يدخل الحارة في الشتاء بجلبابه الكستور الأزرق الباهت عليه معطف كاكي قديم لا يُغيِّره صيفًا أو شتاءً. يُنادي: ?لَبَاااان?. ينطق كلمة ?لَبَن? ممطوطة وبصوتٍ جَهيرٍ عالٍ. يفتح أصحاب الرَّاتب اليوميِّ أبوابهم أو نوافذهم، وعشَم عمّ إسماعين في ظهور زبائن جدُد. يأمل في المواسم النادرة مثل عاشوراء ومولد النبيّ أن يبيع كمِّيَّات أكثر من اللبن. ويفرح يوم نطلب منه، على غير عادة أو توقُّع، كميَّةً إضافيَّة لعمل أرز باللبن شقاوتنا تتجاوز الحدود ونحن في سنٍّ بين السادسة والعاشرة. ?عمّ إسماعين?، كما نحبّ أن نناديه، رجُلٌ طيِّب القلب، يضحك من قلبه حتى نرى أسنانه الكبيرة الصفراء، ونحن عليه قُسَاة، نحاول أن نستقوي عليه وعلى شنبه الكبير وحجمه الضخم. نقول له: ?ربع لتر يا عمّ إسماعين!? يدلق الرجل في الكزرولة ربع اللتر، ونحن نمسك بجلبابه ومعطفه من الأمام ومن الخلف، فيضحك، فهو يعرف أنه الآن في المصيدة اليومية. نقول في نفَسٍ واحد بعد أن يدلق ربع اللتر في الكزرولة: ?اتْوَصَّى يا عمّ إسماعين.. ما تخلِّيش إيدك ناشفة كده!? كلمات نتعلَّمها يوميًّا بسرعة من قاموس نساء حارتنا اللسناوات أثناء مساوماتهنّ العنيفة مع الباعة الجائلين. يكبّ عمّ إسماعين بعض اللبن من القسط الكبير في الكوز الصغير المقياس ويصبّ في الكزرولة. ونحن أمامه وخلفه أكثر تشبُّثًا بالجلباب والمعطف. يضحك قائلاً: ?لأ لأ.. كفاية كده!?. نتشبَّث به أكثر. فيضع قطرةً أخرى أو قطرتيْن. نشعر بقوَّته حين ينتزع نفسه منَّا ببساطة وينزل السلّم وهو يُقهقه قائلاً: ?الله يجازيكم يا عفاريت قبل الدخول نتقاسم الغنيمة الزائدة. كلّ واحد شفطة لبن سريعة قبل الدخول، مع مسحة بساعد وكفّ اليد محوًا لآثار الاختلاس. أحيانًا نطمع ونبالغ في الشفط فيقلّ حجم اللبن في الكزرولة، نلجأ إلى الحنفيَّة ونضيف بعض الماء دون أن يرانا أحدٌ من الكبار. إن حدث واكتشف أحد الكبار أنَّ كميَّة اللبن قليلة ندَّعي البراءة والجهل. فيصبّ الكبار غضبهم على عمّ إسماعين ويتوعَّدونه في اليوم التالي المصيبة أعظم لعمّ إسماعين إذا ما ?انقطع? اللبن في بيوت الحارة. وهي حالات نادرة حين يتمّ غَلْيُ اللبن فلا يفور، بل يتخثَّر إلى قطع بيضاء تعوم في سائل أصفر فاتح. نفرح بمصيبة الرجل ونهجم بملاعقنا على اللبن الخاثر بعد أن نضيف إليه كثيرًا من السكَّر ونترك الأهل يتوعَّدون عمّ إسماعين، ونشرب الشاي سادة في صباح اليوم التالي. حين يأتي المسكين إلى البيوت لا يناله فقط التوبيخ على فساد اللبن بل عليه أن يُضاعف الكميَّة مجَّانًا جزاء ما فسد بالأمس. يُبرطم المسكين بالشكوى منَّا نحن الصغار وإلى الله: ?منكو لله يا غاويين الأذيَّة!?