قالها السيد الصادق المهدي ومدادها لم يجف بعدُ : (نيفاشا مثل الجبنة السويسرية جاءت كلها ثقوب)، وأردف سيادته القول - ونشوة التبشير بنيفاشا لا زالت خمرها تدير الرؤوس - : ( اشتملت نيفاشا على كثيرٍ من النصوص الرمادية التي لا شك أنها ستفتح الخلاف مستقبلا)،فخسارةٌ كبيرة،أن نيفاشا لم تتح فيها مساحة لطاقات مثل السيد الصادق المهدي،وعلى محمود حسنين،وغيرهم ممن عاركوا العمل السياسي في التنظيمات السياسية الأخرى، ممن جمعوا بين الفكر والتجربة، خسارةً كانت،يوم أن أصر المؤتمر الوطني، والحركة الشعبية ،على أن يكتبا الفصل الأخير، في تاريخ السودان، فكانت الطامة،وكان الطوفان،الذي مدت طلائعه رؤوسها في هذه الأيام الغبراء. إننا بالتعنت،وركوب الرؤوس،وممارسة الإقصاء،دَوَّلنا مشكلات البلاد،وأصبح شأننا شأن البصيرة «أم حمد»، فلا «زير» الوحدة جنباه التحطيم والتكسير، ولا «تور» السلام حفظنا رقبته من الذبح الغبي،واليوم جاءنا وفد الأممالمتحدة،ومجلس أمنها، يريد أن يكمل الناقصات ،بزعم أنه يسعى لانتشالنا من وهدتنا، لكنه في الحقيقة انتشال المتعجل لجثة الغريق،يريد الوفد الأممي أن يدفن السودان الكبير في عجالة لا تعرف التريث، ولأجل ذلك ركز بؤرة عينيه على إجراء الاستفتاء في أجله المضروب،على أي نحوٍ كان، وأياً ما كانت نتائجه، مع أن العاقل الفطن يدرك تماماً،أن إجراء الاستفتاء في الظروف الحالية لا محالة سينتهي بنا إلى حربٍ لا تبقي ولا تذر، وكما قال السيد الصادق المهدي: ( إن وفد مجلس الأمن اهتم بالشكل الإجرائي ولم يلتفت إلى المعنى والجوهر)،فهو يريد إجراء الاستفتاء وإقرار نتيجته التي تقول تنبؤات الجميع إنها الانفصال،ولكن أي انفصال؟، إنه انفصال التشرذم والتشتت والاحتراب، فالأمور العالقة في نيفاشا التي تركتها النصوص الرمادية معلقة، أكبر من أن يحسم الخلاف حولها،خلال الثلاثة شهور المتبقية ،على يوم القيامة ،الذي يصر الشريكان ،ومجلس الأمن، ورعاة الاتفاقية،على نفخ صوره، بعد أن أحاطه الجميع بتقديسٍ يصنم حرفية النصوص ،ويتقرب إلى الشكلانية زلفى،غير عابئٍ بالدمار، والخراب ،الذي قد يترتب عن تلك العبادة، وعن ذلك التقديس،ولا يعنيه أن تموج أرض السودان بأهلها، احتراباً واقتتالا، يهلك الزرع والنسل ،بل قد يصومل البلاد،ويجعلها هشيماً تذروه رياح الفشل والإخفاق. إن نيفاشا ،في الحق والحقيقة، لم يكتبها أهل السودان،ولا هم الذين فصلوا نصوصها،وإنما الذي فعل ذلك،وفرضها عليهم هو الأجنبي،وهو الذي يقوم على أمر تنفيذها الآن،من غير حولٍ لنا ولا قوة ، ويحضرني في هذا المقام،ما أورده الدكتور منصور خالد،في مقدمة كتابه التوثيقي « قصة بلدين- السودان أهوال الحرب وطموحات السلام « الذي صدرت طبعته الأولى،وأهل نيفاشا لا زال سامرهم ينفض ويجتمع، فبالتزامن مع إخراج نيفاشا، بشرنا الدكتور منصور خالد،في مقدمة سفره الذكي البليغ «قصة بلدين» ،بأن هناك سلاماً آتياً، شاء الناس ذلك أم أبوا، وقطع القول بأن المفاوضات المنعقدة وقتذاك، في ضاحية نيفاشا الكينية ،لن ينفض سامرها بغير اتفاق ينهي الحرب ،شاء من شاء وأبى من أبى، وقتها قال لي صديقي صلاح بشير: (الدكتور منصور خالد رجلٌ كُشفت