إنطلاق دورة أعمال الشئون القانونية التي تنظمها الإدارة العامة لتدريب الضباط بقاعة دار الشرطة عطبرة    مليشيا الدعم السريع تجتاح قرية البابنوسة شرق مدني وتقتل وتصيب 8 أشخاص    تعرف علي أين رسم دافنشي «الموناليزا»    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    عقار يلتقي وفد مبادرة أبناء البجا بالخدمة المدنية    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    الفريق حقار يتفقد جرحى معركة الفاشر بالمستشفى الجنوبي    كوكو يوقع رسمياً للمريخ    برقو لماذا لايعود مديراً للمنتخبات؟؟    صابر الرباعي بعد نجاح أغنيته: تحبوا تقولوا عليا باشا تمام كلنا بشوات    باريس يسقط بثلاثية في ليلة وداع مبابي وحفل التتويج    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    السودان يشارك في اجتماعات الفيفا    جماهير الريال تحتفل باللقب ال 36    قرار مثير لمدرب منتخب السودان    مصر تدعم دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام العدل الدولية    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    الروابط ليست بنك جباية وتمكين يا مجلس!!    الكباشي يصل الفاو    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني "الشكري" يهاجم الفنانة نانسي عجاج بعد انتقادها للمؤسسة العسكرية: (انتي تبع "دقلو" ومفروض يسموك "السمبرية" وأنا مشكلتي في "الطير" المعاك ديل)    شاهد بالصورة والفيديو.. بطريقة "حريفة" ومدهشة نالت اعجاب الحاضرين.. سائق سوداني ينقذ شاحنته المحملة بالبضائع ويقودها للانقلاب بعد أن تعرضت لحريق هائل    نتنياهو مستمر فى رفح .. إلا إذا...!    ترامب شبه المهاجرين بثعبان    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    السيسي: لدينا خطة كبيرة لتطوير مساجد آل البيت    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    هل ينقل "الميثاق الوطني" قوى السودان من الخصومة إلى الاتفاق؟    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    النموذج الصيني    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سودان ما بعد «حروب الهوية»
نشر في الصحافة يوم 09 - 10 - 2010

قد تفضي اجراءات ما بعد الاستفتاء مطلع العام القادم 2011م الى تأسيس دولة سودانية أخرى بعلم ونشيد جديدين ورموز وقدرات وجوبا عاصمتها وهي تتطلع الى «الندادة» مع العاصمة الاتحادية اليوم. على غرار ما حدث في موجة تيار الاستقلال لدول افريقيا ان احتفظ سودان اليوم والذي كان يعرف ب «السودان الانجليزي المصري» باسم السودان، فيما تنازلت مالي التي كانت تعرف بالسودان الفرنسي عن الاسم، فقد تتنازل الدولة الجديدة عن الاسم الحالي، وتبحث عن اسم يميزها عن سودان اليوم، حتى ولو تطورت اقدار الدولتين مستقبلا تحت مسميات جديدة من التحالف، او التدامج او الوحدة. واذا ما حسن حظ الدولتين السودانيتين فان نموذج تشيكوسلوفاكيا حال انفصالها الى دولتين قد يصبح نموذجهما الامثل على قاعدة الاعتراف بالتنوع، والحاجة الى التعاون في مناخ اقليمي ودولي مؤيد ومناصر للطرفين وعلى اساس احترام الحقوق الموروثة، والمستقبل المشترك على جغرافيا مشجعة على التعاون.
ان معطيات اتفاق السلام الشامل، والدستور الانتقالي قد تتطور الى تسهيل عمليات الانتقال الى الواقع الجديد عبر الاستفتاء، وذلك معلوم، ولكن مع ذلك فقد شهدت بلادنا في نحو اسبوع بعضنا وهو يقرع طبول حرب لن يستجيب لها الرأي العام السوداني بمحورية المستنير والشعبي. لقد ادرك السودانيون اليوم ان الحرب على الهوية قد انطوت صفحتها الى الابد في السودان، وبقواعد الدستور ونصوص القوانين بما فيها تلك التي تحت الاستكمال بالتعديل، فان ضمانات الحفاظ على الهوية الثقافية وتطويرها على قاعدة العرف والعقيدة والجهة.. الخ والقبول بها محليا وقوميا قد توفرت تماما، اما الانتقال الى واقع القبول والتراضي بما تم الاتفاق عليه وشهد به العالم فان اجراءاته قد بدأت ولن تعود القهقرى بعون من الله تعالى وعون اقليمي ودولي وافر ومستجيب للتحديات ولن تعود بلادنا الى مربع الحرب بسبب الهوية مرة اخرى كما يبدو، اذ اصبح المجال متاحا امام الجميع للاعلان عن هوياتهم والتعبير عنها بحرية عبر كل الوسائط السلمية، وفرص التعبير عن الهوية السياسية في كل مستويات الحكم من خلال انتخابات حرة ونزيهة تزداد يوما بعد يوم، بفضل الاوضاع الدستورية المتطورة والناشطين في المجالات المختلفة بما في ذلك مجال حقوق الانسان التي تتسق مع الشرائع الدولية خاصة وان السودان عضو اصيل في الجمعية العامة للامم المتحدة وشريك فاعل في كل وكالاتها ومنظماتها الاقتصادية والثقافية والقانونية.