، وفي هذه الحالات يخرج الكبار لحسم الأمر معه. يتنازل المسكين بسرعة حتى لا يتهدَّد في أكل عيشه في مساء كلّ يوم نسمع: ?لَبَاااان?. نخرج ونتشعبط في معطف عمّ إسماعين. نطلب منه أن ?يتوصَّى? ويزيد. نشرب اللبن خُلسةً. يقطع اللبن نادرًا. يُعوِّض اللبن البائر. تتعدَّى عليه إحدى النساء بأنه يغُشُّ اللبن. يحلف رجلٌ كاذب بأنه رأى عمّ إسماعين بجوار الحنفيَّة العموميَّة يضع الماء في قسط اللبن. يحلف عمّ إسماعين إنه وقتها باع كلَّ اللبن وإنه كان يغسل قسط اللبن. لكنَّهم يعودون أخيرًا للشراء منه أراه في أحد الأيام على غير عادته، حزينًا. أتشعبط فوق معطفه طالبًا الزيادة. أراه قد زاد من نفسه قبل أن نبدأ الطقوس اليومية، وهو لا يفعل ذلك عادةً من نفسه. وإنما يُقلل الكمية أوَّلاً كي يُوحي لنا بأنه يزيدها فيما بعد. لعبة مفتعلة نلعبها نحن معه على طريقتنا باستمتاع وهو أيضًا على طريقته، فهو طيِّب القلب أسيان لكنَّه أيضًا ماكرٌ كبير. أراه في هذا اليوم. يترجَّاني أن أسأل أبي أو أمِّي إن كان بالإمكان أن نأخذ الراتب اليومي نصف لتر، أو لترًا، بسعر أرخص، فاللبن معه يزيد كلَّ يوم. أسأل، تكون الإجابة بالنفي. يتكرَّر السؤال من عمّ إسماعين كلَّ يوم وتتكرَّر الإجابة. أراهُ يُضاعف الكميَّة في الأسابيع التالية دون مبرِّر ودون طلب زيادة في السعر، لا يهتمّ بالشعبطة على معطفه. ابتسامته تُصبح سريعة وكالحة ولم أعُد أسمع قهقهاته الجهيرة ولا أرى أسنانه الكبيرة. أسأله - ?ما لك يا عمّ إسماعين؟ أنت عيَّان؟? - ?لا يا بني كفى الله الشرّ!? ثمّ ينصرف أسأله في اليوم التالي ألاَّ يزيد الكميَّة. أعتقد أننا نستغلُّه ونتسبَّب في خسارته. وأبدأ في التعامل معه برجولة وجِدِّيَّة ودون شعبطة. أكرِّر - ?ما لك يا عمّ إسماعين.. مش عوايدك؟? يقول في أسى - ?ماحدِّش عاد بيشتري لبن يا بني.. مصنع اللبن البودرة الجديد في المطريَّة (يسكت لحظة) الله يجازيهم بقى.. قطعوا رزقنا! ? أدخل الشقَّة بعد أن أشرب نصف شفطة حليب، وأفكِّر في مصنع اللبن البودرة. أسأل أبي - ?يعني إيه لبن بودرة؟? - ?ش شش! استنَّى خلِّينا نسمع نشرة الأخبار? أسأل أمِّي، ترُدّ - ?لبن بودرة ده في الأجزخانة عشان العيال الصغيَّرين.. بتسأل ليه؟? أتابع هامسًا بسبب نظرات أبي الغاضبة من بعيد - ?أصل عمّ إسماعين بيقول إن مصنع البودرة قطع اللبن الجديد في المطريَّة? تنظر أُمِّي إليَّ باستغراب، أتَّجه إلى المطبخ، أغلي اللبن حتى لا يفسد. أخشى أن يقطع اللبن ويغرم عمّ إسماعين في اليوم التالي بمضاعفة الكميَّة حين يفورُ اللَّبن وأتأكَّد من سلامته، أخرج فَرِحًا وتصدر منِّي صيحة فوز: ?يعيش عمّ إسماعين تقول أُمِّي لأبي: ?الواد اتْهَبَل ولاّ اتجنِّن؟? يضحك أبي ويهُزُّ رأسه مُتعجِّبًا وأنا مبسوط (ڤيينا في 26- 6- 1996)