تردد الدكتور «....» وهو جالس في مكتبه الوثير وحبات الجليد تضرب بقسوة على النوافذ الزجاجية، قبل أن يحسم أمره ويخط على الورق خطاباً لوالده «حاج أحمد» ينبئه فيه بأنه قد تزوج بزميلته الأوربية التي تنتمي إلى ذات البلد الذي أنفق فيه ما يقارب العشر سنوات في كد أكاديمي متواصل حتى نال درجة الدكتوراة، والتحق بوظيفة مرموقة في ذاك البلد الأوربي الذي تخاصم غيوم سمائه الشمس. راح يداري حرجه ويطيب خاطر أبيه بحديث «القسمة والنصيب» ولم ينس أن يخبره أنه بصدد القدوم مع زوجته إلى الوطن حتى يتم التعارف بين الزوجة والأسرة. كادت العبرة أن تسد حلق حاج أحمد وهو يقرأ خطاب ابنه، فقد كان يأمل أن يكون فرح ابنه وزواجه بمثابة وسام شرف معنوي يطوق الناس به عنقه قبل ابنه، جزاءً لما بذله في تربية ابنه البكر وبقية أبنائه وبناته. ولكنه تقبل الأمر كما يتقبل الفواجع التي لا يملك مناصاًَ سوى التسليم بها. لم يذهب للمطار مع سائر أهل بيته وغيرهم من الأقارب والجيران في قريته الوادعة في ضواحي الخرطوم ، واكتفى باستقبال ابنه وزوجته أمام «حوش» بيته الواسع المتسع وهو يرمق بطرف عينه «الخواجياية» التي تتأبط ذراع ابنه. الحق يقال أن الزوجة الأوربية أو «الخواجياية» كما كان يسميها حاج أحمد قد جاهدت أن تقيم جسراً من التواصل ما بين الصقيع الاسكندنافي الذي جاءت منه والشمس الاستوائية التي استقبلها بها السودان. وكانت أولى لبنات ذلك الجسر حرصها على أن تضع «طرحة» على رأسها وهي تصافح حاج أحمد، كما وطنت نفسها على التعامل مع المراحيض البلدية أحياناً كبادرة لإبداء حُسن النوايا ، وأحياناً أخرى امتثالا لضغط الطبيعة. هكذا مضت الأيام الأولى من الزيارة والعلاقة بين حاج أحمد وزوجة ابنه كالوتر المشدود إلى أن حلت الكارثة ، فذات يوم عاد حاج أحمد مبكراً من متجره المتواضع عندما نسى بعض أغراضه بالمنزل ويا لهول ما رأى... زوجة إبنه الأوربية تتمدد على بطنها في أحد «العناقريب» وسط الحوش الواسع تحت الشمس وهي شبه عارية لا يستر جسدها سوى«مايوه بكيني» من قطعتين... تسمر حاج أحمد في موقعه جوار الباب لدقائق ثم انفجر كل بركان غضبه المخزون في وجه ابنه الذي هب واقفاً من كرسيه الذي وضعه في «الضل» على مقربة من زوجته . زمجر حاج أحمد صائحاً «حرم أمك طلقانة بالتلاتة كان بتّ إنت والولية العريانة دي في بيتي يوم واحد ... خاوتنا بدكترتك الفارغة دي وإنت قاعد زي النعجة في الكرسي ومرتك عريانة نص النهار في نص الحوش، وكمان وأنا داخل على البيت أشوف صبيان الحلة راصين الطوب ويتاوقوا جوه بيتي وأنا ما عارف الفرجة في شنو ؟؟» ثم سقط مغشياً عليه. في ذات اليوم حزم الدكتور «....» أغراضه وأغراض زوجته وغادر الوطن إلى غير رجعة.