سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    وزارة الخارجية القطرية: نعرب عن قلقنا البالغ من زيادة التصعيد في محيط مدينة الفاشر    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    ياسر عبدالرحمن العطا: يجب مواجهة طموحات دول الشر والمرتزقة العرب في الشتات – شاهد الفيديو    حقائق كاشفة عن السلوك الإيراني!    المؤسس.. وقرار اكتشاف واستخراج الثروة المعدنية    البيان الختامي لملتقى البركل لتحالف حماية دارفور    الداخلية السودانية: سيذهب فريق مكون من المرور للنيجر لاستعادة هذه المسروقات    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يتفقد شرطة محلية كوستي والقسم الأوسط    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    تجارة المعاداة للسامية    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جيل مميز وفترة ذهبية
في رثاء الراحل المهندس احمد الطيب بابكر :
نشر في الصحافة يوم 26 - 11 - 2010

في مثل هذه المواقف لا يعرف المرء كيف يبدأ ؟ و ماذا يقول ؟ عن فقد صديق عزيز و أخ وفي كريم لم تلده امه ? عرفه و صادقه و صدقه و صدقه و زامله منذ عهد الطفوله و الكتاب و لما يبلغ العاشرة من عمره حتى نهاية التعليم الجامعي ? و بعدها في الحياة الممتده بكل دروبها المختلفه و شاطره السراء و الضراء ? و الفرحة و الحزن ? الاحباط و الحسره ? و البسمة و التفاؤل ? لم نفترق قط رغم ما املته علينا ظروف الحياة بأن يصبح هو مهندساً و اصير أنا زراعياً و اختلفت بنا مواقع العمل و لكنه كان يحرص دائماً على اللقاء و الاتصال بالسفر الى او بالسفر اليه اينما كان و حيثما كنت فتتجدد الاشواق و تنبعث العواطف و تزداد الصداقه وثوقاً.
هكذا كان أحمد الطيب بابكر وفياً لاصدقائه مسارعاً لاجابة مطالبهم باذلاً كل ما لديه لارضائهم وقضاء حوائجهم ? كريماً جواداً شعاره «اصرف مافي الجيب يأتيك مافي الغيب» لا يهمه المال و لا جمعه بقدر مايهمه صرفه على اصدقائه و اقاربه ? يقول لك «المال مابهم ان كتر أو راح» و لكن المهم العمل الطيب و الذكرى الحسنه.
كنا و نحن طلبه بالمدارس العليا نخرج في مجموعات صغيره للعشاء في مطعم او الذهاب للسينما في بعض الامسيات , و يصر احمد بالحاح على دفع الحساب كله او قطع التذاكر كلها و يدفع كل مافي جيبه فرحاً مبتهجاً من مصاريفه التي كان يتقاضاها اعانة مدرسية Scholarship و يرجع للداخليه خالي الوفاض و لكنه اسعدنا حالا و اطيبنا نفساً بما فعل و يتكرر الموقف كلما خرجنا و كلما كان لديه باق من تلك المصاريف.
