كثيرة هى التحليلات السياسية التى يقول بها المحللون فى الصحف السياسية والأجهزة الإعلامية المختلفة عما ستؤول إليه الأوضاع فى السودان ما بعد استفتاء تقرير مصير جنوب السودان يوم 9 يناير 2011م.. وفى حقيقة الأمر فإن هذه التحليلات والقراءات تعتمد على تحليل العلاقات بين الهامش فى ولايات السودان والحكومة المركزية فى الخرطوم، وما شابها من توتر أدى إلى قيام حركات مسلحة تطالب بالعدل فى توزيع الثروة والسلطة.. بدءاً من تمرد الجنوبيين وأبناء جنوب كردفان، ثم تمرد أبناء النيل الأزرق، وأخيراً تمرد أبناء دارفور، ثم لاحقاً تمرد أبناء شرق السودان.. لتتعقد الأوضاع الأمنية عاماً بعد عام حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من سوء قبل الاستفتاء، ونحاول أن نرصد هذه التحليلات عن كل منطقة لنرى حجم التحديات التى قد تُجابه السودان فى فيض هذه التحليلات التى لا تُبشر بخير وتُنذر بشرٍ مستطير، فمعظمها تتنبأ بدنو أجل السوان وزواله من واقع الوضع السياسى المتفجر اليوم وقبل أقل من شهرين من استفتاء جنوب السودان، فإن المؤشرات تدلل على أن الوضع الأمنى سيكون سيئاً فى السودان عموماً وحالات الاحتقان تمتد فى أكثر من إقليم من أقاليم السودان، وبناءً عليه فإن المناطق التى يتوقع التهابها هى: الحدود الممتدة بين الشمال والجنوب، وخاصة مناطق أبيي وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وشرق السودان والحدود الإريترية ودارفور. ففى منطقة جنوب النيل الأزرق تداعت الأحداث بعد أن دخل أبناء هذه المنطقة التمرد من بوابة الحركة الشعبية لتحرير السودان التى أنشأها الجنوبيون، وأهم قياداتها هو السيد مالك عقار الذى اُنتخب أخيراً والياً لولاية النيل الأزرق ويتمتع بشعبية وتأييد كبيرين لدى جماهير المنطقة.. ويُوجد الآن «23» ألف جندى من المنطقة فى معسكرات فى جنوب السودان، فإذا وقع الاستفتاء فلا بد أن يعودوا إلى الشمال، ولما كان وضعهم فى السابق مرتبطاً بالترتيبات الأمنية فى اتفاق نيفاشا.. فالآن وبعد الاستفتاء ستنتهي الفترة الانتقالية وينتهى أجل الاتفاق، فماذا يكون وضع هذه القوات العسكرية؟.. فضلاً عن أن هناك عدداً كبيراً من سكان الولاية يرون أن قضاياهم التى من أجلها حملوا السلاح لم تجد حظها من الحل إلى الآن، وبعضهم يرغبون فى انضمام الولاية لجنوب السودان حال وقوع الانفصال ولكن اتفاق نيفاشا يتحدث عن المشورة الشعبية للمنطقة.. والتى تعنى في ما تعنى رأيهم حول نظام الحكم وشكله والذي يرغبون فى الخضوع إليه عن طريق الترضية والقبول في ولايتهم، وكذلك العلاقة مع الحكومة الاتحادية، أيضاً المشورة الشعبية تعنى التشاور حول نصيب الولاية في السلطة الاتحادية والثروة القومية.. وهو بند فى الاتفاق المشورة الشعبية يكتنفه الكثير من الغموض حول مدى وضوح فكرة المشورة الشعبية وكيفية تنفيذها، فضلاً عن انعدام الآليات التى ستشرف على ما يُسمى بالمشورة الشعبية، وتفرض نتائجها على أرض الواقع، ومن ثم الاعتداد بالنتائج التى ستُفرزها، وما ينطبق على منطقة جنوب النيل الأزرق فى موضوع المشورة الشعبية ينطبق أيضاً على جبال النوبة، لقد أقسم أبناء النوبة على المضى قُدماً فى طريق النضال المسلح، ويُقال أيضاً إن جيش الحركة الشعبية يتكون «60» فى المائة منه من أبناء النيل الأزرق والنوبة، وأبناء جبال النوبة أقاموا مؤتمراً فى شهر أكتوبر الماضى فى العاصمة البريطانية خرج بتوصيات خطيرة تدعو إلى تقرير مصير جنوب كردفان إذا لم تُحل مشكلاتهم المعلقة التى من أجلها حملوا السلاح، بعد أن أبدوا تذمرهم من الطريقة التى أدارت بها الحركة الشعبية قضيتهم، واعتبروا أن الحركة تخلت عنهم واهتمت بقضايا الجنوب فحسب، ودعوا كل من يستطيع حمل السلاح الى الانخراط فى معسكرات التدريب استعداداً للحرب من أجل حقوق منطقتهم المهضومة. أما دارفور فأمرها جد خطير، فهى اليوم أكثر البؤر الولائية التهاباً حتى قبل إنجاز الاستفتاء، فالحرب لم تتوقف مطلقاً خاصة بين الحكومة وقوات حركة العدل والمساواة من ناحية، وبين