إن المفهوم العام السائد عن كره بعض الجنوبيين لوحدة السودان وهو سوء الجلابة وفكر الجلابة! لكن الإجابة على هذا السؤال يتلخص في سؤال آخر هل كل الشمالية بمكوناتها هم الجلابة؟ مولانا محمد عثمان الميرغني ودكتور حيدر إبراهيم وأمير عبد الله خليل ومحمد صالح عثمان صالح وعفاف صالح هم من الشمالية ، ومحمد المعتصم حاكم وبشير احمد سلمان، هؤلاء نماذج لبعض من الشماليين وليسوا أعضاء في الحركة الشعبية لكن عرفهم الكثيرون ممن كانوا في كمبالا ونيروبي والقاهرة. لقد وقفوا مع مفاهيم العدل والمساواة حتى النهاية، وساهم كل منهم لتحقيق ذلك في مجاله، ودفعوا في سبيل ذلك جل حياتهم، فمن الذي نظر لذلك الجانب من قيادات الحركة أو المفكرين الأفارقة؟ ومن جانب آخر من هم الجلابة وكم يمثلون من نسبة سكان السودان؟ وكم نسبة أهل الشمالية من جملة الشعب السوداني؟ 15% أم 20% ؟ فما نسبة الجلابة فيهم؟ فماذا يمثلون بالنسبة للآخرين؟ أولم يقل دكتور جون قرنق إن الدينكاوي يمكنه أن يصبح جلابياً؟ والسؤال الأهم من كل ذلك مع من سيتعايش الجنوبيين في السودان الموحد؟ هل يكره الجنوبيين النوبة أم الفونج أو أهل دارفور؟ لقد عاش هؤلاء مع أهل الجنوب خلال فترة الحرب وفي الجنوب، وعاش مع الجنوبيين بعض من الشماليين، في مختلف المدن التي كانت تحت سيطرة الحركة الشعبية، في توريت وكبويتا وياي ورومبيك، ومريدي، كما عاش الكثير من الجنوبيين في مناطق الجيش الشعبي في جبال النوبة والنيل ألأزرق وحتى شرق السودان، وصاروا جزءا منهم. كان من ذكرته من أهل الشمال وكثر لم أذكرهم، جميعا كانوا يمثلون النواة نحو بناء سودان العدالة ذات الملامح الإنساني. لم يكن هدفهم الكسب التجاري في الجنوب بقدر ما كان ذالك الإحساس بالانتماء إلي هذا الوطن الذي ساهم النوبة في بنائه عبر المؤسسات العسكرية والنضال من أجل الحقوق المدنية، في مختلف الحقب التاريخية الماضية أكثر من مساهمة أهل الشمال، وكذلك كانت مساهمة أهل الجنوب في ذلك كبيرة وقد يناهز ما قام به أهل الشمال، كانوا القوات المحاربة ولحفظ الأمن والنظام خلال الحكم التركي وفي المهدية وصلوا مراتب عالية، كما كانوا الجزء الأكبر من قوات إعادة استعمار السودان حتى أحداث عام 1924، وهنالك الكثير من المشاركات التي كنا نتمنى أن يتم الكشف عنها لولا هذا الجو الغائم الذي نحيا في ظلاله. قد يقول قائل إن هنالك الكثير من الانحرافات في المؤسسة الحاكمة في السودان، نعم الكل يتفق على ذلك، حتى الرئيس عمر حسن البشير ألم يقل في مدينة نيفاشا ليلة 31 ديسمبر 2004، «السودان يا دابو استقل من جديد»، حملت تلك الكلمات مضامين كثيرة وذات أبعاد كبيرة، وأولها الاعتراف بسلبيات الماضي، وكانت الفرصة سانحة للحركة الشعبية أن تعمل من اجل التغيير الكبير الذي يجد الجنوبي فيه نفسه قبل الآخرين! ولكن ما هي ملامح الشخصية الجنوبية التي تطمح قيادات الحركة الشعبية إيجادها من خلال إعادة صياغة المواطن الجنوبي الحالي؟ أو بمعنى آخر ما هو شكل المواطن المفترض إيجاده بعد حقب زمنية معينة؟ وما هو تعريف وطموحات الإنسانية حول سعادة الإنسان والحياة السعيدة؟ هل هو النموذج اليوغندي؟ أو الكيني؟ أم الإثيوبي؟ أم الانجليزي؟ أم نموذج جنوب أفريقيا؟ هنالك خصال معينة لا توجد إلا في السودان، منها الكرم،والشهامة، نصرة الضعيف، التسامح، والسخاء، التوجه الشعبي ، الأثرة، الاجتماعية، الإحسان إلي الجار، احترام الكبير، وغيرها من القيم التي لا توجد إلا في المجتمع السوداني، وهي التي أشعلت ثورة أكتوبر عام 1964 تضامنا مع قضية أهل الجنوب ضد السياسة العسكرية لمجموعة نوفمبر 1958، وهي التي أدت إلي انتفاضة ابريل 1984 لمصلحة قضية وأهل الجنوب، وهي قيم المجموعة الصامتة التي خرجت لاستقبال قرنق في الثامن من يوليو 2005، ألا يوجد مكونات الجنوب في هذه الخصائل؟ فهل أحست بها القيادة ألحالية للحركة الشعبية؟ كانت توجد في الخرطوم حتى منتصف الثمانينيات من القرن الفائت يافطة كبيرة في ميدان الأمم المتحد مكتوب فيها ديباجة ميثاق الأممالمتحدة: « نحن شعوب الأممالمتحدة وقد ألينا على أنفسنا * أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف،. * وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، * وأن نبيّن الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي، * وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدماً، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح. « هذه الكلمات قد ساهمت في صياغة الكثير من المفاهيم التي تم تدميرها، وكان ظن المواطن السوداني أن الحركة ستقوم بإعادة تلك المفاهيم ولذلك خرجت تلك الملايين لاستقبال قرنق، ومن خلال إعادة تجزر تلك المفاهيم، كان ذلك سيساعد في بناء شخصية الإنسان السوداني متضمنا الجنوبي. لنأخذ مثل دولة جنوب أفريقيا، الكثيرين لا يعلمون عن عظمة نيلسون منديلا، انه قد رفض أن يمنح حريته الشخصية في مقابل اعترافه بسلطة الفصل العرقي، ورفض أيضا أن تكون دولة جنوب أفريقيا حكرا للأفارقة السود، دون البيض، كان بعده الإنساني هي التي أوجدت الدولة الحالية لألوان الطيف، لم يكن ذلك من قيم الأخرين، كلنا نتذكر مأساة المهاجرين الأفارقة في جنوب أفريقيا وبخاصة الزيمبابويين وهم مواجهون بموجابي، فكم عددهم يا تري؟ وفي دولة ذات اقتصاد متقدم مثل جنوب أفريقيا، ولها ديون من التعاطف والدعم الأفريقي خلال مرحلة النضال! خذ الشعب السوداني، في بداية الثمانينات كان هنالك أكثر من مليون إفريقي في السودان. كنا نعرف أمكنة الإثيوبيين والارتريين في القضارف وكسلا وبورتسودان وحتى احياء الجريف والديوم الشرقيةبالخرطوم، فهل قتل أحدا منهم لأنه ضايق سوداني في لقمة العيش؟ كان هنالك الكونغوليون في ياي والرجاف ومريدي ووصلوا حتى الخرطوم نافسوا الساعاتية في الخرطوم، والسماكة في جوبا، وأصحاب الفحم في الرجاف فهل طرد أحد منهم؟ التشاديون حدث ولا حرج، دخلوا وعاشوا ورجعوا للسلطة مرتين، حبري عام 1982 ودبي عام 1990، وما زالوا في مدن السودان المختلفة! اليوغنديون عندما انهزم عيدي أمين عام 1979، أعطوا أراضي للزراعة في منطقة كيت (60 ميل في طريق جوبا نمولي)، وتوري (40 ميل من ياي-مريدي)، لا يعلم الكثيرون أن هنالك كينيين لجأوا للسودان بين عام 58/1960، أحد منهم كان كينج مشاري درس في المؤسسات التعليمية السودانية، وتخرج طبيبا من مصر، ولكنه فضل العمل في السودان حتى توفي إلى رحمة مولاه (أظن في التسعينيات)، وكينيون آخرون لجأوا للسودان بعد محاولة الانقلاب الفاشل عام 1982، لم يطردوا ولم يضطهدوا ولم