قصيدتنا العصماء الاولى و الاخيرة
اذكر انني عندما كنت خبيراً زراعياً بمشروع الهشابة بالنيل الابيض ? مركز الدويم ? ان جاءني احمد زائراً لانه كما ذكرت لايطيق البعد عن اصدقائه فيصلهم اينما كانوا و حيثما كانوا ? جاءني في الهشابه و قضى معنا وقتاً طيباً
و كنا نسمر في احدى الليالي و القمر قد اكتملت دورته و توسط كبد السماء مضيئاً جذاباً جميلاً ? و احمد جالس على الكرسي فرفع بصره و نظر الى القمر و قال لي «هذا جو شاعري يا محمد ? دعنا نحاول فيه نظم بعض الشعر في هذه الليله المقمرة « فقلت له « فليكن « و بدانا المحاوله و صمت احمد ثم قال ها أنذا ابدا لك فأقول « قمر أطل على البلاد و نورا........ و كانت الحرب العالميه الثانيه مازالت دائره ? و بدانا المحاوله لايجاد الكلمات المناسبه و الوزن المطلوب حتى استطعنا بعد جهد جهيد ان نؤلف بعض الابيات و لكننا فشلنا في ايجاد كلمه بديله للكلمه الانجليزيه Democracy فاضطررنا لادخالها في شعرنا كما هي و جاءت قصيدتنا العصماء الاولى و الاخيره هكذا :-
قمر أطل على البلاد و نورا و الحرب عمت في السماء و في الثرى
الكل مفتون بقتل صديقه و الموت يمشي بينهم متبخترا
قالوا نحارب في سبيل Democracy كم باسمها خدعت شعوب في الورى
هذا رياء احذقته دولة بين الممالك و اسمها انجلترى
و وقف حمار الشيخ في العقبه. و لم نتمكن من الزياده او الاستمرار في المحاوله المجهده لأن الصبح قد اسفر و قد أخذت منا هذه الابيات الاربعه كل هذا الوقت ? فنظرنا الى بعضنا البعض و ادركنا المشقه التي يلاقيها امثالنا في
نظم الشعر و كانت تلك اول و اخر محاوله لنا لم نعد اليها بعد ان وعينا الدرس تماماً.
الكمبيوتر
جئت من بارا و انا في التاسعة من عمري عندما نقل والدي منها الى الخرطوم و ذات صباح اخذني والدي الى الشيخ بابكر بدري الذي جاء من رفاعه و فتح مدرسة الاحفاد الاوليه بمباني متواضعه من الجالوص شمال مدرسة
امدرمان الاميريه ذات الطابقين و المبنيه من الحجر و الطوب الاحمر و الاسمنت و كنا و نحن صغار نغار كثيراً من تلامذتها. اخذ الشيخ الجليل بيدي و ادخلني الفصل «سنه ثالثه كتابً و اجلسني بجانب تلميذ دخل المدرسه قبلي
باسبوع ? و كان ذلك الطالب هو احمد الطيب بابكر ? تعرفت عليه و لما لم نكن نعرف بقية الطلبه فقد تلازمنا مع بعضنا البعض في الفسحه و في الفصل و اصبحنا بعد قليل صديقين و امتدت هذه الصداقه لاكثر من خمسه و سبعين عاماً الى ان توفاه الله و مازلت اعيش ذكراها العطره.
لقد كان احمد تلميذاً نابهاً - ذكياً ? طيباً - كريم النفس - يكرة العنف ويميل للمسالمة - ويتجنب شغب التلاميذ وشقاواتهم ويساعد كل من يحتاج للمساعدة والشرح لبعض الدروس ? ولكنه ....كان مبرزاً في عالم الحساب - يجمع ويطرح ويضرب ويقسم كل ذلك في رأسه - وكنا نحن زملاؤه التلاميذ نعجب لهذه الظاهره في احمد ? اذ كنا نحفظ جداول الضرب حتى الرقم 12 . لكن احمد لم يكن يحفظه فقط بل كان يقوم بضرب او قسمة عددين او ثلاثة في رأسه ويعطي الجواب الصحيح شفاهةً. كنا نتحلق حوله وكلنا بيده قلمٌ و ورقه ونطلب من احمد ان يقوم مثلاً بضرب 315 ? 213 ونبدأ نحن في الضرب والحساب على الورقة ويبدأ احمد بتشغيل الكمبيوتر في رأسه ويعطينا الجواب شفاهة قبل ان نكون نحن قد توصلنا اليه و وجدناه مطابقاً لما قال.
لذا لم يتجرأ اي واحد منا على منافسته او المقارنة به حتى ان مدرس الحساب كثيراً ماكان يعفي احمد من الجلوس مع بقية الطلبه لأداء اختبار في الحساب فيخرج احمد من الفصل ونجلس نحن لاداء الإمتحان .
لم يكن احمد ممتازاً في علم الحساب فقط بل كان ممتازاً ايضاً في بقية العلوم الأخرى ويجئ الإمتحان النهائي للفصل وتظهر النتيجة فإذا بأحمد هو الأول وعبده حسين محروس الثاني ويوسف حسون الثالث وهكذا كان هذا الثالوث يتبادل المواقع بفارق درجة او نصفها ولا يمكن لأي تلميذ آخر اختراقهم .
