وسط شد وجذب وأخذ وعطاء، أجاز البرلمان بالإجماع موازنة العام المالي 2011م التي تعتبر بكل المقاييس من واقع ما يحيط بها من تحديات، الموازنة الأهم والأخطر في تاريخ البلاد منذ بزوغ فجر استقلالها، حيث يرقب أهل السودان والعالم من خلفهم مستقبل البلاد بشيء من التوجس والحذر مما يفضي إليه استفتاء أبناء الجنوب لتقرير مصيرهم ليختاوا الوحدة أو الانفصال، وكلا الخيارين لهما تداعيات وآثار على كل الأصعدة، لاسيما على الصعيد الاقتصادي الذي سيقع عليه تحمل عبء كبير من إفرازات الاستفتاء، خاصة إذا ما أسفر عن انفصال الجنوب عن الشمال. ولأجل هذا يرى القائمون والمختصون في مجال الاقتصاد أن وزارة المالية والاقتصاد الوطني ستكون في وضع لا تُحسد عليه في ظل ما تعاني منه من شح في الموارد ونقص في احتياطي النقد الأجنبي، وضعف سعر صرف الجنيه السوداني في مقابل العملات الأخرى، علاوة على ازدياد نسبة معدل التضخم والكساد والاستيراد، وانخفاض في مستوى الصادرات، وتدني وضعف إنتاجية المشاريع الاقتصادية لا سيما في قطاعي الزراعة والصناعة، وما قاد إليه من ارتفاع مستوى البطالة. ويرى المراقبون أن أكبر المعضلات التي تواجه المالية حال الانفصال، تتمثل في فقدانها لعائدات صادر النفط الذي يمثل 95% من صادرات البلاد و70% من موارد المالية الاتحادية. ويبدو أنه بناءً على هذه المعطيات بنت وزارة المالية والاقتصاد الوطني موازنة عام 2011م، مما حدا بالمراقبين الى وصفها بالواقعية، حيث ارتكزت على إرساء دعائم استقرار الاقتصاد الكلي، وثبات سعر صرف الجنيه أمام العملات الأخرى، وتخفيض معدل التضخم إلى 12%، وإعلان مبدأ التقشف في الصرف الحكومي، والحد من استيراد السلع والنهوض بالمشاريع الانتاجية، وليس فرض مزيد من القيود عليها، حتى يتسنى لوزارة المالية توجيه العملات الحرة التي تصرف على استيراد السلع الكمالية، إلى مشاريع الإنتاج الحقيقية، والاهتمام بالقطاع الخاص. غير أن بعض المختصين في مجال الاقتصاد يرون أنه في الوضع الحالي الذي تعايشه البلاد، يصبح من الصعوبة بمكان وضع موازنة بصورة قاطعة، لجهة أن الموارد غير محددة، ويمكن أن تتعرض للتناقص إذا ما اختار أهل الجنوب الانفصال، علاوة على ضعف القطاعات الاقتصادية، بيد أن وزير المالية يرد على هذه الفرضية بأنه ملتزم بالدستور وبنود اتفاقية السلام الشامل إلى حين إنجلاء الاستفتاء ومعرفة نتائجه، وعندها يقول لكل حدث حديث. وأرسل تطمينات إلى جموع الشعب السوداني منذ بداية إعلان مؤشرات الموازنة وظل يرددها بعد إجازتها من قبل البرلمان، بأن الأوضاع الاقتصادية بالسودان الشمالي لن تتأثر كثيراً بخروج إيرادات نفط الجنوب من موارد الموازنة، وأن وزارته تتحسب لكل الظروف بالاحتياطات اللازمة. ويقول البروفيسور عصام بوب إن أهم ما يمكن أن تقوم به وزارة المالية والاقتصاد الوطني، العمل على تنشيط الاقتصاد وتخفيف معدلات الكساد وكبح جماح التضخم المتزايد ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، حتى يكون بالوسع تجنب دخول الاقتصاد في حالة تضخم راكد جديدة خلال عام 2011م. وأشار بوب إلى أن هذه الروشتة تتعلق بالسياسة الاقتصادية الكلية، ويلزم لتطبيقها