وسط جو من التزاحم والتنافس على حسم كثير من القضايا السياسية العالقة، أودع المراجع العام تقريره العام عن أداء مؤسسات القطاع العام، ليفاجأ الناس بتصاعد نسبة الاعتداء على المال الذي اضحى ظاهرة خطيرة تلقي بظلال سالبة على فرص التنمية والقضاء على الفقر وبسط الخدمات الأساسية بالبلاد وتحديد موقعها وسط رصيفاتها على مستوى العالم من سلم الشفافية، فقد كشف تقرير المراجع حالات اعتداء على المال العام بلغت جملتها 16.6 مليون جنيه مقارنة ب 4.5 مليون جنيه في العام الماضي. ورغم الزيادة الملحوظة في معدل أو نسبة الاعتداء على المال العام، إلا أن بعض الخبراء اعتبروا التقرير خطوة في الاتجاه الصحيح لتصحيح المسار والأداء المالي بالبلاد، إذ أنه نابع عن مراجعة عدد أكبر من المؤسسات والهيئات الحكومية مقارنة بالتي تمت مراجعتها في السنة الماضية، الأمر الذي يفسر سر الزيادة الكبيرة في نسبة الاعتداء حتى وصلت الى 16.6 مليون جنيه، مما دعاهم لاستشفاف أن المؤسسات التي خضعت للمراجعة في هذا العام ولم تراجع في السابق هي الرافع لنسبة الاعتداء على المال العام، وطالبوا باستقلالية ديوان المراجع العام، وأن يكون تحت إمرة جهة مستقلة عن الجهاز التنفيذي كالمجلس الوطني مثلا، وأن يبتعد عن الصبغة السياسية. وقالوا إن نسبة الاعتداء على المال العام التي أبرزها التقرير لا تشف عن حجم الاعتداء الحقيقي، وإن ما خفي من أوجه الفساد المالي والاعتداءات أكبر. ومع ذلك فإن التقرير يقود الى ما لا يدع مجالا للشك لتراجع السودان إلى وضع أكثر تأخرا في سلم الشفافية العالمية، الأمر الذي تكون له آثاره السالبة على سمعة البلاد، وبالتالي إحجام المانحين عن دعم السودان. وبالرجوع بالذاكرة إلى العام الماضي، نجد أن تقرير المراجع العام جاء متزامنا مع تقرير أصدرته منظمة الشفافية الدولية ببرلين، أوضح أن السودان يجيء في مقدمة الدول الأكثر فسادا في العام، وكان تصنيفه في قائمة الدول الأقل فسادا رقم «174» تاركا وراءه الصومال والعراق فقط. ولم يقف عند هذا الحد، بل مضى إلى أن البلدان التي تعاني من بيئات سياسية وأمنية مضطربة تأتي في مقدمة الدول التي تقل فيها الشفافية وينتشر فيها الفساد بصورة أكبر. وناشد المجتمع الدولي بابتكار طرق فعالة لمساعدة البلدان التي مزقتها الحروب وأقعدتها عن تطوير مؤسساتها، لاسيما أن النتائج المسجلة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تظهر النزاعات وحالة عدم الاستقرار التي أعاقت الجهود المبذولة لمكافحة الفساد بشكل جدي. ولعل تزامن تقرير منظمة الشفافية وتقرير المراجع العام في السنة الماضية، قد أدى لتحريك أعضاء المجلس الوطني، وتم تشكيل لجنة لمتابعة وملاحقة الشركات والمؤسسات التي لم تخضع للمراجعة من قبل المراجع العام، ووصل الأمر إلى دعوة المراجع العام الى ألا يكتفي بالحياد ورفع تقريره السنوي فقط، واقترحوا عليه تقديم تقارير دورية كل ثلاثة أشهر للبرلمان عن الأداء المالي للدولة بدلاً من أن يكون سنوياً، بغية الوصول لمزيد من إحكام الضبط على الاداء المالي وتقليل مستوى الفساد وحجم التجاوزات على المال العام بنسبة لا تقل عن 60%. واعتبر الخبير الدولي دكتور التيجاني الطيب ما جاء في التقرير مؤشرا خطيرا، وذكر أن تأثيره كبير على مستوى أداء وسمعة الحكومة، وقال إن ضبط الإنفاق العام وترشيده الذي ظل ينادي به الخبراء والمختصون ليس معناه الاكتفاء الضبط والترشيد، وإنما يعني قبل ذلك حسن استخدام وتوظيف المال العام، بوضع قوانين وتشريعات رادعة لمنع الاعتداء على المال العام. وضرب مثلاً بالصين التي تصل فيها عقوبة الاعتداء على المال العام إلى حد الإعدام. وأردف بأن العرف المتبع في