السوداني إذا حار به الدليل في أمرٍ ما، و«غلب حمارو» ووقف في العقبة وعجز تماماً من أن يجد له حل أو تفسير، تجده يقول بعفوية «وبعدييين»، وبعفوية وتلقائية أيضاً يرد عليه من يجالسه «كراع جادين»، والمقطعان، السؤال الحائر والاجابة المحيّرة أصبحا مثلاً يضرب لكل حالات الحيرة «بعدين كراع جادين» وصعوبة هذا المثل تكمن في أن معرفته ليست في صيغته بل في قصته، فمن لم يلم بقصته لن يدرك مقصده وحكمته، وقد تكون لهذا المثل أكثر من رواية لا تختلف عن بعضها إلا في بعض الجزئيات غير المهمة التي لا تؤثر على أصل المثل ولا معناه الذي يستبطنه، وأرجح الروايات عندي تقول، أن مسافرين على ظهر لوري ينوء بحمل كراتين من المواد النشوية «شعيرية، سكسكانية، مكرونة..الخ» قد تاه بهم في خضم صحراء لا أول لها ولا آخر، الشمس الحارقة من فوقهم والرمال الساخنة من تحتهم، لا شجر ولا بشر ولا أثر، وقضوا على هذا الحال وقتاً ليس قليل، ولكن من لطف الله بهم أن الماء كان عندهم وفير بينما الزاد يسير نفد سريعاً وكانوا في اليوم التالي لنفاده، ومن المعروف أن الانسان يمكن أن يبقى على قيد الحياة بلا طعام لعدة أسابيع ولكنه لن يصمد كثيراً أمام العطش مقارنة بالجوع، قضوا ذلك اليوم وهم حيارى لا يدرون ما يفعلون فباتوا «القوى»، ولكن في اليوم الذي يليه وكان ثالث أيامهم في «المتاهة» وقد بدأت بطونهم تقرقر من الجوع، تفتقت «عبقرية» مساعد اللوري عن حل هو بين أيديهم ولكن يبدو أن «الخوفة» قد أبعدته عن أذهانهم، ولم يكن حل المساعد سوى المكرونة ورفيقاتها النشويات الأخريات مع كافة المستلزمات الاخرى ما عدا النار التي ينضجونها عليها، فكل حزمة الكراتين الفارغة التي أشعلوها لم تصمد سوى لحظات، وهنا فترت همتهم واشتعلت جوعتهم وأصبح الكل يتصايحون «وبعدييين» وفجأة صرخ فيهم المساعد «كراع جادين» وكانت بالفعل تلك الكراع هي الحل، فجادين هذا الذي صرخ باسمه المساعد كان أحد المسافرين وكان رجلاً «عضيراً» يتوكأ على رجل خشبية أصبحت بديلاً لرجله المقطوعة، وعلى غير المتوقع لم يمانع جادين ولم يحاجج بل إنتزع رجله وقدمها قرباناً وفداءً ولسان حاله ومقاله يقولان «الكراع ملحوقة المهم الآن الرويحة» وهكذا جرت مقولة «وبعدين كراع جادين» مثلاً شروداً... اليوم ما أحرانا بتحري هذا المثل، والبلاد والناس والساسة في حيرة من أمر القادم الذي ما يزال طي السر الالهي، تدور حوله التكهنات وتكثر القراءات والتحليلات التي قد تصدق ولا تصدق، مع أن الحل في متناول اليد ولكنه ظل للاسف بعيد عن الذهن لأسباب شتى هي أقرب للغطرسة من «الخوفة» التي حالت دون اكتشاف ركاّب اللوري التائه ل «كراع جادين» من وقتٍ مبكر، وإذا كان جادين ذاك كان هو أضعف أهل رحلة التوهان تلك، ورغم ذلك كان هو من عنده الحل، فإن الشعب السوداني الذي ظل هو أضعف أطراف حالة التوهان الوطني المعاشة الآن، سيكون هو من عنده الحل، ولهذا لا بد من العودة إلى الشعب ورد كل الامور إليه بأن يصبح هو الحاكم الفعلي وليس المتحكّم فيه، وأن يكون هو الملهم والقائد وليس المقود والمستسلم، وهذا لن يتم إلا بالنزول من الابراج العاجية والحصون المشيدة والعودة إلى أحضان الشعب والشارع وممارسة الاصلاح معه وبه وله، وهذا لن يتم كذلك إلا بالعيش في محيطه والايمان بقضاياه والدفاع عن آماله وتطلعاته وتحقيق مطالبه والسماح له باسماع صوته، هذا هو الحل أياً يكن القادم المخبوء في ثنايا المسطور... ولكن من يقول «كراع جادين» لكل المتصايحين «وبعدين وبعدين وبعدين»...