والسؤال الأهم، أليس الاختلاف نفسه هو ما يدفع الناس الى الإحسان، هو أفضل من نوع التجانس المزيف الذى يطمئن الناس فى صورة أقرب لقول «مسح الدهن فوق الصوف» وهو ذات المثل الذى اتخذه كمال الجزولى عند دخوله للحديث عن دارفور، فى جريدة «الأحداث» داخل متن حوار مطول نشر له تحت عنوان كبير «الوطن يمشي على أمشاطه نحو الهاوية» وعند الجزء الثانى من الحوار «الإثنين 27 سبتمبر 2010 ص 5» وقفت بقدر كبير من التأمل والفحص الدقيق عند إفاداته عن جملة التساؤلات الخاصة بالمشكلة السودانية فى دارفور، قارئا ومحللا للحالة الراهنة، ومفندا الاستراتيجية الجديدة للسلام، قائلا: أنا لا تهمنى، في ما يتعلق بدارفور التسميات، هذه كلها أنظر إليها باعتبارها ضياع وقت فى التنظير، وفى البحث واللهث خلف حجج ووسائل لاستهلاك الوقت و «التبضع» بهذه القضية، ويشير إلى أن هناك أشياءً محددة لو تمت سمها ما شئت «استراتيجية دارفور الجديدة، القديمة، أى شيء، أولها أن تكون للحكومة إرادة سياسية لنزع السلاح.. ويجب ألا نغطى على الأشياء أو نمسح الدهن فوق الصوف كما يقول المثل الدارفورى. ويقول مستدركا: «فإذا استثنينا القلة من أبناء دارفور الذين أصبحوا للأسف يتبضعون فى الخرطوم، وخارج السودان، بقضية أهلهم، فهل ثمة من يستطيع أن يقول إن هؤلاء الدارفوريين يستبشرون خيراً بما تسميه الحكومة بالاستراتيجية الجديدة.. إن مطالبهم محصورة فى أشياء معينة، إما أن يجدوها أو لا يجدوها». وفى تقديرى أن هذه الرؤية قد تبدو متشائمة عند البعض، كما أن البعض قد يجد سلوته فى هذا التشاؤم نفسه، مثله مثل جوزيه ساراماغو الذى اتهمه النقاد بالنظرة التشاؤمية فى كتاباته الروائية، فأجابهم قائلا: «لا، بل هو عالمنا مشؤوم. فى أى حال أرى أن التشاؤم هو فرصة خلاصنا الوحيدة، وأن التفاؤل شكل من أشكال الغباء. أن يتفاءل المرء فى أوقات كهذه ينم إما عن انعدام أى أحساس أو عن بلاهة فظيعة». وفلسفته فى هذا القول، هو أن المتفائل يرى أن الأشياء كلها فى حالة جيدة، أو أنه فى حال سيئة لكنه سوف يتحسن لا محالة. أما المتشائم، فيرى من جهته أن العالم فى حال يرثى لها، مما يدفع ذلك ويحفز للتدخل للإصلاح، وهو ميزة يفتقرها المتفائل الذى يرى أن الأمور كلها على ما يرام، وكل شيء فى محله. ومنظورا من هذا، أن النظرة التشاؤمية التى يمكن أن تقرأ فى سياق تلك المقولة عند كمال الجزولى، هى فى ظنى الخاص فعل قصد به مواجهة قسوة واقعنا بقسوة تعادلها، بغية تحسين العلاقة التى نقيمها مع حياتنا، والى تغيير أوضاعنا الكارثية. وهذا من الأدوار المطلوبة، من تجاه المثقف الوطنى، أقله، أن يشير إلى مكامن الضعف، وأن يقترح بدائله بدائل تحتمل المناقشة، لا أن تكون أحكاما نهائية قطعية، فلا أحد يملك الحقيقة، مثلما لا أحد يملك أن يقول إن هذا السبيل هو وحده الصحيح.. وحسبى استشهادا فى هذا الموضع قول الناقد السودانى محمد عشري الصديق فى كلمته عام 1928م داخل كلية غردون التذكارية «إن السلام والوفاق خير من الشقاق والتفرق، وأن الحق الأزلى أو لغز الوجود أكبر من أن يصل إليه سبيل واحد»، ولكن كلمات مثل كلمات المثقف والمبدع «محمد عشرى الصديق» ضاعت فى أتون ومحرقة السياسى السودانى، فى إصراره الدائم والمستمر فى كل العهود، على آحادية الرأى القاتلة، والسعى الجامح إلى النصر الشخصى. فى الوقت الذى تتفق فيه الإنسانية، وفى قيمها العليا المطلقة، وكذا الرسل والأنبياء فى دياناتهم السماوية، بأن أثمن ما يمكن أن يملكه المؤمن هو أخوه الآخر فى إنسانيته، أولا، ومرآته، الذى يحفزه إلى التفكير، فالآحادية تسبب الشلل