قلتُ خلال ندوة نظمتها قناة «المستقلة» بلندن قبل أشهر حول الانتخابات واستفتاء تقرير المصير، إن صقور الحركة الشعبية قطعوا مسافات بعيدة في فصل الجنوب عن الشمال، وعلى الدولة في الشمال أن ترتب بيتها الداخلي لمجاورة «إسرائيل» التي ستكون موجودة حتى بلا «لافتات أو مظلات» لرفع الحرج..!! وإن من الجنوبيين من سيقف غداً مطالبا بإلحاح بتعويضات من الشمال، نظير الاستعمار الطويل للجنوب..!! حينها «ضحك» صديقنا مقدم البرنامج محمد الفاتح أحمد، معبرا عن استبعاده لهذه الفكرة «المجنونة»..!! غير أن مجريات الأمور على الأرض تذهب بنا أبعد من ذلك، فباقان أموم يتحف أهل السودان في كل صباح جديد بالمثير والمدهش، للحد الذي ينبئ بأن الحرب ستندلع قبل أن يكمل أحاديثه «العدائية الملتهبة».. ومثل أموم داخل الحركة كُثر، ولا أحسب بأنه إذا قدر الانفصال سينظرون لعمقهم الحقيقي في الشمال، ولكنهم سيسعدون بالغرب، وحينها ستساق الاتهامات التي لن تنجو منها أي حكومة وطنية منذ عهد الاستقلال، بأن تتحمل العطب الذي أصاب التنمية بالجنوب، ولن يتساءلوا أبدا عن ما دمرته الحرب، وما ألحقته بالشمال أيضا.. وفي الشمال ووسط النيلين هناك قوم لا يجدون ماءً نقياً للشرب، فيما تنهك أجسادهم النحيلة الملاريا، وفي بعض أرياف الشمال لا يجد التلاميذ مقاعد للدراسة .. إذن ليس هناك إهمال أو تهميش لجزء من الوطن دون غيره، ولو كانت «البندقية» دائماً هي سلاح التفاوض الأمضى لحملها «سكان الجزيرة» التي كانت أقطانها تغرق مصانع مانشستر، فيما يعيش كثير من مزارعيها اليوم الفقر المدقع، رغم ما قدموه للسودان من خدمات جليلة.. ولكنها اختلالات التنمية التي يجب نسعى لتجنبها «بالحسنى». المهم ضحك زميلنا مقدم البرنامج محمد الفاتح، وتبسَّم ضيوفه وهم: البروفيسور حسن مكي والأستاذ محجوب عروة ود. خالد التيجاني النور والأستاذ الصادق الرزيقي والمستشار خالد المبارك، من فكرة مطالبة بعض صقور الحركة الشعبية بتعويضات من الشمال نظير الاستعمار!..! ولكن مازلت أصرُّ على أن «من الجنوبيين من سيطالب بتعويضات عن سنوات الاستعمار الطويل !! نعم ستكون سنوات المودة والإخاء في عُرفهم «استعمار».. فأحاديثهم اليوم لا تنبئ بأنهم يسعون لجوار آمن، ومستقر، فالذين دسوا اللافتات المرحبة بمحكمة الجنايات الدولية في أيدي التلاميذ الصغار إبَّان استقبالهم لوفد مجلس الأمن الدولي بجوبا، هم ذاتهم الذين سيخرجون على أهل الشمال غداً بكل أمر غريب ومدهش.. وسيتناسون أن أهل الجنوب عندما اشتدت بهم الحرب وآثاره المدمرة انطلقوا نحو الشمال حتى دقوا أسوار حلفا القديمة مرورا بدنقلا، ولم يتركوا قرية في الجزيرة والنيل الأبيض إلا وكان لهم وجود فيها، وهو أمر طبيعي لمواطنين سودانيين، غير أن بعض قادة الحركة لا يريدون أن يستوعبوه، أو هم يستوعبونه ولكنهم ينكرونه لغايات أبعد .. فيوغندا حليفة اليوم لم تكن ساحة مريحة لاستقبال اللاجئين من الحرب بالأمس القريب، وهي لن تكون في وئام ومحبة مع الجنوبيين طوال الوقت، فقط هي مصالح ربما انقضت في أجل ليس ببعيد. رغم كل السيناريوهات السيئة المتوقعة سنمضي، ونحن ندعم في كل حين خطوات ترسيخ الوحدة، التي نتمنى أن تتحقق، رغم مصاعب الطريق الطويل. وأخيراً أهمس في أذن صديقنا محمد الفاتح بأن يهيئ نفسه لكل عجيب ومدهش.. فباقان أموم يحمل في جيبه «الفكرة المجنونة».. وغداً نرى..!!