من الواضح أن الحكومة أدركت أخيراً التداعيات الاقتصادية لانفصال جنوب السودان ، والذي بات أشبه باليقين السياسي لدى كافة المراقبين داخل السودان وخارجه ، ولم تجد الحكومة سوى رقاب هذا الشعب لتمسك بها وتعتصرها في محاولة للخروج من الأزمة الاقتصادية القادمة. كذلك من الواضح أن الايام القادمة ستضع عبئاً مالياً ثقيلاً على كاهل المواطن البسيط يتمثل في ارتفاع أسعار ضروريات حياته وفي مقدمتها الخبز والوقود وغيرها من الأساسيات ، ولا يبدو أن الحكومة ستكلف نفسها عناء تقليص الانفاق العام للدولة ووقف الهدر المتواصل للمال العام في المخصصات المالية الباهظة التي تتم به إعالة جيش ضخم من شاغلى الوظائف الدستورية . لقد كتبنا من قبل عن هذا الجيش الذي تتنزل رتبه من مساعدين ومستشارين في مؤسسة الرئاسة ، تليها كتيبة مجلس الوزراء بوزرائها الاتحاديين ووزراء الدولة الذين يقارب عددهم المائة الى جانب وزراء حكومة الجنوب ، كذلك رؤساء الجمهوريات الولائية ( الولاة ) ونوابهم ووزرائهم ومعتمديهم ومستشاريهم . أيضاً لا ننسى الهيئات التشريعية والتي تشمل المجلس الوطني ومجلس الولايات وبرلمان الجنوب برؤسائهم ونواب رؤسائهم والاعضاء ورؤساء اللجان الذين يتقاضون مخصصات وزير،الى جانب أكثر من خمسة وعشرين برلماناً ولائياً برؤسائها واعضائها ورؤساء لجانها. هذا الجيش يتمدد في ظل السلطة الممدود ومالها المسكوب وفاكهتها الكثيرة ، دون أن يُضار في مخصصاته الباهظة وامتيازاته وسياراته ومنازله الحكومية التى تنعم بالهواتف المفتوحة وبالماء والكهرباء المجانية عبر خطوط سيادية ساخنة لا تعرف الإنقطاع ، بينما بقية افراد الشعب تتكالب عليهم فواتير إرتفاع الخبز وغيره من الأساسيات وتقهرهم فرق الموت من جبايات وعوائد وضرائب وزكاة وشرطة مرور ورسوم ادارية وفواتير علاج ومصاريف دراسة ودمغة جريح...والله وحده يعلم أنه ما من جريح سوى هذا المواطن الغلبان المحاصر بكل هذه الفواتير . هذا العنت وتلك الجبايات الحكومية تلتصق بالمواطن كظله . إذا أكل أكلت معه الحكومة بفضل الجبايات ، وإذا شرب فمن واجبه أن يسقي الحكومة (بكفوفه لما تتكفي) ، وإذا طلب جرعة دواء عليه شراء جرعتين..الاولى له والثانية للحكومة بفعل جبايات الدواء والعلاج ، وحتى إذا أغمض عينيه ونام فالحكومة تأخذ حقها في نومه كوابيس مفزعة تسلب النوم من عينيه. إن أزمات السودان المتلاحقة ليست الجنوب وابيى ودارفور والشرق البائس والشمال المهمش وحدها، كما أن مفاتيح هذه الازمات ليست في مشاكوس او نيفاشا او ابوجا او نيويورك . المفتاح الحقيقي لكل ازمات السودان هو رفع الغبن والمعاناة وإعلاء قيم العدل والمساواة بين كل ابناء الوطن الواحد ومحاربة الفساد والنهب الذي تمارسه بعض أجهزة الدولة على المواطن الغلبان. بالخبز وحده يحيا إنسان السودان ...إذ ما عاد هناك شىء سواه !