الحكومة وقوات عبد الواحد محمد نور من ناحية أخرى.. ولكن الوضع مرشح للانفجار أكثر بعد الاستفتاء، لأن هناك عدداً من حركات دارفور غير الموقعة على السلام موجودة الآن فى الجنوب، وهى تسعى جاهدةً للتوحد فى جبهة واحدة للمقاومة من أجل إيجاد حلٍ ناجعٍ لأزمة الإقليم. ولعل أخطر الفواصل فى مسار قضية دارفور هو قرب انهيار اتفاق سلام دارفور الموقع فى أبوجا الذى بدا جلياً أن الحكومة المركزية لا تأبه كثيراً لأمره، رغم أنه ورقة التوت الوحيدة التى تستر بها عورتها وإخفاقها هناك، وربما إذا توتر الوضع بين الشمال والجنوب وعاد الطرفان للحرب مرةً أخرى، فإن من العسير على الخرطوم السيطرة على الوضع فى دارفور. أما الوضع فى شرق السودان مع دولة إرتيريا فهو الآخر متأزم، وهناك حشود من الجيش الإريترى، حسب ما رشح من بعض وكالات الأنباء وبعض التحليلات والتقارير السياسية فى كثيرٍ من الوسائط الإعلامية، إضافة إلى رواج أحاديث وأخبار عن وجود بعض قوات الحركات الدارفورية المسلحة وخاصة قوات عبد الواحد محمد نور، وقبل أيام جرت أحداث فى داخل حدود السودان، إذ دخلت قوات عسكرية إرتيرية منطقة «كرهاتيب» شمال ود الحليو بشرق السودان، وقد طلبت الحكومة السودانية استيضاحاً من الرئيس الإرتيرى أفورقى حول هذا الاعتداء، ومعرفة الدوافع التى جعلت الجيش الإرتيرى يدخل الأراضى السودانية ويعتدى على تلك القرية، إلا أن السيد أفورقي أبدى عدم علمه بالأمر، وعند الحديث عن شرق السودان لا يمكن تجاوز أزمة مثلث حلايب وغضب جبهة الشرق عما يدور فى المثلث، ومطالبتهم الدؤوبة باستعادته إلى حضن الوطن. إذاً عهد ما بعد الاستفتاء واعدٌ بالأزمات وحابلٌ بالتوترات، مما يُصعِّب الأمر على حكومة المؤتمر الوطنى من التعامل معها، خاصةً إذا ما فار تنورها جميعاً فى ميقاتٍ واحد. رغم إننا لا نحمِّل المؤتمر الوطنى كل جرائر ما يحدث الآن وما سيحدث، لأن ما يحدث الآن هو نتيجة حتمية لسوء إدارة كل الحكومات التى تعاقبت على السودان منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا، إلا أننا نعيب على المؤتمر الوطنى أنه عندما تصدى لاغتصاب السلطة بليل والناس نيام، لم يكن يأبه أو يضع فى حسبانه تلك المشكلات التى ظل أهل الهامش يتذمرون منها وبطرق سلمية فى غالب أقاليم السودان، هذا إذا ما استثنينا جنوب السودان الذى امتشق سلاحه حتى قبل خروج المستعمر بسويعات، إلا أن باقى الأقاليم كانت تقدم مطالبها واحتجاجاتها سلمياً، إلى أن اكتشفت أن الحكومات المركزية لا تعتد ولا تكترث إلا إلى من يُشهر فى وجهها السلاح، وكانت مشكلة الجنوب تشخص أمام ناظريهم كأبلغ دليل على نجاعة ونجاح فكرة حمل السلاح فى جعل حكومات المركز تُصيخ السمع وتنتبه باحترام لمن يتقلدونه على أكتافهم، ناهيك عن تصويبه إلى صدورهم. لقد خسر السودان والسودانيون جرّاء الحروبات الأهلية الكثير من الأنفس والموارد والوقت والأموال، ويبدو أنهم سيفقدون ما تبقى لهم بسبب وعيد ما سيحدث من أهوال بعد الاستفتاء، حسب استنتاجات المراقبين والمحللين الذين يرصدون الأوضاع عن كثب ويحذرون من مآلاته المظلمة، ولا نرى أو نشعر بما يشى بأن ولاة الأمر يكترثون لذلك، بل نجزم أنهم لا يقلقهم من الأمر شيء، إذ مازالوا فى غيهم يعمهون وفى عنادهم يسدرون، والوطن يهوى بسرعة البرق نحو هاويةٍ سحيقة، وهم مازالوا يتبعون ما وجدوا عليه آباءهم عاكفين. لقد كانت مشكلات الهامش السودانى بسيطة ومتناهية فى الصغر، لا تعدو أكثر من مطالب عادلة تتعلق بضرورات حياتية فى أقاليمهم، مطالبين بوضع حدٍ لفشل سياسات التنمية التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة، الأمر الذى جعلهم يشعرون بالغبن والظلم والإهمال، مما أفرز لاحقاً نظرية التهميش التي تقوم على فكرة الصراع بين المركز والهامش بحثاً عن الحقوق والعدالة والمساواة، ولكنها وبسبب كبر واستعلاء المركز أصبحت أزمات يصعب الفكاك من قبضتها إلا بعودة الحقوق لأهلها، وهذا هو المخرج الوحيد الآمن للسودان من ويلات ما سيحدث بعد الاستفتاء.