ضمن متابعتى واهتمامى بقضية الزراعة عموما بالسودان والتنمية الريفية على وجه الخصوص والارتباط الوثيق الذى يربط بينهما ، تأكد لى تماما - ارجو ان اكون محقا- ان البرنامج الطموح الذى اعدته الدوله والخاص بنهضة القطاع الزراعى، وكنت من اكثر الداعمين له ، والذى قام باعداده خيرة العلماء فى هذا البلد ،ظلت تواجهه عدة مشاكل وتحديات تقف فى سبيل تنفيذه . فى ظنى المتواضع ان غياب السياسات والاستراتيجيات التى تدعم التنميه الريفيه القاعديه احد اهم تلك التحديات والمعوقات فضلا عن قصور فكرى تنموى ظل يصاحب تنفيذ البرنامج على مستوى الركائز التى تقف فى الخط الامامى للنهضة الزراعية. لايخفى على احد خاصة المتابعين لامر الزراعة والتنميه الريفيه فى هذا البلد ان كثيراً من السياسات التى توضع اليوم تبتعد تماما عن منهج المشاركه القاعديه التى تؤسس للملكيه والاستدامه، وينحصر الحوار والتنفيذ على التنفيذيين بمشاركة صوريه ،ان وجدت ، لقطاعات قاعديه رمزيه. ينسحب هذا وبصورة اكبر على الولايات التى تفتقر اصلا للقدرات التنفيذيه والمؤسسيه وللموارد الماليه وهى المعهود لها بالنصيب الاكبر فى تحقيق هذا التحدى ، نجدها هى الاخرى بعيده عن تحقيق الاهداف بسبب المشاكل التى تواجهها والتى اشرنا اليها سابقا. ان عملية اعادة التوازن و(العافية ) لقطاع الزراعه يمر بنهضة الريف اولا كقاعدة اساسيه متعارف عليها فى كل الفلسفات والسياسات التنمويه الدوليه ،اذ ان سياسات التنميه الريفيه هى التى تمكن البنيه الريفيه البشريه والمؤسسيه (الخدمات) من النهوض بالزراعه وتعمل على جذب القطاع الخاص والاستثمارات الخارجيه كوسائل وليس اهدافاً . ورغم ما احتواه برنامج النهضه الزراعيه لكل مكونات الزراعه ونهضة الريف الا ان العقبه الرئيسه لازالت تكمن فى تقديرى الى عجز فكرى تنموى وفى الكيفيه التى يوجه بها البرنامج وفق اولويات تأخذ اهمية بناء قدرات ريفيه تهتم اولا بالخدمات الاساسيه لانسان الريف وبنيه تحتيه تساعد فى الاستقرار الريفى والتنموى ، والمتابع لتنفيذ البرنامج يجد ان هنالك تشتيتاً للجهود ولا يوجد ترتيب وتركيز على برامج ومناطق بعينها STRUCTURE & FOCUS تستخدم كنماذج تطبيقيه ثم تتوالى عمليات التنفيذ وفق اولويات ودراسات . والمتابع فى هذا الاطار يجد ان هنالك عجله لجنى الثمار والمردود المادى والاندفاع الشديد نحو الاستثمارات الخارجيه وجلب العماله من الخارج.. ماذا كانت النتيجه تراجع كبير فى الانتاجيه فى عام النهضه الزراعيه الاول كما جاء فى حديث احد المسئولين عن البرنامج ، وبالمقابل زيادة مخيفه لمعدلات الفقر فى البلاد حتى وصلت حسب تقرير البنك الدولى الاخير الى 46% بالرغم من تحسن النمو فى بلد غنى بالموارد. لاحاجة لنا ان نذكر بان كثيراً من الدول المتقدمه تضع سياسات التنميه الريفيه على قائمة اولوياتها جنبا الى جنب مع استراتيجياتها الزراعيه وبحكم قربى من احد اهم التكتلات الاقليميه العالميه وهوالاتحاد الاوربى ، نجد ان هذا التكتل ظل يداوم سنويا برصد اكثر من 300 بليون يور للتنميه الريفيه فضلا عن سياسات تنميه ريفيه فاعله جنبا الى جنب مع سياسه زراعيه مشتركه COMMON AGRICULTURAL