وتبدأ الدراسة ونحن بالكتاب ويتم صرف الكتب والكراريس والأقلام وتأتي الإجازة ويذهب كل منا الى اهله ويذهب احمد الى شندي الى الجزيرة سردية ويعود بعد الإجازة ليخبرنا أن النيل قد فاض وغطى الجزيرة سردية واخذ كل شئ معه حتى كتبه وكراساته, ويحتار المدرسون وينظرون اليه بإشفاق لكثرة ما سوف يحتاج لنقله من جديد كالتاريخ والجغرافيا والعربي والأنجليزي والكلمات , ولكن احمد يبتسم ويقول لنا «لايهمكم كلها في رأسي» وتمضي الأيام ويجئ الإمتحان فإذا باحمد هو «الاول» لأن كل شئ كان فعلاً في راسه كما قال .
كان الشيخ بابكر بدري هو الناظر والمدرس يعاونه اخوه العم عبد الكريم بدري واحفاده ابراهيم إدريس ومالك ابراهيم مالك ومدرسون أمثال احمد عمر الشيخ وشيخ مرغني وضابط المدرسة مكي المنا وغيرهم. وكان الشيخ ببعد نظره قد طلب من الأباء في كرام الاسر السودانية ان يدعموه بالأبناء قبل المال ليلحقهم بمدرسته حتى يكونوا نواة طيبة لمدارس الأحفاد في المستقبل - وهكذا جاء ابناء و احفاد بدري و الإمام المهدي و الخليفة
عبد الله و الخليفة علي الحلو والخليفة شريف والأمراء وابناء البرير وعبد المنعم محمد وابو العلا و الأمين عبد الرحمن و صديق عيسى وحسين تربال وشوقي والشنقيطي والمطبعجي وابناء شبيكة و ميرغني شكاك و الهاشماب والرباطاب وابناء المسالمة داؤد منديل واسحق اسرائيل العيني وصالح داؤد وغيرهم كثر وهكذا هيأت لهم الأحفاد هذا الملتقى الأسري الواسع فتعارفوا وتصادقوا .
وجاء عام 1935 ونجح شيخنا الجليل في الحصول على قطعة أرض جنوب معتمدية امدرمان الحالية على شارع المودردة إبتنى عليها الشيخ مدرسة الأحفاد الوسطى من طابق واحد من الطوب الأحمر والأسمنت ويمر شريط الترام امامها تماماً كمدرسة امدرمان الأميرية. وبذلك ازال الشيخ عنا الحساسية والغيرة التي كانت تعتلج في نفوسنا ونحن صغار على تلاميذ مدرسة امدرمان الأميرية التي تقف مدرستهم شامخة بطابقين تعلوها ساعة حائط كبيرة.
ولم تكن بامدرمان في ذلك الوقت الا ثلاثة مدارس وسطى هي امدرمان الاميرية -المدرسة الأهلية -ومدرسة الأحفاد .
وكان الشائع في ذلك الزمان ان كلية غردون الثانوية لا تقبل خريجي المدارس الأهلية بل يقتصر قبولها على تلاميذ المدارس الحكومية فقط. وذلك ان تلاميذ المدارس الأهلية اضعف من أن يجتازوا الدخول للكلية !! وخلقت هذه الشائعة روح التحدي في نفوسنا ونفوس اساتذتنا وكان لابد ان تبرهن الاحفاد على جدارتها ونبرهن نحن التلاميذ على عدم صحة هذه الشائعة وجاءت امتحانات الدخول للكلية وتقدمت الدفعة الاولى من تلاميذ الاحفاد وادهشوا الجميع فقد كسروا حاجز الإشاعة ونجح عدد مقدر منهم من بين 120 تلميذاً الذين تم قبولهم بالكلية وكان على رأسهم ثابت حسن أول مدير على مصلحة الأثار وكامل شوقي أول مدير لمصلحة الغابات وصادق بدري محافظ مشروع الجزيرة مدني -والإمام الهادي المهدي ? وكمال عبد الله الفاضل المهدي - وإسحاق الخليفة شريف ? ومهدي حسين شريف وآخرون وتوالى النجاح حتى جاءت دفعتنا وكان أولنا احمد الطيب بابكر
وهكذا إنطلقت الأحفاد من عقالها وكسرت الحواجز بينها وبين كلية غردون .
