حثت التحديات السياسية والاستراتيجية التي واجهت دول العالم الثالث في حقبة الثنائية القطبية قيادات البلدين«السودان ومصر» للتفكير الجدي لتأمين مصالحهم الحيوية والتي تأتي في مقدمتها المياه إستناداً على العمق الاستراتيجى المتبادل. ولقد حفز الاستقطاب السياسى والآيديولوجي ، والدعم الاقتصادى في تلك الحقبة الدول الى انتهاج سياسة تحالفية ودفاعية متمحورة شرقاً أو غرباً بالشكل الذي حقق لها الأمن والاستقرار حيث جنت المنطقة مشروعات عدة منها السد العالى ، قناة جونقلى.. كما ان النظام العالمي لفترة ما بعد الحرب الباردة إتسم ايضاً بكثرة التحالفات وبروز روح التضامن .. بهدف تحسين الأوضاع الإقتصادية او تأمينها فقد دخلت مناطق عديدة في العالم في تلك التحالفات إما بمدخل عسكري أو أمني ذو صبغة تجارية اقتصادية أو العكس ويأتي ذلك في إطار رصدها وتحديدها وتسميتها لاعدائها واصدقائها الجدد والمتوقعين ،وتحديد استراتيجية التعامل معهم. كما يأتى فى اطار تراجع الدعم الخارجي والمساعدات التى كانت سائدة فى الحقبة السابقة. وتشير التطورات السياسية في حوض النيل وتنامي التدخلات الخارجية في شئونه والتي برزت في شكل إختلافات وتباين فى وجهات النظر فى الإجتماعات الاخيرة لدول الحوض في الاسكندرية وعنتبي التى اعقبتها تصريحات مصرية جادة ، والتهديد المتزايد للموارد المائية للسودان ومصر، الى جانب التحولات السياسية المرتقبة في جنوب السودان وفرص ولادة دولة جديدة في المنطقة .. يُعد كل ذلك من أهم المحفزات الجدية لمراجعة جدوى العمل المشترك سياسياً واقتصادياً واستراتيجياً بين السودان ومصر. كما أن تنامى الدعم الامريكى وما يشكله من اشارات محفزة للانفصال برزت من خلال التصريحات الأمريكية الأخيرة في اجتماعات نيويورك، وتهديد الحركة باجراء الاستفتاء من طرفها دون الحاجة الى المؤتمر الوطنى ، وتحريك جيشها شمال حدود 1956م دون تحقيق من بعثة الاممالمتحدة يذكر..، الى جانب مساعى مجلس الأمن بزيادة ونشر قوات الأممالمتحدة وفكرة بناء منطقة عازلة بين الشمال والجنوب .. يوضح بجلاء حجم المساندة الغربية لها ومخالفاتهما صراحة لأهم بنود الاتفاق «العمل على جعل الوحدة جاذبة» ما يوضح تأثيرها سلباً على ايفائها بإلتزامات المعاهدات السابقة ومن بينها اتفاقية المياه. تؤدى تلك الاحتياجات الملحة والمتزايدة للأمن القومي المصري، وما عكسه خطورة اعتماد اقتصادها على المعونات الخارجية لمدة طويلة، وعزل مصر عن الشأن الافريقي بشكل عام والسوداني بشكل خاص أدى الى استفحال التهديدات الأمنية لها، كما أن السودان بسعيه لإحلال السلام وما تضمنه من حق تقرير المصير وما يمكن أن يفضي إليه من قيام دولة جنوب السودان وخروج معظم مصادر المياه من سيطرة وإدارة الخرطوم وتحولها الى سيطرة دولة تتعاون بانفتاح مع أعداء البلدين..، الى جانب إستمرار نشاط الحركات المسلحة في دارفور وعجز جميع الاطراف من التوصل لسلام عادل مع خطورة تنامي التدخلات الاقليمية والدولية في الشأن السوداني عبرها.. كل ذلك يعظم من فرص إعادة النظر ومراجعة الاسس السابقة لوحدة وتكامل البلدين. كما يقلل من فرص التصديق بامكانية تعاون الدولة الجديدة مع المتطلبات والاحتياجات الاستراتيجية للبلدين. رغم التداخل الجيواستراتيجى والثقافى والإجتماعى بين البلدين ، ووضوح التحديات السياسية والاستراتيجية في هذه الآونة، وما تقوم به القوى الاقليمية والدولية من تهديد مباشر لمواردهما المائية وتلاعبهما بمكونات وأبعاد الأمن القومى السودانى والمصرى، إلا انه لا يوجد سعي جدي نحو صياغة خطة مشتركة أو إعادة النظر في منهاج التكامل أو إتفاقية الدفاع المشتركة.