مع اقترابنا من التطبيق العملي لحق تقرير المصير، كثر الحديث الضمني والصريح عن نيفاشا والغفلة التي صاحبتها خاصة في مسألتي تقرير المصير وأبيي، وما دفعني لتناول الموضوع خطورته الناتجة عن كونه يصدر من منابر الفكر القريبة من مراكز صنع القرار والذي أصبح يشير مباشرة للاستاذ علي عثمان نائب رئيس الجمهورية بصفته المسؤول عن ملف التفاوض في نيفاشا. ولأن في حقيقة الامر الذين ينتقدون الأستاذ علي عثمان إنما دافعهم الحقيقي هو خوفهم من التغيير والاصلاح اللذين أتت بهما اتفاقية نيفاشا والتي أصبحت جزءا من الدستور لذلك هنا أدافع عن ضرورة الاصلاح والتغيير... فالاستاذ علي عثمان لم يخرج عليهم ولم ينفرد برأي بل كان يشاور ويحاور في كل مرحلة وقد راقب الشعب السوداني كله كيف كان التشاور في الخرطوم حول ما يطرح في ناكرو ومشاكوس ونيفاشا. كيف كان يجد جدلاً ونقاشاً ورفضاً وتعديلاً حتى يكاد المراقب للمفاوضات في كينيا يجزم بأنها ستنهار. إذاً دعونا نُذكر هؤلاء الذين «غلبهم الثبات» أمام التطبيق العملي لبنود نيفاشا، دعونا نذكرهم بالأجواء التي تمت فيها المفاوضات علهم يقتسمون اخطاءهم أو يتحملون تبعاتها «ويركزوا» أمام حتمية التغيير والاصلاح في السودان شماله وجنوبه. كيف وصلنا إلى نيفاشا؟ حتى بمعزل عن الاخطاء التاريخية في ادارة الدولة السودانية عموماً ومسألة الجنوب خصوصاً راقب الشعب السوداني بكافة قطاعاته العمال والمزارعين والموظفين والأمهات حرب الجهاد في الجنوب بصبر وصمت الشعب الواعي. وبالرغم من وقود تلك الحرب من كل الشباب السوداني بمختلف مكوناته إلا ان المجتمع ظل صامداً لم ينتفض يحتسب شبابه ويدعم الجرحى في كل ايصال ولم ينتفض ضد الحكومة وايضاً لم يقم بأية أعمال عدائية تجاه الجنوبيين الفارين من الحرب، فقد وجد النازحون إلى الشمال بدءا من مناطق التماس وكافة عواصم المديريات إلى الخروطم وجدوا مجتمعاً انسانياً يتعامل معهم في ايجار المساكن والتشغيل وكافة أنواع المعاملات الانسانية التي تحفظ العلائق في حدود الاحترام المتبادل. هكذا كان حال الشعب السوداني فكيف كان حال الحزب الحاكم؟ لقد انشق الحزب على نفسه مخلفاً جواً من الخصومة السياسية اذهلت فطرة السودانيين السوية «ليقوض «تمكينه» بنفسه ويخذل بعضه البعض حتى قبل ان يكمل فتوحاته المصممة من داخل مشروعه الحضاري! في هذه الاجواء جلس مفاوض المؤتمر الوطني المفوض يفاوض الحركة الشعبية التي أصبحت تتلقى الدعم المعنوي من الشق الآخر جلس المفاوض المفوض وهو يحمل عبء اخطاء السياسية الخارجية وما ترتب عليها ويتحمل عبء خصومة أخوية تنوء بحملها الجبال ومع ذلك ولاعتبارات نفسية واجتماعية وتربوية ميّزت السودانيين توصلوا إلى اتفاقية نيفاشا. فما هي الاتفاقية وهل كانت ضرورية ومفيدة وأتت في وقتها أم ماذا؟! ضرورة اتفاقية نيفاشا كانت اتفاقية نيفاشا وما تضمنته من مبادئ وعهود ومواثيق ضرورية جداً لمسيرة الشعب السوداني وبغض النظر عن الجدل التاريخي الطويل فقد أتت اتفاقية نيفاشا في وقت ضاق دستور 1998م حتى بواضعيه، وكان لابد من تغيير المفاهيم التي تدار بها الدولة وتغيير أسلوب ادارة الخدمة المدنية وفوق هذا وذاك أصبح حتماً لافرار منه تقاسم الثروة والسلطة بين السودانيين وفقاً لمعايير ومبادئ متفق عليها. الذين لا يمؤمنون بهذا يقفزون مباشرة إلى الكلام عن الدولة العلمانية والدولة الدينية. أين هي الآن الدولة الدينية أو العلمانية؟ مع ان نيفاشا قد حسمت هذا الأمر. ولكن قبل أن استرسل في الاجابة عن السؤال المنطقي هل كانت توجد دولة راشدة قوية غير فاسدة تمت خيانتها باتفاقية نيفاشا؟ قبل أن اشرع في الاجابة البديهية دعوني أجيب عن السؤال الذي افترضته وهو هل كانت اتفاقية نيفاشا ضرورية لمسيرة الدولة الوطنية؟ نعم وألف نعم ذلك ان الدولة المركزية القابضة ما كان لها ان تستمر اكثر من خمسين عاماً هذا ليس في بلد مثل السودان تفشت فيه المحسوبية وأهمل فيه الريف والبادية ولكن حتى في بلد مثل فرنسا التي اخترعت الدولة تمت مراجعة مركزية الدولة في 1968 قال ديجول (ان التطور العام يحمل بلادنا نحو توازن جديد) ليواصل جورج بومبيدو (بإدخال تعديلات تمنح فرصا لجميع المناطق) وفي عام 1981م أعلن الرئيس ميتران صراحة (ان فرنسا كانت بحاجة لسلطة مركزية قوية كي تصنع نفسها وهي اليوم بحاجة لسلطة لا مركزية كي لا تتفكك). في بريطانيا «صاحبتنا ذات نفسها) تتساءل الصحافة البريطانية عن تطور محتمل للدولة الوحدوية الملكية نحو «جمهورية فيدرالية» فقد ورد في الاوبزيرفر «ان المملكة المتحدة ستصبح بشكل سريع اندماجة أمم وأقاليم مستقلة ذاتياً تتموضع تحت رقابة برلمان بسلطات محدودة» وبهذه الكيفية تتمكن ايرلندا من المطالبة بالاستقلال الذاتي. أما الوضع في اسبانيا فقد تطور رغم أنف الدستور الاسباني الذي تنادي مادته الثانية (بالوحدة غير القابلة للحل اللأمة) تطور إلى حد استمتاع مقاطعات واسعة مثل كاتلونيا، والباسك، وغاليسيا باستقلال ذاتي واسع بينما لا تزال مقاطعات أخرى تسعى لتوسيع صلاحياتها، (للمزيد انظر الدولة مغامرة غير اكيدة) تأليف جاك باغنار. إذاً التطور الحتمي من الدولة المركزية القابضة نحو اللامركزية يتم في كل العالم في شكل اصلاح ذاتي مرن وحوارات هادفة، لماذا نحن في السودان وبمنطق «لا أريكم الا ما أرى» نعطل قدراتنا القانونية ومواهبنا الانسانية وننبذ ارثنا الاداري الشعبي ونقعد عن النهوض والتطور لأن فقط هناك أدمغة حرب افكار «تشخصن» الازمات؟ إذاً نيفاشا بكل ما ترتب عليها كانت ضرورة مرحلة تاريخية ليس على غرار «فقه التمكين المرحلي» بل ضرورة مرحلة تاريخية يمليها حراك اجتماعي وتحول مفاهيمي يفور ويمور مثل البركان اذا لم نعالجه يفتح قنوات الحوار وحتى قنوات الحوار وحدها لا تكفي بل الصدق العملي في اصلاح مؤسسات الدولة واتاحة الفرص أمام الجميع في العمل والتعليم والعلاج والأهم من هذا وذاك محاسبة المخطئين وازاحة الفاشلين الذين استنفذوا كل الفرص لكي يصلحوا اخطاءهم الباهظة في ادارة المؤسسات. إننا نواجه مرحلة لا تحتاج فقط للشجاعة بل إلى الايمان المطلق بضرورة تغيير الواقع والاعتقاد الجازم بأن كل الأساليب التي تمت ممارستها خلال العقدين الماضيين قد فشلت ولابد من تغيير الرؤي والمنهج خاصة فيما يتعلق بإصلاح الحكم اللامركزي الذي من الرصانة بمكان خير للسودانيين أن تتم برعاية ومباركة من المركز، فكل الدول الفيدرالية مثل ألمانيا تمارس فيدراليتها من «مركز قوي» عادل وديمقراطي فإذا لم يبلغ الرجال الذين يديرون دفة الحكم في السودان رشدهم ويدركوا أهمية اصلاح الحكم اللامركزي بإعطاء الاقاليم اعتبارها الكامل فإن هذه الاقاليم لن تنتظر طويلاً مركزاً لا يرحم وستتفلت من قبضته وفي تفلتها ستعاني كثيراً حتى تستقر ولكي نجنب الشعب السوداني في كافة الاقاليم هذا المصير ويكون هم رجال المركز فقط الشماتة في جوعهم وفقرهم وجهلهم وانقساماتهم الاكرم لرجال الحكم في المركز أن يبسطوا تجربة الارث الاداري والقانوني