كلية غردون
دخلنا كلية غردون وكان احمد الطيب بابكر من الاوائل الذين قبلوا بالفصل الأول وكنت في الفصل الثالث اذ كانت الكلية تقسم طلبتها حسب درجات نجاحهم عند القبول في كل العلوم ثم تقوم بتقسيمهم مرة اخرى حسب نجاحهم في علم الحساب والرياضيات .وكان احمد الطيب من الأوائل في هذا القسم ايضاً وكنت معه في نفس فصل الحساب « الأول « حتى السنة الثالثة عندما اجرت الكلية إمتحاناً عاماً لكل الطلبة في علم الرياضيات (الهندسة - الجبر- الحساب) وتم إختيار الخمسة عشر الأوائل الذين كان احمد الطيب أولهم وكنت من ضمنهم مع من أذكر دوليب محمد المهدي وقناوي وعبد المنعم عباس وعمر الصديق ولويس عبده وآخرين وفي السنة الرابعة في كلية غردون جلسنا لإمتحان الشهادة الثانوية من جامعة كمبردج بانجلترى - وجاء احمد الطيب كاسحاً كالعادة ومن الاوائل حائزاً على شهادة كمبردج من الدرجة الاولى Grade I ودخلنا كلية العلوم بالمدارس العليا ولما كانت رغبته دراسة الهندسة ولم يكن القبول فيها متيسراً في ذلك العام لان القبول يتم مرة كل سنتين فقد آثر احمد ان يقطع دراسته في كلية العلوم في ذلك العام ليلتحق بكلية الهندسة في العام الذي يليه وعمل مؤقتاً بالتدريس في مدرسة الأحفاد - امه الرؤوم- التي يحبها كثيراً ثم عاد الى المدارس العليا في كلية الهندسة وانغمس في النشاط السياسي للطلاب.
يخرج قائداً للمظاهرات ضد الإستعمار ويقف خطيباً في نادي الطلبه بالإتحاد ينادي الطلبة بجلاء المستعمر و بالكفاح المشترك لوحدة وادي النيل ويصطدم بالإنجليز ويتم إعتقاله في كل مرة. اذكر في هذه المناسبة انه عندما كان في شندي قاد مظاهرة وهو طالب بالمدارس العليا ضد الجمعية التشريعية و وصلت المظاهرة الى مركز شندي لتسمع صوتها للمفتش الإنجليزي الموجود بداخله ويتسلق احمد حائط المركز ويقف خطيباً يهتف بسقوط الإستعمار فيتناوله البوليس من الجانب الآخر للحائط ويودعه السجن .
وتوالت نشاطات احمد السياسية وتواصلت في إتحاد الطلبه للحد الذي ازعج سلطات المدارس العليا إنذاك فأصدرت قرارها بمنع الطلاب من الإشتراك في أي عمل سياسي ودعوة الطلاب للتعهد كتابة مع تأييد أولياء امورهم بعدم ممارسة أي نشاط سياسي داخل الإتحاد .ولكن احمد بحسه الوطني الصادق وقناعاته وإيمانه بأن «الوطنية تطرف» قد رفض ومعه آخرون التوقيع على هذا التعهد وتم فصلهم من المدارس العليا فشدوا الرحال مهاجرين الى مصر طلباً للعلم وإكمالاً لدراساتهم. وكان احمد وقتها في السنة الرابعة هندسة ولم يبق له الا سنة واحدة للتخرج. فضحى بها وآثر حِفاظاً على مبادئه ان يترك المدارس العليا الى القاهرة ليواصل تعليمه هناك.