له الحُجُب) ، يقصد بذلك قربه من مراكز صنع القرار الدولي، ومعرفته بآلياته ،ووسائل إنتاجه ،وفرضه على الدول والمنظمات- وأردفت القول معلقاً على كلام صديقي: إن قراءتي لكتابات الدكتور منصور خالد تجعلني أقول:إن كلام الرجل «لن يقع واطة»، وبعد أيام قلائل سمعنا عن الوسيط الكيني وتهديداته لأطراف حوار الطرشان، ثم ما فتئنا سمعنا عن ورقة أطروحة الدولة بنظامين ،التي نظَّرت لها مراكز بحوث أمريكية، وسرعان ما أتانا الخبر اليقين، فإذا ببروتوكولات نيفاشا تهدي إلى الشعب السوداني دسماً اندس فيه كثيرٌ من السم الزعاف،فلكم،أعجبتنا فيها جميعاً وثيقة الحقوق التي ُضمِّنتْ في ثناياها، وكم تغنى عشاق الحرية وقتذاك بجماليات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان،الذي أصبح مرجعية ،قيل لنا إنها ستضَّمن في نصوص الدستور- وقد كان - فحلف رجالٌ وأغلظوا الإيمان،بأن هذه الاتفاقية هي نهاية الشمولية،وبداية النظام الديمقراطي المستقر،خاصةً وأنها أبدلت النظام البرلماني بنظامٍ رئاسي متوازن،توقع الجميع بحكم التجارب الشبيهة أن يسوده الاستقرار، وهللنا ،وبشرنا ،وهلل الجميع للسلام،ولسودان الفجر الجديد،وفي نشوة فرح السلام ضربنا بتعليقات السيد الصادق المهدي عرض الحائط ،إلى أن بان الأمر للجميع في ضحى الغد، فرأينا انتخابات كثر حولها القيل والقال، ورأينا أصحاب البنادق الطويلة،كيف أنهم احتفظوا ببنادقهم، وبقوتهم، وعدتهم ونفوذهم،وهوانهم على المجتمع الدولي،وعشنا إلى أن فعل سم الدسم فعله فينا،تمزيقاً لوحدة البلاد، بل أنذرنا بوميض نارٍ تحت الرماد،فما أرعوينا عن غينا ولا هدينا من ضلالتنا، فحقاً لقد كانت نيفاشا وبالاً على وحدة، وسلام البلاد، فظاهرها كانت فيه الرحمة ،وباطنها من قبله العذاب،وكم طفقت أسأل نفسي في هذه الأيام الحالكات..لماذا أصلاً تقاتلنا واحتربنا .. ولماذا خسرنا أرواحاً ووقتاً وأموالا؟ هل لأجل الاتفاق على تأجيج الحرب ثانية،وتمزيق البلاد أشلاءً متفرقات؟ وماذا نحن قائلون لأرواح شهداء تلك الحرب اللعينة ،شمالاً وجنوباً ..سواءً منهم الذين قدموا أنفسهم فدىً لفكرة السودان الجديد.. أو أولئك الذين قدموا أنفسهم فدىً لفكرة الدولة الإسلامية... الحقيقة إننا بما انتهت إليه نيفاشا ارتكبنا خيانةً في حق كل الشهداء.. فلا السودان بقي موحداً،ولا دولة الإسلام قامت،وهذا يدلك على عرج تفكيرنا وسوء تقديرنا.. بل بهذه المنعطفات التي تدخل فيها البلاد اليوم لم نحقن دماء الشعب الذي لأجل سعادته ورفعته أريقت دماء الشهداء.. إنني أقول - وأظن أن قولي هذا يمثل قطاعاً عريضاً من الشعب السوداني - أقول إن إجراء الاستفتاء قبل ترسيم الحدود ومعالجة كل القضايا العالقة هو في الحقيقة جريمة في حق هذا الشعب، وخيانةً لدماء الشهداء شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً ، فكأني بالطريق الذي انتهجناه وحزمنا أمرنا على مواصلة السير فيه يؤدي بنا لا محالة إلى مهالك قد تنهار معها البلاد وتنتهي بنا إلى صوملةٍ أو عرقنةٍ نارها لا ترحم، وهذا في ظني أمرٌ لم يحسب حسابه المجتمع الدولي،ولا مجلس الأمن ،حين أمنَّ على تقديس الأجل المضروب للاستفتاء، بل لم تحسب