وصلتهم عند السادسة مساءً في أواخر ايام رمضان، وكنت قد اتصلت بالتيجاني محمد أحد المتطوعين ليخبرني بأنه خرج لتوزيع الافطار في أحد المستشفيات، الا أنه اكد لي ان الآخرين يعملون في دار «ماما احسان» بحي المطار، وبالفعل ذهبت الى الدار لأجد الباب مفتوحاً على مصراعيه بداخله شباب يتحركون مثل خلية النحل يحملون الطعام جيئة وذهابا، وسرعان ما تدرك عظم ما يفعلون، تعديت الباب بقليل لأجد عدداً كبيراً من «قوالب» العصيدة و «جرادل» الملاح والبلح والسكر والبليلة والطعمية وكافة مستلزمات الافطار الرمضاني، فهؤلاء الشباب يعملون بجد وحب، فبعضهم يوزع العصيدة وآخر يقوم بتعبئة جرادل الملاح، بينما يقوم آخرون بتوزيع الطعمية وحفظها حتى تصل «ساخنة» للصائمين الذين قطعاً لا أعلمهم أنا ولا يعلمونهم هم، هكذا هو العمل الطوعي عندهم جهد واجر من الله، سألت أحدهم اين اجد ناظم سراج، فاشار اليَّ وهو يحمل صينية بها صحون العصيدة ان ادخل عبر هذا الزقاق وقال ستجده هناك وقد كان. فوجدته يحمل جردلاً مليئاً بالملاح في إحدى يديه ويحمل في الاخرى ورقة وقلما ويسير على عجلة من أمره، فما أن سلمت عليه حتى قال لي: «نحنا عايزين نوصل العصيدة دي لي مستشفى ابراهيم مالك والمستشفى الاكاديمي» ولا وقت لدينا، لأن موعد الإفطار قد ازف، وهنالك طعام يجب أن نوزعه على دور الايواء، هكذا تحدث معي وكان أحد المتطوعين معهم، وأحببت ذلك وأكبرت فيه حسن ظنه بي، وبالفعل دونما اشعر فتحت «ضهرية» العربة وبدأنا في نقل العصيدة ناظم وشخصي الضعيف وابتهال التي عرفت لاحقاً انها تعمل بشركة طارق نور وهي متطوعة مثل الآخرين، فما ان ينتهي دوامها بالشركة حتى تهرع الى هذه الدار وتقوم بصنع الطعمية والعصيدة مع الآخرين، بل توزعها على دور الايواء والمستشفيات واقسام الشرطة ودور العجزة والمسنين والاطفال مجهولي الابوين. والشاهد ان ابتهال ليست حالة خاصة في هذه المجموعة، فجميعهم تركوا الافطار في منازلهم وسط عائلاتهم ليشاطروا هؤلاء بركة الافطار والاجر كما يقول ناظم. وما ان ملأت عربتي «بقوالب العصيدة» حتى اعطاني ورقة لأعد معه الصحون والجرادل والطعمية التي قاموا بارسالها، لأن هناك «جردل ملاح» لم يأخذه احد، فلا بد أن احدهم قد نساه، وذلك يعني أن دوراً ما ستصلها عصيدة دون «ملاح» تخيلت المنظر واشفقت على الصائمين هناك، فالجميع أخذ حصته من الطعام ليوزعها بعربته الخاصة، لأنهم لا يتبعون لأية منظمة أو اية جهة تملك مالاً، بالتالي لا يملكون أية موارد أو أصول، فكل ما في الامر ان شخصاً ما في مكان ما يساعدهم، أو منظمة ما تتبرع لهم عينياً او مادياً او تتكفل لهم بمستلزمات الافطار، ويقومون هم باكمال ما تبقى من جهدهم الخاص وهكذا تسير الامور «بالبركة». جلسنا انا وابتهال وناظم لنعد الصحون والجرادل حتى نعرف لمن يتبع الجردل «المنسي» فاصبحوا يعدون كالآتي: «مستشفى ام درمان - هؤلاء استلموا حصتهم كاملة، مستشفى جعفر بن عوف- ذهب لهم فلان» وهكذا حتى تمت مراجعة الجميع، ليتضح ان الجردل «المنسي» هو اضافة وزائد عن الحاجة، فتنفس الجميع الصعداء وكل ذهب في طريقه. وبالفعل قمت بايصال العصيدة الى المستشفى الاكاديمي، فوجدت هنالك شبابا ينتظروني أمام المستشفى، حيث يفترشون الأرض ويقومون بتوزيع الأكل على المرضى والمرافقين وعابري السبيل، التفت الى ساعتي فوجدت اني قد فوّت لتوي دعوة افطار من اناس كنت في طريقي اليهم قبل ان التقي بهؤلاء، ولم أشعر بالندم لتخلفي عن موعدي، بقدر ما شعرت بالسعادة وأنا أساعد الآخرين، وان اقدم لهم وجبة الافطار، ولك ان تتخيل من يقضي كل رمضان في هذه الحال. هذه قصة ساعة قبل الافطار أمضيتها مع هؤلاء الشباب مليئة بالايمانيات والمحبة وعمل الخير، فالجلوس في حضرتهم يشعرك بأن الوطن مازال بخير، وان عمل الخير احياناً لا يحتاج الى مظلة تحميه بقدر ما يحتاج الى شباب يملكون عزيمة ومحبة فيما بينهم. ولاحقاً كما يقول التيجاني فإنهم وزعوا حوالي «7» آلاف كيس صائم قبل رمضان على المساكين والفقراء ودور الايواء، كما قاموا بافطار ألفي شخص يومياً طوال رمضان في كل من «دار اطفال المايقوما ومستشفى جعفر بن عوف وحوادث ام درمان والبان جديد وابراهيم مالك وابو العلا ومعمل استاك ودار الحماية للأولاد والاصلاحية ودار المستقبل للبنات ومستشفى الذرة وقسمي شرطة الجنوبي والاوسط». وكل هذا الطعام تتم صناعته في منزل «ماما إحسان» التي فتحت أبوابها لهؤلاء الشباب طوال رمضان ليستغلوه في خدمة الصائمين دون كلل أو ملل، والبرنامج لم يتوقف عند هذا الحد، بل يقول ناظم سراج إنهم قاموا بمشروع «كسوة العيد» الذي بلغ حوالي أكثر من «7» آلاف كسوة عيد للاطفال في الاصلاحيات والدور والفقراء خلال العيد، وينبغي عليَّ أن أقول إن مثل ناظم كثيرون جنود مجهولون يعملون تحت الاضواء.. شكراً لكم لأنكم تقدمون دون من أو أذى، وشكراً لكم لأنكم تقومون بعمل ينبغي أن تتولاه الدولة.. شكراً «عمر، علياء، هشام، إلهام، مقداد، وليد» والقائمة تطول، إنهم يستحقون أن نحني لهم الهامات ونرفع لهم القبعات إجلالاً واحتراماً.