المهندس أحمد
ويرجع احمد من القاهرة ويلتحق بمدرسة الأشغال وينقل مهندساً الى القضارف ولكنه يختلف مع المهندس الإنجليزي في تصميم احد المنشآت ويوضح له احمد خطأه فيغتاظ الإنجليزي ويغلظ الكلام مع احمد فيخرج احمد ويقدم له إستقالته كتابة ويندهش الخواجة لهذا التصرف ويحاول الإعتذار لاحمد ولكن احمد لا يعبأ به ولا بإعتذاره ويستغل القطار القادم الى الخرطوم.
ويعلم صديقه مكي عباس بما حدث فيتصل باحمد ويدعوه للعمل معه في مشروع الجزيرة الذي أصبح هو - مكي عباس- أول محافظ سوداني له بعد خروج الإنجليز ويوافق احمد ويسافر الى بركات ويستلم عمله ويصبح نائباً لكبير مهندسي المشروع (المهندس إبراهيم عمر الأمين) وتوطدت عرى الصداقة بينهما حتى انه عندما ترك إبراهيم الخدمة بالمشروع ومرض وإضطر للسفر خارج البلاد للعلاج ترك أحمد كل شئ مدفوعاً بوفائه لأصدقائه وحزم امتعته وسافر مع ابراهيم مرافقاً له حتى تم علاجه ورجع بالسلامه.
ويستقيل مكي عباس من مشروع الجزيرة بعد رجوع احمد من إبتعاثه الى إنجلترى لمدة سنتين للتدريب ولم يطق احمد البقاء بالمشروع بعد أن إستقال صديقه مكي عباس ودفعه وفاؤه لاصدقائة وعواطفه النبيلة ان يتقدم هو بإستقالته كذلك وكان جميع من حوله مندهشون لهذا التصرف وترك مثل هذه الوظيفة المغرية , ذلك لانهم لم يعرفوا احمد الطيب ومدى وعمق وفائة لاصدقائه.
وعندما علمتُ بإستقالته من مشروع الجزيرة دعوته للمجئ الي في كوستي ليساعد في تنمية وإنشاء المشاريع المروية بالنيل الأبيض والتي تحتاج لمثل خبرته في مشروع الجزيرة وكفاءته وامانته . وكنت وقتها مفتشاً للزراعة بكوستي وتم فتح المنطقة لزراعة القطن المروي بالمشاريع الزراعية على ضفاف النيل الأبيض حتى منطقة جودة ومدينة الرنك من الناحية الشرقية وحتى منطقة كربكرة وود دكونه من الناحية الغربيه.
وجاء المهندسون من كل صوب الى كوستي يتدافعون لعمل الخرائط والحفريات والإنشاءات لقيام المشاريع في مساحات بلغت احداها 10 الف فدان وكان على رأس هؤلاء المهندسين المهندس احمد مالك وعبد الرحيم الطيار ومحمود محمد طه وعلي سعيد صبره وعلي نور وغيرهم .ولم يمضي وقت طويل الا ونال احمد الطيب إعجاب وثقة وتقدير كل أؤلئك المهندسين واصحاب المشاريع الذين تعاملوا معه والمسؤلين في مكتب مفتش المركز الإنجليزي ومساعده السيد امير الصاوي والمسئولين في مكتب الزراعة وإشتهر بينهم بالدقة والأمانه والإستقامة. ولئن كان لولاية النيل الأبيض ماتفتخر به اليوم من تنمية وإنشاءات للمشاريع الزراعية فلأحمد الطيب يرجع الفضل الأكبر في كل ذلك. ولكن هل يذكر المسؤلون في كوستي والنيل الأبيض الأن او يتذكرون مهندساً اسمه احمد الطيب بابكر؟ لا أدري !!
أنهى احمد الطيب اعماله في كوستي بعد ان قدم لكوستي كل هذه الخدمات وجاء الى الخرطوم وبدأ بمزاولة عمله الهندسي المعماري بالتعاون مع بعض زملائة المهندسين وتفرغ للعمل في مجال المقاولات حيث عرف بالدقة في حساب الكميات وفي صياغة العقود والصرامة والانضباط في تنفيذها .