كل ذلك صحيح بالضرورة ولكن ايضا امام بلادنا ظلام كثيف ومتاريس وعقبات واوهام ترسبت عبر التجربة المركزية الطويلة لممارسة الحكم، وهي ممارسة مختلطة بمخلفات نزاع المركز مع مكونات البلاد السياسية والاقليمية حول الحقوق الاساسية، بدل ان يسعى المركز الى الحوار مع معارضيه لجأ الى العنف والتحييد والاخضاع بوسائل قانونية وامنية وعسكرية ب «سواتر» سياسية متعددة، وشعارات مثل الوحدة الوطنية، والوحدة الدينية، او اللامركزية وان جاءت شوهاء مضيعة لاصوات الاغلبية التي يحق لها المشاركة في حكم البلاد بتشريعات عادلة.
تلك قصة طويلة خطت الاقاليم نهايتها بحمل السلاح في مواجهة المركز القابض، كما فعلت القوى السياسية ذات الشيء من قبل، وهكذا اصبح شعار «تفكيك المركز» شعارا مميزا للمضي قدما في انهاء تسلط المركز واقصائيته وهيمنته. لقد حمل السودانيون السلاح بدوافع سياسية واقليمية من اجل استعادة الديمقراطية وانهاء النظم الشمولية، وحملوه من اجل التأكيد على التنوع وانهاء النظم المركزية وان تدثرت بالمقدسات الشعبية، هكذا ومن خلال ما يجري اليوم، فان التحالف المرشح لبناء جديد في سياق المستقبل للسودان، انما هو تحالف تحت التكوين على قاعدتي التنوع في كل دوائره الجغرافية والعرقية والثقافية، والديمقراطية في كل مستوياتها.
ربما يصبح الجنوب نموذجا للتحالف بين التنوع والديمقراطية معا، واذا ما تحقق ذلك فان قوى المستقبل في السودان تكون قد كسبت اولى جولات التحول الكبير نحو الديمقراطية والتنوع معا. ثم تأتي الخطوة التالية من الشمال، عندما يستطيع من يعرفون اليوم بالانفصاليين الشماليين الى التحول الى طاقة ديمقراطية مؤثرة، اذ ان دعواهم للانفصال قائمة على الهوية الثقافية الدينية، وذلك امر تم الاعتراف به واحترامه في اتفاق السلام الشامل والدستور الانتقالي وتأكد دعمه من كل القوى السياسية والمدنية السودانية الاخرى في اطار التحول الديمقراطي خارج دوائر العنف والمماحكة. ان منبر السلام العادل بوسعه ان يتقدم لقيادة الشمال الجغرافي، خاصة وان الشمال يملك رصيدا تاريخيا وسياسيا يضمن به القبول وسط المجموعات السودانية الاخرى في الشرق والغرب والجهات الاخرى.
لقد استطاع اهل الشمال بوسائل مختلفة اهمها التعليم والافادة من خبرات الحداثة التي وفرتها النظم الاستعمارية وورثتها الحركة الوطنية واسسوا بذلك قدرات قيادية متنوعة كان بالوسع تطويرها وتوسيع قاعدة الخبرات الوطنية بها بوتائر اعلى، ولكن الذي حدث ان الصراع لابقاء السلطة المركزية تحت ارادة خريجي مدرسة الحركة الوطنية وغالبيتهم العظمى من الشمال، اصبحت المركزية ومنطقة «حوض وادي النيل الاوسط» متطابقتين في ظلم الآخرين من السودانيين، واتجهت السهام الى تفكيكها وفي بعض احيان عندما ينظر الى المركز يكون شاملا المجموعات السودانية في مناطق الوسط النيلي. في هذه الحالة وبلادنا تسعى لمستقبل متراضى عليه، يقع واجبا على الاطراف البحث بدقة وشمول الى آليات التفريق بين اهل الوسط والشمال وبين النظام المركزي الظالم والبغيض ايضا.
