٭ الطريقة التي عاد بها سلفا كير للبلاد ودخوله من الباب الخلفي وليس عبر مطار الخرطوم الدولي بصفته النائب الأول لرئيس الجمهورية، والاحتفالات الحاشدة التي استقبل بها، والشعارات العنيفة التي رفعها المستقبلون وإعلانه صراحة تصويته للانفصال، هذا الأمر الذي طالما حاول مدارته، أحياناً بطريقة غير مباشرة خلال تصريحاته التي أكد فيها انه سيصوت للوحدة، ولكن لا يستطيع ان يملي ارادته على المستفتي الجنوبي، وسماح سلطات الخرطوم بعودة جريدة «الإنتباهة» للصدور، هذه الإصدارة التي طالما شكا منها الجنوبيون مر الشكوى باعتبارها تمثل عائقاً أمام الوحدة الجاذبة، وقد تمثل إيقافها عربوناً لتطبيع العلاقة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وقد استبشر دعاة الوحدة بإيقاف «الإنتباهة»، والاشارات الصادرة عن المؤتمر الوطني وإعلانه ان الانفصال يأتي عكس حركة التاريخ، وكذلك تأكيده بعدم الاعتراف بالاستفتاء اذا تم في اجواء يسودها التوتر والاضطراب، وعدم ترسيم الحدود وإعلان سلفا كير بأن الشماليين يسعون لاغتياله ومطالبته لمواطنيه بأخذ ثأره ومطالبته بنشر قوات سلام على الحدود بين الشمال والجنوب، وهتافات الجنوبيين للمحكمة الجنائية الدولية، كل هذه المعطيات والاشارات تؤكد أن العلاقة بين الشمال والجنوب انتقلت نقلة نوعية في اتجاه الحرب، فاجتماع نيويورك ووقوف امريكا بثقلها خلف سلفا كير، وتركيز الرئيس الامريكي اوباما على احترام خيار الجنوبيين، والدعم اللا محدود الذي وعد به الرئيس الامريكي سلفا كير خلال الاجتماعات المغلقة بين الاخير ومركز الثقل في اتخاذ القرار اللوبي المسيطر على مطبخ السياسة الامريكية، كل ذلك رفع حالة الاستقطاب الحادة، وهيأ الأجواء المهيأة أصلاً تجاه العداء والحرب، فالحرب وفقاً لهذا الواقع آتية لا محالة! فهل استعد الطرفان لها؟ وللإجابة على هذا السؤال وبقراءة الواقع الجنوبي، نجده يتمتع بدعم مادي ومعنوي لا محدود من المجتمع الدولي، الأمر الذي يوفر له قاعدة قوية ينطلق منها ويفتح امامه مسارات سياسية واقتصادية ولوجستية ستؤدي لتقوية موقفه، فدولة الجنوب الوليدة تحظى بدعم اقليمي ودولي وتعاطف لم تحظ به دولة في مثل ظروف نشوئها ووجودها، وفي المقابل نجد الجانب الشمالي يكاد يفتقر لهذا الموقف الدولي، بل على النقيض من ذلك يرفع المجتمع الدولي في وجهه كرت المحكمة الجنائية الدولية، والذي يترتب عليه فقدانه للدعم من المجتمع الدولي، مما ينعكس على قوة مواجهته للجنوب، فالجيش السوداني ظل يحارب التمرد منذ عام 5591م دون أن يستطيع التمرد دخول أىٍ من المدن الكبرى التي ظلت عصية عليه، والحركة الشعبية الآن تسيطر على كامل اراضي الجنوب ولا يوجد جندي شمالي واحد، بل تتمدد الحركة الشعبية وتتجاوز حدود 6591م في اتجاه الشمال، وطوال فترة التمرد ظل الجيش الجنوبي يحارب بالاسلحة الخفيفة، ويقود حرب العصابات «اضرب واهرب»، والآن يتسلح بالدبابات والطائرات والمدافع المتطورة الحديثة، مستفيداً من أموال البترول التي ضخها الشمال في خزائنه لتكون سلاحاً يرتد إلى صدره. والجنوب سيقاتل الشمل بجبهة داخلية متحدة، حيث ان تمرد الجنرالين طور وقاى لم يتطور للاستيلاء على مواقع استراتيجية، أو تحرير بعض الاراضي، فما زال هذان المتمردان ينطلقان من الغابة ويحتميان بها، وهذا ما ينطبق على د. لام اكول باعتباره يمثل عامل زعزعة واضطراب للحركة الشعبية، ولكنه ذو أثر محدود لن يؤثر على الجيش الشعبي في حالة دخول الحرب مع الشمال الذي يعاني من انقسام الجبهة الداخلية، خاصة دارفور التي تشكل خطراً داهماً حال نشوء حرب مع الجنوب بالنظر لعدم وصول الاطراف لحل، وعدم التوقيع لاتفاق سلام حقيقي يؤدي لإنهاء حالة الاحتراب التي تعيشها، كذلك قوى المعارضة العلاقة بينها والمؤتمر الوطني يشوبها كثير من الفتور واحساسها بانزلاق البلاد للأخطار الذي