حسابه الحركة الشعبية،حين جعلت منه وثناً يعبد، ولو أدت بنا عبادته إلى نارٍ قاعها صفف،وهاويتها بلا قرار،مع أنه يجب على العاقلين،أن يؤكدوا على أنه إن فاتنا قطار الوحدة،فإنه لمن الواجب علينا البكور،لنلحق بقطار السلام، وهذا يقتضي أن ننظر في أمرنا بعيداً عن المجتمع الدولي،وتدخلات الغريب، فمجلس الأمن في حقيقة أمره، ما هو إلا تجمع دول،تعمل بموازنات سياسة ،بما يخدم مصالحها هي لا مصلحتنا نحن ،فلكل واحدةٍ منها أجندتها واستراتيجياتها،وتكتيكاتها،التي تحقق بها قضاياها،فمتى يا ترى تكون لنا إستراتجياتنا،وتكتيكاتنا الخاصة،التي تمليها مصالحنا،وتوجبها حاجاتنا،بعيداً عن تدخل الدول،ومتى سندرك أن قيادة قطار الاستفتاء على النحو الذي نقوده به الآن،هو في الحقيقة خروجٌ بعجلاته عن قطبي الحديد، وذهابٌ به إلى وكساتٍ لا محالة ستنتهي بتحطمه على صخور القتال والاحتراب. إن المتأمل في التوجهات السياسية للمؤتمر الوطني والحركة الشعبية،يلحظ فقدان هذين التنظيمين السياسيين للبوصلة الهادية وعوزهما لإرادة الفعل السديد،ويدرك بأقل جهد ،أن الأدوات الأجنبية قد ملأت فراغ القدرات،الذي يعاني منه الشريكان،فكما ذكرنا،أن اتفاقية نيفاشا نفسها فصلتها وخاطتها قوى أجنبية ،ومن يوم التوقيع عليها ،وإلى تاريخنا هذا،ظل الشريكان يجلبان قطع غيارها من الخارج، بدلالة أنهما ما وجدا في أرض السودان كلها خيمةً أو شجرةً تظلهما للتباحث والتفكر بشأن المشكلات العالقة في اتفاقية نيفاشا، فيومٌ في نيويورك،ويومٌ في أديس أبابا،وبعد غدٍ قد يكون اللقاء في شواطئ الريفيرا،أو جزر الواق واق،وكل ذلك على حساب الميزانية،التي ظلت تعاني من الإنفاق غير الرشيد،وكأني بالشريكين مع قوة الضغط الأجنبي عليهما يعتذران لنا بالمثل الإنجليزي الشهير « ألبس حذائي ثم أحكم عليَّ «، وبالفعل فإن بداخل الحذاء كثيرٌ من حصى الأجنبي،وكثيرٌ من مسامير فشلنا السياسي،ولا نتوقع مع ذلك غير أن تكون مشيتنا كسيحة ،على النحو الذي نراه اليوم، ونقولها وقلوب اؤلي الضمائر تتفطر على وحدة البلاد، ويبلغ الخوف بها الحناجر من وقوع الانفصال،مع فقدان الأمن والسلام والاستقرار،نقولها كما قالها الأوفياء الناصحون،من ضرب الطيب زين العابدين،وحيدر إبراهيم علي،وغيرهم من الوطنيين،ممن لم يزايدوا على الحقيقة،ولم يداهنوا،أو يصانعوا في إزجاء النصح الأمين ،نقول : إنه لا مخرج للبلاد إلا في تقوية الإرادة السياسية بإشراك الجميع في أمر بناء الوطن وتقوية جبهته الداخلية، ولن يحدث ذلك إلا إذا أعترف الشريكان بعجزهما عن إدارة شؤون البلاد،وانفلات الأمر من أيديهما،بدخول الأجندات الأجنبية في أمر البلاد، ولا شك أن الاعتراف بالعجز والفشل هو من عمل الشجعان الصادقين،فمواجهة النفس بأخطائها وعيوبها هو في الحقيقة وسيلة إصلاح حفزنا إليها الدين، ونصحتنا بها كافة الشرائع،ويوم أن يحدث ذلك،فإننا نكون قد عرفنا موطن الداء،لتبدأ بعد ذلك رحلة العلاج،وأولى مراحلها «الكي» أو الفطام من السلطة جنوباً وشمالاً،وذلك بوضع الآليات اللازمة لتحقيق هذا الفطام ، وترك الأمر لمن يأخذه بحقه من أهل السودان،والله ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.