وبمنهج فيه جدية ورغبه بتجاوز مرارات الاستعمار ومآسيه متسلحة بعنصر الاستفادة من فرص التقارب التى يتيحها النظام العالمى المتمثلة فى مشروعية البحث عن المصالح الاستراتيجية ، ومصححة لأخطاء تاريخية فادحة حكمت علاقات السودان ومصر .. مثل عدم ايلاء فكرة الوحدة بينهما فى 1956 الدراسة الكافية، وإلغاء إتفاقية الدفاع المشترك عام 1988م مجهضة بذلك كل مشاريع المصالح المشتركة. لعبت الأوضاع الداخلية فى البلدين «طابا ، جنوب السودان» وما تطلبتهما من تنازلات ومساومات ، دوراً مقدراً فى كشف واضعاف الامن القومى للدولتين نتيجة للنتائج التى افرزتها تلك التسويات «كامب ديفد ، نيفاشا»، بالاضافة الى اضمحلال الحس القومى والاستراتيجى المشترك وازدياد تأثير التدخلات الخارجية فى الشئون الداخلية .. كما ساهمت تلك الأوضاع فى تجميد العمل باتفاقية الدفاع بين مصر والسودان .. فقد أكدت الحركة الشعبية فى مباحثاتها مع وفد الإتحادي الديمقراطي في نوفمبر 1988 بأديس أبابا تمسكها بأهمية إلغاء اتفاقية الدفاع المشترك مع مصر والبروتوكولات العسكرية مع ليبيا ، وجعلت من ذلك شرطاً لوقف إطلاق النار وانعقاد المؤتمر القومي الدستوري على الرغم من التوضيحات التى دفعت بها الأطراف المختلفة بأن اتفاقية الدفاع المشترك مع مصر نص عليها ميثاق الجامعة العربية لمجابهة التهديدات الخارجية وليس من بينها الاوضاع الداخلية ، واتضح اليوم انه مطلب إنسجم مع الأجندة الخارجية ودوافع الحركة الانفصالية وليس مع مصالح السودان العليا. الا ان الحركة الآن تتعامل بتكتيك استغلالى وتوظيفى لاحتياجات مصر المائية لإنجاح عملية الإنفصال ، واستغلالها لمكانة مصر الاقليمية والدولية في ذلك، إلا أنها سرعان ما تتحول الى استراتيجية مشروطة بالتعاون مع إسرائيل وتطبيق ذات السيناريو الذى مارسته مع المعارضة الشمالية حيث مثل ضعف المعارضة الداخلية الشمالية وارتمائها ومساعدتها للحركة الشعبية طيلة الفترة الماضية ،خاصة فترة الاتفاقية، ضد الانقاذ دون تمميزها بين الثابت والمتغير، والتكتيكى والاستراتيجى والقراءة الحقيقية لتوجهاتها، وتصريحات قياداتها مكنها من بلوغ مبتغاها بسهولة ويسر مما عمق من فرص التهديد الامنى المشترك.بالاضافة الى استمرار المشكلات بين الشريكين وتعثرهما في التوصل لتسوية نهائية لمشكلة الحدود وما تفرزه من تحديات وصعوبات تقود في حالتي الوحدة والانفصال الى استمرار الصراع المسلح الذي يهدد الأمن القومي للدولتين. إن حجم التهديدات والتحديات بات واضحاً للطرفين وتعتبر خطوة فصل الجنوب البداية العملية لإنهاء منظومة حوض النيل القديمة ودخول اعضاء جدد متصارعين وغير مستقرين وضعفاء لايمتلكون قدرات كبيرة ، وإنهاء مقولة الحقوق التاريخية المكتسبة التى أصبحت تمثل عقبة لتدفق النيل الى اسرائيل.. ، واستفادة الاعضاء منه بحرية.. ، لذلك تؤيد معظم دول الحوض وتبارك هذه الخطوة على الرغم من خطورتها التى تهدد سلامة واستقرار السودان والإمداد المائى لمصر وانعكاساتها على المنطقة ، وسوف تتعاظم الخطوات اذا لم تتدارك القيادات ذلك لتلحق بها خطوات دارفور،الشرق ودولة النوبة فى الشمال التى تتأثر بها مصر مباشرةً ، والملاحظ ان معظم دول الحوض تتصف بانها دول صغيرة المساحة وقليلة السكان والتأثير الاقليمى والدولى وكثرة الصراعات الداخلية والتأثر بالخارج ..