POLICY -CAP توجه لخدمة الاهداف الاجتماعيه والسياسيه والتجاريه والاقتصاديه لمواطنيه فى دوله الاعضاء زيادة للنمو وتوفير فرص عمل ورفاهية ورخاء. ويضع التكتل سياسات التنميه الريفيه وفق معطيات هامه تأخذ فى الاعتبار ان 56% من مواطنى الاتحاد الاوربى فى دوله ال 27 يقطنون ويعيشون فى الريف وباعتبار ان الريف هو الذى يزود بالمواد الاوليه الضروريه وكمكان امن وحيوى وملىء بالخضره والجمال واخيرا بعد تداعيات الآثار المناخيه اصبح ملحمه للسيطره على تغيرات المناخ ومكاناً جاذباً للسكان للعيش والعمل فيه. هذا من جانب ومن جهة اخرى اصبح دعم الزراعه وتمويل التنميه يتصدران اجندة التعاون الدولى وان اي حراك داخلى والحديث عن ارتفاع معدلات النمو بمعزل عن التوجهات الاقليميه والدوليه التى تدعو الى الاصلاح الاقتصادى ومحاربة الفساد وتوجيه وقسمة فوائد النموعلى السكان وتخفيف حدة الفقر والجوع وتبنى سياسات تنمويه راشده فى المناطق الريفيه والانتاجيه ، سوف يصبح حراكا للاستهلاك المحلى فقط. بنظرة الى واقعنا اليوم حيث تكدس البشر حول اطراف العاصمه الخرطوم ومدنها والزحف البشرى من الارياف نحو المدن التى افرغت واهملت وشوهت بفعل سياسات خاطئه ، يجعلنا نحس بحسره الى مستقبل الزراعه والانسان بالسودان والوضع السحيق الذى وصلت اليه قدراتنا الانتاجيه الزراعيه المطريه والمرويه فى ظل الاعتماد الكلى على البترول الذى اصبح المورد الرئيسى وبدونه سوف ينكشف ظهرنا الاقتصادى وهنالك هواجس من مآلات الوضع فى حالة انفصال الجنوب ، فى تقديرى انه لا مدعاة للخوف من تداعيات الاستفتاء -الا ولاسمح الله من نشوب توتر- فالعلاج بايدينا لا بايدى غيرنا ، فى كل الاحوال وحده ام انفصال ، وقف الصرف الكبير والبذخى على قطاعات بعينها وتوجيهه للخدمات والتنميه فى الارياف والمواقع الانتاجيه، محاربة الفساد على كل المستويات وبقية المعالجات الاخرى المعروفه. وهنا لا نود ان نكرر الحديث الذى اصبحت تلوكه الالسنه كل يوم بشأن توجيه موارد البترول للزراعه ، وهو امر منطقى ، لكن ذات الاراده التى عبأت الطاقات فى السابق نحتاج اليها اليوم اكثر من اى وقت مضى والنظر لرفاهية الانسان وسعادته كاهداف ومرامى ساميه يجب تحقيقها جنبا الى جنب مع بناء الدوله ورسوخ مؤسساتها . فالاجنده الدوليه السياسيه والتنمويه والتجاريه وسياسات التعاون الدولى اصبحت تدور كلها فى فلك الاصلاح السياسى والاقتصادى وبقدر ما تقدمه الحكومات لمواطنيها من حرية وامن وعيش كريم ومساواة وهنا تصبح علاقات التعاون الدولى مؤسسة على قدر من احترام السيادة وتبادل المنافع . ان الفرص لازالت مواتيه لحشد الدعم الداخلى لبناء النهضه الزراعيه على اسس متينه تأخذ مبادىء الفكر التنموى الهادف الى كرامة وسعادة الانسان فى الارياف والمناطق الريفيه الانتاجيه البعيده والقريبه بتوجيه الطاقات وتنسيق وتحريك وتفعيل موارد العون الخارجى من خلال توجيه منظمات العون التنموى وربط برامجها باستراتيجيه تنمويه موحده ذات اهداف متوسطه وبعيدة للمساهمه فى هذا الهدف، ووقتها حتما سوف نضمد الجراح ونخفف الحرمان والبؤس فى كل بيت وقرية وحى ومدينة. ٭سوداني مقيم في بروكسل