يمنعوا من العمل ولم يقتل حتى واحد فيهم لأنه ضايق سودانياً في لقمة العيش، هذه خصلة يجب أن نفتخر بها جميعا من نمولي إلى حلفا، ومن بور تسودان إلي الجنينة، لأنها خصلة سودانية، لم تكن لمنفعة أو مصلحة، ولا توجد في الدول المحيطة بنا. لا أدري من قد إستمع لقناة الجزيرة بالانجليزية أثناء دورة كأس العالم يوم 18 يونو 2010 في الساعة 7:30 مساءا، (تكون قد كرر)، كان الحديث عن المشجعين الهولنديين الذين سافروا الى جنوب أفريقيا بالبر، وعبروا أثناءها الكثير من الدول، احدهم تحدث عن الرحلة وذكر أن من أحب الدول التي مر بها كان السودان وقال بالحرف «أهلها طيبون، وفي كل منطقة يعزمونهم الى المنازل ويلحون عليهم بالاكل»، كان كلاما جميلا عننا كشعب، حينها شعرت بالفخر كسوداني، هذه ليست خصلة عربية ولا إفريقية، إنها حاجة سودانية نتجت عن تماذج ثقافات وحضارات عدة. في فترة الستينيات والسبعينيات، اخذ المعلمون والطلاب الجنوبيون الى الشمال للعمل والتعليم، خلال الفترة التي قفل فيها المدارس في الجنوب، كان إنطباع كل منهم جميلا جدا ، وهذه قصة طويلة في حد ذاتها. تحدثنا مليا مع الأخ يوسف كوة عن الأديان وبخاصة الدين الإسلامي، وكان عادلا ومؤمنا بأحقية كل فرد في الإيمان بقناعة فردية وكذا العبادة علي ضوء تلك القنا عات، لذا تقدم وكراعي للمجلس الإسلامي للسودان الجديد بطلب إلي مولانا محمد عثمان الميرغني بأن يصبح المجلس الإسلامي للسودان الجديد عضوا في المجلس الإسلامي ألعالمي وذلك يوم 14 أغسطس 2000 (معي صورة لذلك الخطاب). إن من عظمة الدولة الإنسانية التي تصبو إليها الأنفس السوية، أن يتم إشباع كل المتطلبات المادية والروحية لأفرادها وأن علاقاتنا مع ما وراء الطبيعة اعقد من أن يفتي أي شخص بصواب أو خطاء أي دين، لكن الدولة السوية هي التي توفر العوامل لخلق ألانسجام والمعادلة النفسية والعقلية في شخصية كل مواطنيها، وهذا لا يأتي إلا من خلال الإيمان بالمبادئ العامة لحقوق الإنسان، وتحويلها إلي سلوك حضاري مثلما كانت بعض منها في السبعينات. سألني احد الأصدقاء من الجنوب والذي تربى في أمريكا اللاتينية، «السودان دولة كبيرة ليه الناس ما قادرين يقعدوا سوا؟»، عندما لم أجد الرد علي خيابتنا، أجبته «احتمال نحتاج نجيب الصينيين الاعدادهم كبيرة وقاعدين بسلام في حتة صغيرة يورونا كيف كمان نقدر نقعد سوا»، هذه المساحة التي تستطيع أن تتحمل أكثر من أربعة بلايين بالمقاييس الصينية، أفلا يعقل أن يتحملنا ونحن لا نزيد عن الأربعين مليونا لنحولها إلى جنة الله في الأرض؟ عودة إلي ألجهود الأفريقية فلقد عقد في 209 مؤتمر الدراسات العالمية عن السودان، بعنوان مستقبل السودان للعام 2011 وما بعده: الإبعاد الأفريقي عن السلام والاستقرار والعدالة والمصالحة، جامعة جنوب أفريقيا، بريتوريا 25-28 نوفمبر 2009. رغم أهمية الأوراق التي قدمت، فليس بينها ما تناول مستقبل المناطق الثلاث وتوقعاتها وعن الفترة الانتقالية التي كان من المفترض أن تبذل فيها المجهودات من اجل جعل الوحدة جاذبة أو إعطاءها الفرصة على أالأقل، للأسف لم تكن هنالك ورقة تتحدث عن جاذبية الوحدة وفرص الوحدة، إنما كان التركيز على الاستفتاء وما ستتمخض عنه، وكان المؤتمر الفرصة الأفريقية المناسبة لبذل بعض المجهودات، وبخاصة