، هذه خطة اسرائيلية قديمة جديدة تهدف الى اضعاف الدول العربية والاسلامية من خلال التأثير على أطرافها للانقضاض على مركزها التقليدى «مصر».. ، و تعد هذه التحديات تحولات استراتيجية جدية ينبغى ان تواجهها خطط عملية مثيلة بشكل واضح لكافة الأطراف الدولية.. إن القيادات السياسية في البلدين لابد ان تدركا أكثر من غيرهما أن اتفاقية الدفاع المشترك في ظل المهددات المتلاحقة والتي تمس الأمن الاستراتيجي لهما تقتضي التفكير فى جدوى استعادتها بشكل يحقق المصالح ويبرز الندية والأهمية المتبادلة ، الى جانب مراجعة العمل المشترك الذى اسس له الآباء ، وذلك وحده كفيل باحباط مخططات كثيرة ويقلب المائدة على ذوي الأجندة الاخرى، وهذا لا يتحقق ما لم تعاد تحديد وتسمية المصالح والمهددات المشتركة بدقة والنأي عن الموروثات الإستعمارية وتأثيراتها البغيضة. ان إصرار بعض النخبة الحاكمة فى البلدين والمرتبطين بها، على إدامة التوتر والشك فى العلاقات الثنائية وعدم تقديرهم للتهديدات الماثلة يعد ضعفاً فكرياً بيناً يخدم المصالح المعادية للشعبين. كما أن الربط بين جدوى اتفاقية الدفاع وإصلاح العلاقات بشكل عام ومعالجة كافة القضايا والملفات.. أمر غير واقعى ولا عملى ويفقد المنطقة العديد من الفرص المتاحة الآن لحماية أمنها واستقرارها. كما ان الإتفاق حول المهددات وكيفية مواجهتها يعد أمراً واجباً وحتمياً ومُلحاً خاصة فى ظل التكالب الدولى الواضح والمتعجل لاتمام الانفصال الهش الذى يفضى الى استمرار الحرب فى حالة عدم تسوية استحقاقات الاستفتاء 2011م ، والتى سوف تدور رحاها على مسافة قريبة من وسط السودان حيث السدود المائية ومشاريع التنمية الزراعية التى تعوُل عليها مصر كثيراً، الى جانب مخاطر توسع مظلة الوجود الدولى فى السودان. تعتبر المرحلة المتبقية من عمر الإتفاقية فترة حساسة وقصيرة ومصيرية للبلدين تقتضى الاسراع بتصحيح الصورة السالبة للإدراك المتبادل فى العلاقات، وبناء أُسس للتعامل وفتح قنوات للإتصال الفعال والمثمر حتى نحمى ما تبقى من مكونات وعناصر الأمن القومى المشترك من خلال صياغة استراتيجية ذات محاور شاملة لأبعاد العمل المشترك معترفة باتفاقات السلام المختلفة والوضع الدستورى القائم وبما يخرج به الاستفتاء من نتيجة. ومطمئنة الدولة الجديدة بمرامى التعاون الواسع، وتنويرها بحجم المخاطر الناجمة من الإهتمام العالمى المعادى لهما فى المنطقة، وتعتبر عملية إجراء مراجعات للأفكار السابقة فى هذا المجال ضرورة ملحة فى ظل الغفلة العربية والأفريقية لتداعيات الأحداث فى المنطقة، ودونكم حلف الناتو على الرغم من إختفاء العدو الاساسى الذى من اجله تم تكوين الحلف «الاتحاد السوفيتي» الا انه تم اعادة تحديد وتسمية العدو الجديد «الإسلام، الإرهاب» ليستمر فى نشاطه بصورة اكبر بل ومعالجة عضوية فرنسا مما يؤكد تطور العلاقات بينها على الرغم من صراعات وخلافات أعضائه. ٭ أستاذ بالمركز الدبلوماسى وزارة الخارجية