإنسان العاري من كل أوهام الخلاص الإيديولوجي والعقائدي، أول ثورة من دون ذلك الوهم الذي طالما حذرنا منه جاك ديريدا والمسمى ب”المساء الكبير”. ولعل صباحات صغيرة تدوم خير من “مساء كبير” قد يعقبه ظلام يطول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.