طالما حذرت منها، ومقابلتها لدعوة المؤتمر للقوى السياسية باتخاذ موقف واضح تجاه قضية الوحدة بعدم المبالاة على اعتبار عدم اشراكها في جميع مراحل نيفاشا، منذ المحادثات والتوقيع والتصديق حتى مرحلة التنفيذ، وهذا ما ينصب في خانة عدم تماسك الجبهة الداخلية، واقليمياً هنالك بعض الدول المجاورة كيوغندا وكينيا تقف مع الانفصال علانية، وهناك من تدعمه سراً رغم تخوفها منه. وهناك دول تقف في العلن مع وحدة السودان. ولعل أهم وأخطر جيران السودان مواقفه المعلنة مع الوحدة وضد المحكمة الجنائية الدولية، إلا انه ظل يقدم الدعم العسكري واللوجستي والسياسي والملاذ الآمن لقادة الحركات المسلحة، ولديه علاقات وثيقة مع الحركة الشعبية وقادتها ويقف مع توجهها نحو الانفصال، وهذا الجار الذي احتارت الحكومة معه فهى لا تستطيع مجاراته العداء رغم علمها التام بكل ما يحيكه ضدها، وما يسببه لها من مشكلات. وهنالك الجارة تشاد التي سيكون موقفها من الحكومة السودانية تبعاً لضعفها وقوتها، فإنها اذا شعرت بأية بوادر ضعف أو وهن فلا شك انها ستعلن عداءها الخفي بسفور، وسترمي بثقلها خلف الجنوب وتمرد دارفور، وهناك عامل مهم يجب إعطاؤه ما يستحقه من اعتبار، فوجود ثلاثة ملايين جنوبي في الشمال في حالة اشتعال الحرب بين الجانبين يمثل عبئاً ثقيلاً على كاهل الحكومة، وهذا العامل قد لا تتضح خطورته عند بداية الحرب، ولكن سيتفاعل بشدة ويمثل تهديداً حقيقياً إذا ما احس ببوادر ضعف على جبهة القتال. وحتى ان لم يتحرك هذا العامل وظل في حالة سكون فإنه سيرهق الحكومة في ما يتعلق بمراقبته وتحييده، وفي حالة تحركه وإخماده فإن ذلك سيلفت أنظار المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان وما يمثله ذلك من متاعب الحكومة في غنى عنها، فهذه العوامل لها تأثيرها في حالة نشوب الحرب، إلا أن العامل الحاسم هو البترول، فالشمال يسيطر على آبار البترول فإن استطاع المحافظة عليها ولم يكن هناك تدخل خارجي لصالح الجنوب، فإن ذلك يمثل عاملاً حاسماً في مسار الحرب، واذا استطاعت الحركة الاستيلاء على آبار النفط ومنع تصديره فإن ذلك سينعكس بالضرورة على موقفها ومدى قدرتها على إدارة حرب تؤدي بها لتحقيق انتصارات تمكنها من إعلان نفسها دولة مستقلة وقوية، ولكن عامل البترول تحيط به ملابسات وظروف تجعله عاملا هشا لا يمكن التعويل عليه بالنظر للكيفية التي يُدار بها، والشركات التي تديره وتأثيرها على المحيط الدولي وعلاقة دولها بالمجتمع الدولي، والشركات التي تدير مرفق البترول شركات أجنبية تربطها مصالح اكثر أهمية وقوة بالولايات المتحدةالامريكية، خاصة أن هذه الأخيرة تمارس ضغوطاً واضحة على الصين لوقف نموها الاقتصادي وتسعى لعدم تجاوزه لمعدلات معينة، واتهامها المتكرر لها بسرقة التكنولوجيا وإغراق الاسواق ببضائع ضعيفة الجودة، سعياً وراء تحجيم وإضعاف قدراتها باعتبارها اكبر دائن لها، حيث ان الخزانة الصينية تمتلئ بالسندات الأمريكية التي تشكل عبئاً ثقيلاً ومرهقاً للاقتصاد الامريكي. فالصين تعمل ألف حساب لأمريكا، ويمكن أن تخضع لضغوطها بالنظر لبلايين الدولارات التي تشكل دائنيتها على أمريكا، ويعتبر بترول السودان وعائداته بمثابة قطرة في محيط الروابط الاقتصادية بينهما، وعامل البترول يمكن أن يتأثر بتدخل عسكري مباشر من أمريكا وحلفائها لصالح الجنوب، ويمكن أن يتم التدخل من مجلس الأمن لمنع تصدير النفط السوداني استناداً لميثاق الأممالمتحدة «الفصلان السادس والسابع». ووفقاً لهذا الواقع فإن على الحكومة الاستعداد الجدي للحرب مع الجنوب، وعليها تقوية الجبهة الداخلية باعتبار أن الخطر محدق بالبلاد وليس الحكومة لوحدها، ولن يتم ذلك إلا عبر توسعة ماعون الحكم وإشراك كل القوى السياسية في السلطة، عبر الجلوس معها في مؤتمر جامع يستصحب مطالب القوى السياسية كافة، ويستشعر خطورة المرحلة.