وانشأ في منتصف الستينات شركة خاصة وآثر ان يشرك أصدقاءه معه في تأسيس هذه الشركة فإستدعاني و الإخوة مكاوي مصطفى و إبراهيم منعم منصور وقمنا معه بتأسيس شركة الشرق الأوسط للتشييد ثم الحق بنا صديقه وابن دفعته المهندس عبد المنعم عباس.
ولم يقف احمد الطيب عند هذا الحد ولكنه قام يدعو اخوانه المهندسين والمقاولين لإنشاء إتحاد المقاولين السوانيين ليكسروا حاجز الإحتكار الذي كان وقفاً على المقاولين الإنجليز حتى ذلك الوقت - وقد كان!!
مجلسك منظوم شوفو رايق
و في الخرطوم واصل احمد نشاطه الاجتماعي و كان هو القاسم المشترك بين تلك المجموعات الاخويه التي لم يكن ليكتمل عقدها الا بوجود احمد :-
منظوم شوفو رايق عقدو ناقص زول و لا تام
و كانت هذه المجموعات تتكون من :-
مجموعة ابناء الدفعه
و يطلق عليها اسم الكومباين) : محمد عبد الله نور و اخوه ابراهيم نور و عبد الهادي حمدتو و حسين كمال
و محمد داؤود الخليفه
مجموعة سعد ابو العلا :
سعد ابو العلا و عبد القادر عبد المنعم و بشير محمد سعيد و مامون
بحيري و محمد داؤود الخليفه
الجراند هوتيل : محمد احمد محجوب و محي الدين صابر و د. عقيل احمد عقيل و علي حامد و في بعض الاحيان عبد الحليم محمد و محمد داؤود الخليفه
كان احمد الطيب كما ذكرت هو القاسم المشترك بين هذه المجموعات و كان كثيراً ما يدعو بعضها في الجراند هوتيل او في منزله للسمر او العشاء توطيداً لعرى الصداقه فيقضوا وقتاً طيباً معه.
اصبح الصبح فلا السجن
و جاءت ثورة اكتوبر و اصبح الصبح فلا السجن و لا السجان باق ? و كان احمد احد قادتها الذين حاصروا القصر الجمهوري كنت بجانبه و انهمر علينا الرصاص من حرس القصر و سقط الشهداء و نجحت الثورة و اطاحت بالحكم العسكري و اعادت الحريه و الديمقراطيه التي يعشقها احمد
و يجاهد في سبيلها. و يسرع احمد مع صديقه صالح محمود اسماعيل ليصدر صحيفه باسم «اكتوبر» و يكون شعارها «في سبيل الوطن و في سبيل الحريه» لتثبيت مبادئ اكتوبر و ثورتها ضد الظلم
و الاستبداد و الحكم الشمولي و اشاعة الحريه و الديمقراطيه و العدل.
و هكذا و انطلاقاً من من مبادئه هذه فقد وقف بصلابه ضد حزبه الوطني التحادي انذاك عند حل الحزب الشيوعي في نوفمبر من عام 1965 و لم يكن احمد شيوعياً في يوم من الايام و لكنه كان وطنياً مخلصاً جسوراً يقف فيما يعتقد انه الحق و لا يخشى لومة لائم.
لذا فقد نشر في عاموده بجريدة اكتوبر يوم حل الحزب الشيوعي الذي اعتبره احمد انتهاك الدستور نشر يقول في الصفحه الاولى من الجريده و قد جللها بالسواد :-
«في سبيل الله و في سبيل الوطن»
وداعاً ايتها الحريه
وداعاً ايتها الديمقراطيه
وداعاً مبادئ اكتوبر الخالده
و الى اللقاء
و ترك باقي الصفحه فارغه يجللها السواد.
و هكذا ظلت مسيرته ? يصارع الديكتاتوريه و الحكم العسكري و يدافع عن مبادئه الوطنيه التي نشأ و تربى عليها في بيت والده الشيخ الطيب بابكر الذي اشتهر بالصلابه و الغيره على وطنه و مصادمة المستعمر و قيادة المظاهرات في شبابه حتى سمي بشيخ الطيب بابكر (المظاهر) و قام الانجليز بنفيه الى شندي و منع الناس من الاتصال به .
