قررنا محاولة أن نحظى بشرف النقاش مع القارئة والقارئ الكريم في أمر قد يهم جميع القراء الكرام سواء أكانوا متخصصين أو قراءً عاديين. ما دفعنا إلى تناول موضوع القانون والتنمية، هو ما يتردد مرارا على لسان السودانيات والسودانيين مواطنين رجال أعمال مسؤولين حكوميين- أكاديميين ومهنيين، بأن السودان يتمتع بإمكانيات اقتصادية وطبيعية..إلخ. وهذه الإمكانيات تحتاج إلى أن تستغل وذلك ب..... إلخ، وظللنا نستمع إلى هذه الموشحات والأكليشيهات المملة منذ نعومة أظفارنا، وتسكننا قناعة بأن الأجيال القادمة من الراجح أن تستمر في سماع هذه الموشحات ما لم نغادر نقطة عنق الزجاجة، ونتعلم أن نفكر بمنهج علمي وعقلاني بدل التفكير بحناجرنا. القانون والتنمية يعتبر مجالا من مجالات الدراسات المتداخلة، فهو يقوم على تحليل ودراسة النظام القانوني في أية دولة وعلاقته بالنمو الاقتصادي الاجتماعي لذلك البلد. وبدأت الموجة الأولى من القانون والتنمية في ستينيات القرن الماضي، وكان مصدرها الولاياتالمتحدةالأمريكية، وذلك برعاية مؤسستي وكالة المعونة الأمريكية ومؤسسة فورد فاونديشنFord Foundation ولما كان الأمريكيون يعتقدون أن مجتمعهم هو الأفضل من حيث التقدم والازدهار الاقتصادي والاجتماعي في العالم، فقد خلصوا مباشرة انه لكي ما تتحقق التنمية والتطور في دول العالم الثالث، فيجب ويتحتم تصدير النموذج والمؤسسات الأمريكية إلى العالم الثالث ليتسنى لتلك الدول احتذاء الطريق الذي سبق أن جُرّب. ومن المعلوم أن المحامين والقانونيين في الولاياتالمتحدةالأمريكية يلعبون دوراً كبيراً في تشكيل البناء الاجتماعي وتطوره، ويُنظر إليهم بصورة واسعة على أنهم مهندسون اجتماعيون يستخدمون القانون لإكساب فئات من المجتمع حقوقا جديدة وانتزاع أخرى قديمة من فئات، وعندما تم تصدير هذا النموذج إلى بعض دول العالم الثالث مُنيت هذه العملية بالفشل الذريع، وكان ذلك باعتراف حتى المؤسسات الراعية لها، وكانت أسباب الفشل على النحو الآتي: أولا: النظرة للمحامين والقانونيين في كثير من الدول لا تماثل النظرة للمحامين والقانونيين في المجتمع الأمريكي. ثانيا: القانون الأمريكي نفسه بُني على أساس الاعتراف بكل الأعراف المتعلقة بالمعاملات والملكية، بمعنى أن المشرِّع والسوابق القضائية الأمريكية قد تبنيا منهجاً في التقنين هو البناء من أسفل، وابتعدوا عن فرض أية قوانين تتعارض وتتناقض مع ما استقر في ذهن وتعامل المواطنين. وعندما جاءت عملية تصدير النموذج الأمريكي للدول النامية انقلبت الصورة والمنهج لدى الشعوب المستقبلة لهذه القوانين، فأصبح المنهج عبارة عن فرض القانون والمؤسسات من أعلى للأسفل، وبالأخذ في الاعتبار الضعف المؤسساتي في الدول النامية، بالإضافة إلى عدم التقارب والانسجام ما بين القوانين المستوردة والأعراف المحلية، فقد أدى ذلك إلى رفض المجتمعات المحلية للقوانين والمؤسسات الرسمية «المستوردة»، وتقلّصت في المقابل مساحة السلطات والاعتراف بالمؤسسات المحلية، فأصبحت المجتمعات في حالة «لا لامة في بلح الشام ولا عنب اليمن». في تسعينيات القرن الماضي بدأت الموجة الثانية من القانون والتنمية بالظهور، وعلى عكس الموجة الأولى فقد تم تبني منهج علمي «أمبريقي» لدراسة علاقة القانون بالتنمية الاقتصادية، كما أنه في هذه المرة تمَّ الاعتراف بضرورة البناء من أسفل، حيث تتم دراسة الأعراف والتقاليد المتعلقة بالملكية والمعاملات التجارية والمؤسسات في كل بلد على حدة، ومن ثَمَّ استنباط القوانين والتشريعات من هذه البنية، فليس المهم أن تكون هنالك تشريعات وقوانين جيدة ومتسقة في الكتب، بل المهم هو كيفية تنفيذ هذه القوانين بكفاءة وسرعة وعدالة وبتكلفة أقل، فأكبر إشكالات تنفيذ القانون في الدول النامية هو ضعف المؤسسات المنفذة للقانون، وارتفاع تكلفة التقاضي، وارتفاع تكلفة الالتزام بالشروط التي يفرضها القانون لممارسة النشاط الاقتصادي، والمحسوبية وعدم العدالة والمساواة في تطبيق القانون على جميع أفراد المجتمع، والتخبط والضبابية، وعدم الاتساق والثبات في تطبيق القانون، مما يجعل الأطراف غير متأكدة من التزاماتها القانونية بالضبط، ويهز استقرار التعامل، ويحجِم إمكانيات جذب الاستثمار الأجنبي المباشر بطريقة منظمة وشفافة. وأخيرا فإن البطء الشديد في التقاضي وتنفيذ الأحكام يجعل القيمة الزمنية للمال مسألة غير مهمة. وتبنت الموجة الثانية للقانون والتنمية عدد من المؤسسات البحثية والأكاديمية والمؤسسات العاملة في حقل التنمية، ومن أبرزها البنك الدولي للإنشاء والتعمير، حيث أطلق في عام 2003م مشروع ممارسة أنشطة الأعمال(Doing Business Project) فهذا المشروع يتم تحديثه سنويا ليهدف إلى دراسة البيئة القانونية والإدارية لممارسة النشاط الاقتصادي في أكثر من «180» دولة حول العالم، وفي كل عام يتم عرض التطور الذي حدث في كل دولة بجانب التراجع. وأدعو بصورة مباشرة إلى تكوين لجنة قومية مستقلة لتقييم المعوقات القانونية والإدارية للاستثمار، سواء أكان وطنياً أو أجنبياً، وأن تشمل هذه اللجنة كل المختصين والأطراف ذات المصلحة بالإضافة للإعلاميين، وأن تتشكل حولها مجموعات ضغط للإسراع بالإصلاح القانوني والمؤسسي. وفي الحلقات القادمة من «القانون والتنمية» سنتعرض إلى مواضيع مثل: أ- تمويل مشاريع البنية التحتية عن طريق نظام البوت(BOT). ب- الإصلاح القانوني المطلوب لتطوير السوق المالي في السودان. ت- المؤسسات والآليات المطلوبة لتسهيل حصول صغار المستثمرين على التمويل. ث- الاندماج والاستحواذ في الشركات. ج- إصلاح قوانين ملكية الأراضي لتطوير سوق الائتمان. ح- شروط القانون التجاري الدولي لتطبيق الإجراءات الحمائية للصناعات المحلية. هذه المواضيع للمثال لا الحصر، وهي مفتوحة للنقاش، ولا تشكل بأية حال من الأحوال استشارة قانونية أو رأيا قانونيا، ولا يمكن الاعتماد عليها بهذه الصفة، كما أن هذه الآراء لا تمثل ولا تلزم أية جهة غير صاحبها. وأخيرا أتمنى أن يكون ما يطرح في هذه المساحة هو ابتدار للنقاش العميق والحر والجاد، ونرحب بجميع المشاركات.