حين الحديث عن السياسات الاستعمارية وآثارها على السودان لا يقصد هنا وضع اللوم على الاستعمار لتبرئة النفس والتستر على الأخطاء وإنما يراد هنا تأكيد الحقائق الثابتة المتمثلة في أن الشمال والجنوب رزحا معاً ولأمد طويل تحت نير الاستعمار وذاقا معاً مرارة الكبت والاضطهاد من قبل الاستعمار وإن الاستعمار مارس من الأعمال البشعة ما يقتضي أن نعني عناية خاصة بفحصها ورصدها حتى يتبين لأجيال الغد مدى فداحة تلك الممارسات وما ورثناه عنها من ويلات إذ أن الفترة من الفتح الإنجليزي المصري منذ عام «1899م» وإلى الاستقلال كانت السياسة التي اختطتها الإدارة الإنجليزية في جنوب السودان ترتكز على محورين هما حفظ الأمن وتنفيذ ورعاية القانون وذلك بتكريس سياسة القهر العسكري مما جعل الباب موصداً تماماً أمام أي عمل إنشائي أو اجتماعي إلا بالقدر الذي يحفظ الأمن وقد سمحت السلطات في هذه الفترة للجمعيات التبشيرية بمزاولة نشاطها التبشيري وذلك بغية إحداث نوع من التحسن العام في أحوال السكان واكتساب ولائهم للحكومة إضافة إلى تنصيرهم وإلحاقهم بالدين المسيحي الذي قسم المديريات الجنوبية لمناطق نفوذ حسب المذاهب الكنسية المختلفة والتي تحميها الحكومة وتعينها على بسط نفوذها وكانت الإدارة الإنجليزية أثناء العقدين الأولين من عمرها تعتبر مصر والسودان وحدة مالية وإدارية واحدة وتنظر إلى السودان بوصفه جزءاً لا يتجزأ من مصر ولكن انفجار الثورة المصرية عام «1919م» كشف مخاطر الاستمرار على هذا النهج على الاستعمار إذ خاف أن تسري روح الثورة الوطنية من مصر إلى شمال السودان ثم من هنالك إلى المديريات الجنوبية ومن ثم سعت الحكومة البريطانية جاهدة منذ ذلك الحين لفصل السودان عن مصر إدارياً ومالياً وسياسياً كما سعت في نفس الوقت ولنفس السبب لتعميق الخلافات الكائنة بين شمال السودان وجنوبه وذلك بغية فصل الجنوب عن بقية القطر ولتحقيق تلك الأغراض ومنعاً لاستعراب الجنوب وانتشار الإسلام فيه بعوامل الاتصال والارتباط والاختلاط أصدرت الإدارة البريطانية في السودان عام «1922م» قانون الجوازات والتصاريح وهو قانون خول للحاكم العام سلطة إعلان أية منطقة من السودان منطقة مغلقة للتجارة إلا بالنسبة لسكانها ومنحه أيضاً سلطة منع انتقال العمالة داخل وخارج السودان ثم أُعيدت صياغة سياسة الإدارة البريطانية تجاه الجنوب في المذكرة التي وجهها السكرتير الإداري سير هارولد ماكمايكل في 25 يناير عام 1930م إلى جميع الإداريين البريطانيين العاملين بالجنوب وأكد فيها أن سياسة الحكومة في الجنوب ترمي إلى قيام وحدات عرقية وقبلية مستقلة تقوم على العادات المحلية والعرف وكذلك المعتقدات القبلية وقررت المذكرة أن الإجراءات المطلوبة لتنفيذ هذه السياسة هي تهيئة كادر من العاملين إداريين وكتبة وفنيين وجميعهم لا يتحدثون اللغة العربية وكذلك الحد من استخدام اللغة العربية في الجنوب وهنا يجب الإشارة في هذا الصدد لمؤتمر الرجاف عام «1928م» والذي عنى بشكل خاص باللغات واللهجات وأوصى باختيار بعض اللهجات الرئيسية لتطويرها واستخدامها وسائل للتعليم ثم العمل للحد من هجرة التجار الشماليين إلى الجنوب وتشجيع هجرة التجار السوريين وكذلك اليونانيين والمسيحيين الذين يسايرون السياسة الإنجليزية ثم دخلت السياسة البريطانية بالنسبة للسودان طوراً جديداً عام «1943م» إذ أنشأت المجلس الاستشاري لشمال السودان وكانت سلطاته استشارية كما أنها لم تشمل جنوب السودان وقد حاول السكرتير الإداري سير دو جلاس نيو بولد تبرير ذلك بقوله إن أهل الجنوب لم يكونوا مؤهلين بعد للتمثيل في المجلس وكان مؤتمر إدارة السودان الذي دعا إليه الحاكم العام في عام «1946م» أول خطوة في طريق العدول عن السياسة الجنوبية حيث أعلن الحاكم العام أمام المجلس الاستشاري أن المؤتمر سيدرس كل القنوات التي تمكِّن السودانيين من المشاركة في إدارة بلادهم أكثر من ذي قبل وانعقد المؤتمر فأوصى بتحويل المجلس الاستشاري إلى جمعية تشريعية تتألف من أعضاء سودانيين ليمثلوا السودان بأجمعه شماله وجنوبه كما أوصى بإلغاء أمر رخص التجار لسنة «1928م» واتباع سياسة واحدة للتعليم في السودان كله وتعليم اللغة العربية في مدارس الجنوب وتحسين طرق المواصلات بين جزئي السودان.