تشرب احمد و اخوته بهذه الروح في المعترك السياسي و اصبح لحكمته و صلابته و ثاقب رأيه و ايمانه القاطع بالحريه و الديمقراطيه و التمسك بالقيم و الاخلاق ? اصبح من كبار قيادي الحزب الاتحادي الديمقراطي و قريباً جداً من زعيمه الرئيس الراحل اسماعيل الازهري الذي كان يكن مودة خاصة لاحمد الطيب و يقدره تقديراً كبيراً.
الوطنيه تطرف لا مجال فيها للمساومة
ايها الحفل الكريم «
هذه بعض لمحات عن احمد الطيب بابكر , الرجل الاجتماعي و الصديق الوفي ? الطالب النابه الذكي و المهندس المقتدر الكفؤ ? صاحب العواطف الجياشه و الموده الصادقه و الوفاء النادر ? الذي لايكذب اهله ? ذكرتها لكم سريعاً كما جادت بها ذاكرتي .
اما احمد الطيب المناضل السياسي و الوطني الغيور فقد زاملته منذ الطفوله في مرحلة الاساس (الكتاب) و حتى المدارس العليا و الجامعه و تخرجنا منها كل في مجال اختصاصه و قد عرفته مناضلاً جسوراً و وطنياً غيوراً يعشق الحريه و الديمقراطيه و يقول مايؤمن به و لا يخشى لومة لائم و لا يهادن و لا يساوم في مبادئه و كان يؤمن بان الوطنيه تطرف لا مجال فيها للمساومة او انصاف الحلول و هكذا كان يخرج قائداً لمسيرات لطلبه في الاتحاد بجامعة الخرطوم و يسعى لتوحيد كلمة الاحزاب لقيام وفد موحد من كل الاحزاب للذهاب الى مصر للمشاركة في المفاوضات الدائرة بين مصر و انجلترى في القاهرة و شملت مسالة السودان و تستجيب الاحزاب لهذه الجهود التي يبذلها الطلبه بقيادة احمد الطيب بابكر و قربه من الراحل الزعيم الرئيس اسماعيل الازهري و يسافر الوفد الموحد و يخاطبه والده الشيخ الطيب المظاهر و الذي اورث ابناءه احمد و التجاني و بقية اخوانهم حب هذا الوطن و التضحيه في سبيله قائلاً « تقدم ايها الوفد فنحن وراءكم جند» و لا اذكر اكثر من هذا البيت و لعل من يذكر هذه القصيده ان يتحفني بها مشكوراً.
و ظل احمد يجاهد في آخر ايامه رغم مرضه و قلة حركته حتى اصبح من كبار و حكماء الحزب الاتحادي الديمقراطي و سعى بكل جد و اخلاص مع اخوانه لتوحيد الحزب و العوده به الى ماضيه التليد الى ان توفاه الله بعد ان صارع المرض بثبات و ايمان. و اذكر ان آخر وصاياه لي التمسك بتقوى الله و ان السلامه في الاستقامه لان نقاط الزلل و الانزلاق لا حدود لها.
رحم الله احمد و اسكنه فسيح جناته مع الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن اولئك رفيقاً و جعل البركة في ابنائه أمين و عزيز و مجدي و بناته امينه و غاده و هاله و في أحفاده و اخوانه التجاني و الرشيد و بشرى و مختار و عصام و جمال و اخواته فاطمه و مواهب و نوال و سلوى و الهدايه و الزم اهله و ذويه و اصدقاءه و مدارس الاحفاد التي كان يحبها و يعشقها الصبر و حسن العزاء و انا لله و انا اليه راجعون.
« يا ايتها النفس المطمئنه ارجعي الى ربك راضية مرضيه فادخلي في عبادي و ادخلي جنتي» صدق الله العظيم
نص الكلمة التي القاها السيد محمد داؤود الخليفه في حفل تأبين المغفور له باذن الله
المناضل الجسور / احمد الطيب بابكر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.