لعل مجموعات من يعرفون بالانفصاليين الشماليين اليوم في منبر السلام العادل، ربما استطاعوا اذا ما تحرروا من ضغائن غير ضرورية ان يمثلوا تلك الآلية للتفريق بين السودانيين من ذوي الهوية الوسط نيلية وهم مطلوبون بقدراتهم للمساهمة في بناء المستقبل كغيرهم من السودانيين، وبين النظام المركزي الذي تهيج به سودانيو الغرب والشرق والجبال والنيل الازرق والجنوب الذي قد يمثل نموذج النجاح في القبول بسودان التنوع والديمقراطية.
ان اناسا من امثال الطيب مصطفى يمكن ان يساهموا ايجابيا اذا ما تمكنوا من الخر وج من دوائر الغضب الاشتر والانفعال والتوتر الذي يظهر به الطيب في اجهزة الاعلام. لقد عجبت له وهو يصور لصحيفة الرأي العام مؤخرا مشاعر سالبة تجاه عضوية الحركة الشعبية لتحرير السودان، الى حد الاعلان عن قراره انه لا يتعامل مع اي منهم حتى تكتمل اجراءات فصل الجنوب. بعد ان طالعت ما قال، عبرت بي مقارنة تبدو طريفة اذ عرضت قناة CNN في اعقاب اعلان نتائج الانتخابات الامريكية لحالة احد المواطنين الامريكيين البيض، عرفت القناة الرجل وهو ثمل ويحمل قارورة كبيرة من الخمر وكان مغمض العينين وهو يقول انه سيظل مغمض العينين وثمل الى ان تنتهي سنوات اوباما الاربع في البيت الابيض. لم يخطر ببال ذلك المواطن الامريكي ا لمفجوع من فوز اوباما معاني مثلنا السوداني «زعل الحر من الحر كد عود» اذ يدهش المثل من الذي يقطع صلاته مع شخص آخر مثله يملك ارادته وقدراته، وان اختلف معه في الرأي، فيصبح كمن يريد الانتقام لنفسه من عود خشب اعترضه فيقبل عليه عضا وكدا. ان منبر السلام العادل سيصبح عادلا حقا ومعترفا له بالفضل اذا ما استطاع ان يمايز هوية الشمال سياسيا وثقافيا بالوسائل السلمية والديمقراطية، ويباعد بينها وبين النظام المركزي الذي هو تحت الاقتلاع وايداعه في ذمة التاريخ بالاتفاق الشامل والاتفاقات الاخرى والدستور القومي الانتقالي والنضال السوداني التاريخي والمعرفي، ليس ذلك فحسب بل عليه تعظيم الارادة السودانية تعاونا مع الآخرين لايجاد مركز جديد وعادل بسياسات تقوم على قبول التنوع والديمقراطية والتواضع لهما.
ان مدخل اهل السودان للتراضي حول التنوع والديمقراطية انما يتضح اكثر باجراءات وترتيبات قد تبدو قاسية في الظروف العادية، ولكن لا مناص منها لاستكمال التسوية التاريخية التي تجعل الانطلاق نحو مستقبل افضل ممكنا. لعل اهم المداخل لتلك الاجراءات انما تتمثل في مراجعة هياكل الدولة بما يتسق والحاجة الى التنوع والديمقراطية او قل اعادة بناء سياسات الدولة بمرجعية اللامركزية الفيدرالية والديمقراطية في مجالات حيوية في مقدمتها مراجعة سياسات التوجيه بما في ذلك التعليم والتثقيف والاعلام والارشاد الديني والفنون والآداب.. الخ، ثم مراجعة وبناء سياسات الامن والاستخبارات على النحو الذي يجعل الامن القومي شراكة ومسؤولية للافراد والجماعات والمؤسسات بدافع الحفاظ على القيم المشتركة للتنوع والديمقراطية، كما ان تعديل سياسات الاقتصاد الوطني والاستثمار بما يتسق وتنمية القدرات المحلية والولائية والاقليمية اذ لا يبدو معقولا تفشي الفقر في اقليم مثل دارفور وهو يتمتع بقدرات بشرية واقتصادية وافرة، وليس اخيرا سياسات استعادة المبادرة لعلاقاتنا الخارجية بشراكة كل اقاليم الوطن، فليس كافيا ان يكون هناك مركز واحد لادارة العلاقات الخارجية في بلد متنوع العلاقات اقليميا ودوليا مثل السودان.
ان القدرات السودانية وهي متنوعة وثرية تستطيع بشراكات خارج دوائر العنف بناء سودان اقوى واميز.. سودان ما بعد حروب الهوية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.