إعادة هيمنة المالية التنفيذية على السلطة النقدية الأولى بالبلاد «بنك السودان المركزي». وقال إنه لا يمكن السماح في سياسة اقتصادية طبيعية بصدور قرارات مزدوجة تصدر عن سلطات مختلفة. وشدد بوب على ضرورة إعادة هيمنة المالية على بنك السودان المركزي، لأنه، كما يرى، بدون بسط هيمنتها عليه لا يكون بالمقدور تطبيق أية سياسات اقتصادية كلية مجدية، وستظل توجيهات وموجهات المالية حبرا على ورق. وشدد على أن تكون للمالية هيبتها وسلطتها الفعلية على كل الجهات والمؤسسات مهما علا شأنها، وإن لم تفعل ذلك لن تجد الموازنة طريقها إلى أرض الواقع، ووصف بوب الاستدانة الداخلية والتمويل بالعجز بالجرح العميق في السياسات الاقتصادية الكلية، وان عدم التزامها بسداد ما عليها من مطالبات للقطاع الخاص يضعف الثقة في قدرة صانع القرار، ونادى بتبني خطوات حقيقية قابلة للتطبيق لسداد ديون القطاع الخاص على الحكومة، بإرساء معايير للاستقرار الاقتصادي بالبلاد الذي اوضح أنه لا يمكن الوصول إليه إلا بتحسن الأداء المالي وترشيد الإنفاق الحكومي بوضع معايير للتقشف في الإنفاق الحكومي، لا الإنفاق على قطاعات الإنتاج الحقيقية. وطالب بوب في ختام إفاداته بضرورة إعادة النظر في القائمين على القرار الاقتصادي. أما الدكتور محمد الناير فيرى أن كل شيء ممكن إذا ما اتسمت السياسة الاقتصادية بالرشد وتحلت بالحكمة، لجهة أن الاقتصاد هو علم البدائل، وقد جرَّب الناس العديد من السياسات ووقفوا على نتائجها. ولأجل هذا يقول الناير إنه ليس مجديا تجريب المجرب، لذا لا بد من استحداث سياسات جديدة مع تقويم بعض السياسات السابقة التي أفرزت بعض السلبيات، على رأسها سياسة التحرير الاقتصادي. واعتبر سداد ديون القطاع الخاص أولوية، لأن القطاع الخاص تُناط به إدارة ما لا يقل عن 75% من حجم الاقتصاد بالبلاد، بحسب ما ورد في الخطة ربع القرنية. ولأجل هذا يرى الناير أنه لا بد من تقويته بالإيفاء بالالتزامات الخاصة به. وثمَّن دور المالية في العام الماضي في مضمار ديون القطاع الخاص، حيث سددت ما يفوق الملياري جنيه. وطالب المالية بمواصلة سداد الديون حتى يتفاعل هذا القطاع بصورة أكبر مع مشروعات الدولة التنموية. ويضيف قائلاً إنه إذا ما توفرت المصداقية في السداد في المواعيد المحددة، فإنه بإمكان القطاع الخاص تنفيذ مشروعات عن طريق التمويل بالأجل. وقال الناير إن حبس التضخم وخفض ارتفاع معدله والعمل على استقرار سعر الصرف والأسعار، يحتاج إلى حزمة سياسات وقرارات يتبعها عمل فعلي، للوصول إلى استقرار اقتصادي بالبلاد يقوم على بناء احتياطي وافر من العملات الحرة يكفي على الاقل لمقابلة احتياجات البلاد من الواردات لمدة ستة اشهر على الاقل، وإن بناء الاحتياطي هذا لن يتأتى ولن يكون في المقدور ما لم تتمكن الأجهزة الاقتصادية من إحلال الوارادات بالإنتاج المحلي، وتمزيق فاتورة استيراد الضروريات مثل القمح والاسمنت. وقال الناير إن هذا يتطلب اتباع برنامج منهجي مدروس تظهر نتائجه خلال عامين، وما لم يتم بناء احتياطي مقدر من العملات الحرة وتقوية موقف الجنيه أمام العملات الأخرى، فإنه لن يكون بالمقدور الوصول إلى الاستقرار الاقتصادي المنشود.