عندما نجد البيان الختامي للمؤتمر يذكر الآتي من ضمن أشياء أخرى: «نحن علي إدراك شامل بان السودان يواجه تحديات خطيرة في استقراره السياسي، وتماسكه كأمة ذات سيادة وان الدولة تتجه إلى مستقبل كئيب، ما لم يتم اتخاذ إجراءات جادة وحقيقة وبسرعة لتهدئة التوتر السائد والمساعدة في ترقية والمحافظة على العدالة والسلام والأمن والمصالحة والوحدة - وهي ظروف حيوية للتنمية وللتحسن الجاد لأحوال المرأة والنازحين واللاجئين.» أيضا تضمن البيان الختامي للمؤتمر المناشدة وبقوة لأطراف اتفاقية السلام الشامل والإيقاد ودول الترويكا ( الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدة والنرويج)، والاتحاد الأفريقي والأممالمتحدة، ولكل القوى السياسية والمجتمع المدني في السودان، لوضع مقاييس التي تضمن أن يتم عقد انتخابات واستفتاء موثوق به علي حسب اتفاقية السلام الشاملة والدستور القومي الانتقالي ودستور جنوب السودان! لقد ذكر أن السودان يواجه تحديات خطيرة ويطالب بالعمل نحو ترقية والمحافظة علي العدالة والسلام والأمن والمصالحة والوحدة، ولكن كيف؟ والكثير من المشاركين على قناعة بالأفكار القائلة بان يتم الوصول إلي الاستفتاء بهدوء وسلام حتى يتم فصل الجنوب، فهنا يكمن السؤال هل تم إعطاء فرصة للوحدة من قبل الجانبين؟ وهل حاول الآخرون ذلك؟ أم أستسلم ألكل لهذا الموقف الانهزامي الذي يتم فرضه على السودانيين؟ كما ذكرنا فإننا سنحاول الإجابة على بعض هذه الأسئلة ويحدونا كبير الأمل في أن تكون هذه مساهمة ايجابية للمراجعة، حتى يعرف الجميع بعض مما يمكن أن يجمعنا معا كسودانيين ويجمعنا كأفارقة مع المجتمع الإنساني الأرحب. قال منديلا إأثناء محاكمته الثانية عام 1964 «لقد تعلقت بمفاهيم الديمقراطية والمجتمع الحر والذي يعيش فيه كل الناس معا وبانسجام .... إنها المثالية التي أتمني أن أعيش لها وأحققها. ولكن إذا تطلب الحاجة، فإنها المثالية التي من اجلها مستعد أن أضحي بحياتي» وعند افتتاح أول برلمان منتخب ديمقراطيا في جنوب أفريقيا عام 1994، قال الرئيس منديلا «إن الحكومة التي أتشرف بقيادتها، ويمكنني التجروء بالقول بأن الجماهير التي أختارتنا للخدمة في هذا الدور، هي ملهمة بالرؤية الوحيدة نحو خلق مجتمع حيث يكون الشعب في المركز. وبالتالي، فإن الاهداف التي ستدفع هذه الحكومة ستكون توسيع حدود الانجازات البشرية والتوسيع المتواصل لحدود الحرية» كان الفارق بين قولي منديلا ثلاثة عقود من الزمان، ولكن تم فيها تحقيق الكرامة للإنسان في جنوب أفريقيا، الأبيض والأسود معا، فهل يمكننا معرفة بعض من أسرار الحياة في المقولتين، ونسأل هل المسافة التي تفصلنا كسودانيين، هل هي أكبر من تلك التي كانت في جنوب أفريقيا؟ فإن فعلها منديلا هل ستكون عصية لنا؟ وبخاصة مع بزوغ بعض الأمل في تصريحات من المنظمات الإقليمية والعالمية حول العمل على إضفاء جاذبية على الوحدة وهي ما نصت عليها الاتفاقية، ولكن في الختام فالشعب السوداني في جنوب السودان هو الذي سيقرر مستقبله، وأتمني أن يقرر وهو علي دراية بما يفعله. ولكن أين دارفور من كل هذه الدوامة؟ سنواصل. محمود الحاج يوسف عضو سابق بالحركة الشعبية، والرئيس السابق للمجلس الإسلامي للسودان الجديد وباحث مستقل. [email protected]