والاقتصادي والذي تراكم عبر تجربة الحكم المركزي إلى الاقاليم وان ينشطوا بهمة وصفاء في ارساء دعائم حكم فيدرالي حقيقي يعطي الوحدات الادارية قبل المعتمديات السلطات ويرعي ثقافاتها ومواهب أهلها واذا لم يفعل رجال المركز ذلك فإن الاقاليم ستضطر إلى التخبط وسيضيع زمن قبل الاستقرار نحن في غنى عن اضاعته فلا النبل ولا القيم ولا الحكمة ولا الامانة التي سنلاقى بها ربنا تسمح بأن نكيد ونمكر بأقاليم السودان فقط لأنهم «لا يستطيعون» «سيستطعيون» ولكن بعد حين فالافضل أن نرتقي بإنسانيتنا إلى المجد التاريخي ونبعدها عن الحقد والمكر الذي لن يصنع مجداً ولا قوة. إذاً نيفاشا كانت ضرورية وكانت سانحة لحزب المؤتمر الوطني أن يقوم بفرصة تاريخية راقية جداً بتنفيذ اتفاقية نيفاشا بأريحية وشجاعة ويتفاءل بكونها اتفاقية في جوهرها وحقيقتها أتت لاعادة هيكلة الحكم وادارته واصلاح مؤسساته وكان له أن يفخر بدستور 2005م الذي تضمن وثيقة الحقوق وان يمضي قدماً في اصلاح القوانين الخاصة بالحريات والعدالة الاجتماعية وبذلك يكون قد قاد افريقيا كلها نحو نموذج للاصلاح الذاتي. ولعل من المفارقات التي لا تحدث إلا في اجواء الخصومات السياسية «المشخصنة» التي لا يرى فيها السياسيون إلا حظوظهم الشخصية لعل من المفارقات أن بعضهم يرى في نيفاشا نموذجاً وحلاً ومصلحا لدارفور وبقية الاقاليم إذاً هذا اعتراف بإنجاز لماذا يحارب صُناعه!!؟ إن المفارقات كثيرة في هذا المقام أهمها موضوع الحريات الاربع والجنسية وفقدان المواطنة لا أجد سبباً واحداً يجعلنا لا نقبل بوجود الجنوبيين في الشمال بعد الاستفتاء فبالرغم من كونهم مواطنين سودانيين حتى لو انفصل الجنوب فهم آخر من يطبق عليهم قانون الجنسية أو المواطنة لسبب بسيط نحن بطبيعتنا دولة اريحية ومضيافة ولا تحب حتى الحكومة خاصة وزارة الداخلية القيام بواجبها تجاه الاجانب الآن في الخرطوم اذا قارنا مواطني دولة مجاورة سنجدهم أكثر من الاخوة الجنوبيين على الاقل الاخوة الجنوبيون أُسر يعني اطفال ونساء وشيوخ وشباب. مواطنو هذه الدولة شباب في عمر محدد هم الآن بالملايين هذا غير الاجانب من بقية الدول الافريقية وغير الافريقية وبعيد عن «الفسالة السياسية» هل تستطيع وزارة الداخلية اذا تحديناها تقنين اوضاع كل الاجانب في ولاية الخرطوم ناهيك عن بقية الاقاليم، وحتى عن الذين ينقبون عن «الذهب براحتهم وفي كرم فياض» وهل تستطيع وزارة الداخلية إذا قرر السودانيون الاصليون الحصول على الجنسية السودانية وباستعداد تام لدفع رسومها حتى لو تضاعفت هل تملك وزارة الداخلية الامكانات الفنية لمنحهم الجنسية السودانية؟» أشك حتى في وجود حبر يكفي للبصمات!!» اذاً ما الذي يضيرنا من وجود اخوتنا من الجنوب في الشمال حتى تستقر دولتهم اذا انفصلوا عنّا أو حتى اذا أرادوا البقاء نوفق اوضاعنا جميعاً. ثانية هذه المفارقات هو استهجان دعم الجنوبيين مالياً وتنموياً. لماذا الاحتجاج على الصرف التنموي في الجنوب حتى لو اعتبرناهم دولة مستقلة ذات سيادة؟ أليست المصالح الاقتصادية والانسانية والاجتماعية تتطلب التعاون بين الدول؟ الا نملك المروءة التي تجعلنا نمد يد العون لهم والمساهمة حتى في بناء دولتهم؟ الا نطلب نحن العون من الصين؟ هل الصينيون سُجد ركع يقيمون الليل؟ أم ان المصالح بين الدول أمر مشروع رغم كل الفوارق والمسافات؟ ألسنا اصحاب رسالة توصينا بالجار الجنب والجار ذي القربى؟ ثالثة المفارقات هذه الايام يتم طرح التعاون مع مصر وكأنه بديل لانفصال الجنوب أنا لا حساسية لي في التعاون مع مصر لكن طرح الامر كأن التعاون مع مصر تعويض لفقدان الجنوب هنا الامر يتطلب وقوفاً وتساؤلاً؛ فمصر رغم كونها أكبر الدول العربية اذ يسكنها ربع تعداد العرب وكونها معروفة بحضارتها القديمة والأهم كونها موطنا لأقدم مؤسسة تعليمية اسلامية - الأزهر الشريف العريق - وبما لها من حراك ثقافي وفني عميق الاثر في بقية البلاد العربية رغم هذا واكثر لي ملاحظتان تتعلقان بموضوعنا:الملاحظة الاولى رغم كل هذه الاعتبارات العربية الاسلامية لم تستطع مصر أن تحافظ على استقلال كريم وأبي يبعدها عن النفوذ الامريكي ليس في المجال السياسي والاقتصادي فقط بل حتى في المجال العسكري. يقول مارتن اريك في كتابه ابرياء في الخارج ص70 «توفر القاعدة الجوية المصرية في غرب القاهرة نقطة مرور لوجستية مهمة لنقل كميات هائلة من المعدات إلى العراق، وقناة السويس هي الممر الحيوي لسفن البحرية الامريكية بما في ذلك حاملات الطائرات إلى الخليج». هذا من ناحية علاقتها بأمريكا أما من ناحية علاقتها بإسرائيل فالأمر معلوم فيما يتعلق بكسر الحاجز النفسي تجاه العدو الصهيوني العنصري من ناحية ومن ناحية كونها إحدى دول الطوق التي تحكم الحصار على غزة وفي نفس الوقت أصبحت معبر المهاجرين إلى دولة اسرائيل. هذه هي مصر «الرسمية» التي تبدو بديلاً لدولة الجنوب المحتملة والمتهمة بالخضوع لامريكا واسرائيل!!، أما الملاحظة الثانية فمصر رغم مؤسساتها وثقافتها وفنها إلا انها حافظت على تقليد عريق في الحكم المركزي وهي تعاني الآن من مسألة المواطنة وحقوقها في شتى الجوانب ورغم كونها بلد سبعين مليون مسلم سُنى إلا ان الاخوان المسلمون فيها يعانون سياسياً أكثر من أي بلد آخر لذلك نحن متقدمون على مصر فقد انجزنا رغم صراعاتنا مفاهيم في الحكم اللامركزي وحسمنا موضوع المواطنة في دستورنا الحالي، فأي خوف من انفصال الجنوب هذا الذي يمنعنا من الاستمتاع بإنجازاتنا وتفعيلها وتطويرها والتمسك بها؟ لماذا رهبة انفصال الجنوب المحتملة تجعلنا نلجأ لدولة لم تجير العراق من بطش امريكا ولم تحترم أغلبيتها المسلمة ولا أقليتها القبطية؟ نحن اذا «ركزنا» سنعين مصر والجنوب، نملك من الامكانات الفكرية والأخلاقية التي اذا سخرناها بعيداً عن الحماقة ستكون لنا الريادة بإذن الله. إن موضوع استفتاء الجنوب وحتى مسألة أبيي يتطلب مننا التعامل بمنطق القدرة وليس منطق القوة ومنطق القوة يختلف عن منطق القدرة، فالقدرة تعني الرؤية الواسعة وتعني المقدرة على ادارة الامور بمنطق الثبات والشجاعة ولنا في رسولنا الكريم عليه أفضل السلام أسوة حين قفل راجعاً عن مكة وهو في تلك اللحظة يملك القوة والقدرة لكنه أراد أن يعمل منطق القدرة فكان رجوعه دون أداء العمرة درساً يحتاج إلى كتب لتفسره. إن القدرة على ادارة حوار مع الجنوبيين إذا صوتوا للانفصال أمر في غاية الأهمية لأننا نريد جواراً آمناً ولأننا نطمع في وحدة قادمة بعد الانفصال تماماً كما فعل الألمان باقتدار ومهارة، ولا يقولن قائل إن الألمان جنس واحد لأقول له ان الكوريين كذلك جنس واحد لكن منطق القدرة والذكاء والحنكة لدى الالمان جنبهم معاناة الكوريين الذين ألجأتهم حماقتهم إلى منطق القوة الذي لن يفيدهم أبداً. لا يمكن أن تسمى القدرة على ايجاد الحلول والسيطرة على انفلاتات المستقبل وايجاد الحلول التي تبعد شبح الدمار، لا يمكن أن تسمى انبطاحاً أو جبناً، إذاً ماذا تسمى الحنكة والحكمة والصبر وقراءة المستقبل؟!