التشريعات المالية السائدة خضوع جميع مؤسسات الدولة العامة للمراجعة دون استثناء، غير أن للأسف الشديد كثيراً من المؤسسات العامة لا تطالها يد المراجعة، مما قاد إلى بروز هرجلة في إدارة المال وطرق تجميعه وتوزيعه وإنفاقه جراء الحصانة غير القانونية التي تتمترس وراءها كثير من المؤسسات التي لا تصل إليها يد المراجعة. واضاف أن ما يظهر بتقارير المراجع العام من اعتداءات على المال العام يعتبر قليلا من كثير، لأنه ببساطة لا يشمل كل القطاعات المؤسسية الحكومية. وختم حديثه بأن أثر التقرير سيكون سلبيا على سمعة ووضع السودان عالميا، وأنه سيؤثر حتما على مستوى دعومات المانحين الذين سيترددون إن لم يقلعوا كليةً عن تقديم اي دعم لدولة لا تتوفر فيها الثقة التامة في توزيع ما يصل إليها من دعم على أصحابه الحقيقيين. وقال إن المراجع العام فقد الكثير من صلاحياته لفرض وجوده. وغير بعيدٍ عن إفادات التيجاني الطيب، اعتبر المحاضر بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا الدكتور عبد العظيم المهل تقرير المراجع العام خطوة إيجابية في اتجاه الشفافية. وبالرغم من الأرقام التي أظهرها التقرير إلا أن المهل يرى أنها لا تعكس الحقيقة كلها، وأنها ربما كانت مؤشرات لرأس جبل جليد الفساد. وقال إن ما خُفيَ من الفساد أعظم، إما لعدم اكتشافه البتة أو لتغطيته حتى لا تصل له يد المراجعة، أو تمت فيه تسوية سياسية. واضاف قائلاً: عموما ما يظهر في تقارير المراجعة العامة بالدول الدكتاتورية أقل بكثير من الحقيقة، وإن الدول المتقدمة اقرب للشفافية، وإن السبب وراء إخفاء المعلومات سياسي وأمني، وإن الزيادة في معدل الفساد المالي بالبلاد تنم عن زيادة المصداقية من الجهات التي شملتها المراجعة مع المراجعين. وعقد المهل مقارنة بين التقرير السابق والأخير، وقال إن الأخير أرقامه أكثر موضوعية وقبولا. واضاف قائلاً إنه كلما كان الحزب واحداً والدولة قابضة والمعارضة ضعيفة وأجهزة المراقبة لا تقوى على فعل شيء، زادت نسبة الفساد لسهولة طبخ المعلومات. وقال: لكن رغم الزيادة في نسبة الاعتداء على المال العام ربما قلت نسبة الاعتداء الحقيقي عليه، والدليل على ذلك توسع دائرة المؤسسات الحكومية التي شملها تقرير المراجع العام لهذا العام. وقال إن ما تبقى يقع عبئه على المؤسسات التشريعية «المجلس الوطني» المسؤول الأول عن ضبط ومراقبة إيقاع أداء الجهاز التنفيذي بجانب منظمات المجتمع المدني التي ينبغي أن تلعب دورا فاعلا في هذا المقام، لأنه إذا ما فشلا «المجلس الوطني والمنظمات» في القيام بدورهما فإن تقاعسهما سيكون مدخلا سلسا وذريعة لتدخل أذرع الرقابة الدولية إحدى منافذ النظام الدولي الجديد التي تهتبل كل فرصة لدس أنفها في الشؤون الداخلية للبلدان إذا ما تجاوز الفساد حده بها. وأبدى أسفه لعدم إبداء التقرير لوضعنا مثلما هو معكوس بمنظمة الشفافية العالمية. وقال إن مشكلة المراجع العام الأساسية عدم استقلاليته لأنه معين من قبل الجهاز التنفيذي، لذا لا يجد مناصا من تنفيذ سياسة التنفيذي، لأنه إذا لم ينفذها أتى بمن يرضخ ويذعن لها، لأجل هذا يرى المهل أن يتم تعيين واختيار المراجع العام بناءً على الاستقلالية التامة عن الجهاز التنفيذي، بتبعيته إلى جهة مستقلة تتولى أمر تمويله «المجلس الوطنيش وأن يُراعى في اختياره امتلاكه لناصية المهنية وابتعاده عن الهدف والغرض السياسي، علاوة على توفير كل المعينات اللازمة المساعدة لإنجاز المهام الموكلة له. وعموماً نقول إن زيادة نسبة الفساد المالي والإداري تحتاج إلى وقفة صارمة من الجميع، فهل يرجى من المجلس الوطني ومنظمات المجتمع المدني فعل شيء؟ أم أن التقرير سيمر مرور الكرام مثل سابقيه؟