والجمود والتآكل، فى حين أن الآخر يخصب ويحيا، وحتى المياه فى آحاديتها تأسن وتهمد أنفاس الحياة فيها. إن إدعاء المرء امتلاكه للحقيقة، يعنى التعالى على الناس، وإقصاء لهم، فالحقيقة هى منزلة بين المنزلتين، أو كما يقول الناقد على حرب: إنها فجوة يتعذر ردمها، ومسافة يصعب اجتيازها، أيا كانت المجازات والاستعارات. وهذا ما دفع أهل السنة فى التاريخ الإسلامى إلى فتح أبواب الاجتهاد، كما هو مجمع عليه، فهم أول من مارسه، ونظر له وصنف فيه. ولقد شكل الاجتهاد عموما أصلا من أصول التشريع، كما شكل أساسا لبناء العقائد وتقرير قواعدها. إن ما يمكن قوله فى مقولات الدكتور كمال الجزولى، وتحليلاته، وحواراته، الخاصة فى شأن دارفور وبذلك الوضوح، يدخل فى فضاء المثقف الذى يشير الى أماكن الضعف فى واقعنا وفق منظوراته ورؤيته، منقبا ومستصلحا وموسعا مساحات النظر فى قراءة الوقائع والأحداث، وتمثل عندى إيضاحات فى غاية الأهمية، خاصة ذلك السؤال الذى التمع فى ذات حديثه عن الاستراتيجية الجديدة فى دارفور، فى معنى لا يخلو من البراءة... ماذا حدث فى الاستراتيجية القديمة، ولماذا فشلت؟ هى أسئلة تصدر فى سياق التفكير لقراءة التجارب المتعددة فى تواترها وتراتبها الزمانية، وهى أسئلة فى طريقتها تنم على أنها تصدر عن إنسان مشتغل فى فضاء الفكر، والتأويل والتفكيك والتفسير. بيد أننى، برغم اتفاقى الكبير مع أطروحات الدكتور كمال الجزولى فى شأن استراتيجية سلام دارفور الجديدة ومشروعية تلك الأسئلة، أجد من الضرورى، أن نشير إلى إحسان الدكتور غازى صلاح الدين على هذه الأطروحة التى تميزت بأفكار فى غاية الوضوح فى مسارات معالجة المشكلة، وهنا سأكون الأقرب اتفاقا مع إفادات الدكتور منصور خالد الذى أفاد فى جريدة «الرأى العام» الثلاثاء 23 نوفمبر 2010م بأنه وحتى لا تفقد تلك الاستراتيجية المصداقية، عليها أن تتضمن أولا، الاعتراف بالأخطاء، ابتداءً بالتهوين من قضية دارفور، لا من باب جلد الذات وإنما لإقناع من يلزم إقناعه من المتأبين من أهل دارفور، خاصة الذين تربوا فى كنف الحركة الإسلامية، وتأدبوا بأدبها. والثانى هو إشراك القوى الاجتماعية من خارج المؤتمر إشراكا فاعلا فى الحل، خاصة من يملك أن يعين بالرأى والتجربة فى الجامعات والمعاهد وذوى الخبرات فى الإدارة. هذه وغيرها من الأفكار التى طرحها الدكتور منصور خالد، هى فى ظنى لا تخرج من سياق المضامين الكلية التى تنضوى فى متن أقوال الدكتور كمال الجزولى نفسه حسب تأويلى الخاص فى إفاداته عن الاستراتيجية الجديدة. على أية حال، القارئ للكاتب الأديب البحاثة كمال الجزولى، لا بد له من أن ينظر إلى إنتاجه المتنوع بمنظورات الفكر، وعين النسق العلمى الفاحصة الدقيقة المتجردة عن الغرض الأيديولوجى. أما الكاتب الأستاذ حسين خوجلى، فقد ترددت كثيرا فى أن أدخل الى عالم كتاباته وأفكاره، ناقدا ومحللا فى منجزه، فأنا هنا كمن يود تقصى مخاض شديد الرهق، بل هو فعل أشبه بالنزوح الحذر نحو مكامن عصية المسِّ، فحسين خوجلى هو جغرافيا الكلام الممتد المساحات، المتعدد التضاريس، المتنوع المناخات، الكثيف الهطول. عرفناه، فى الربع الأول من الثمانينيات، هو نجم من نجوم الاتجاه الإسلامى وقتئذٍ، يملأ نهارات الحياة السودانية بجدل الفكرة والمعارف، وما من ركن فى جامعة من جامعات السودان إلا وكان حسين خوجلى نجمها الأوحد، وما من يوم كريهة فى جدل الأفكار، إلا هو أحد أبرز الرماة فيها، وارتأينا فيه وقتذاك، ونحن حينئذٍ تلاميذ فى خضرة أعمارنا، فى مدارس أم درمان الثانوية، مثالا لفتى هو «ليوم كريهة وسداد ثغر»، كما كنا نرى فيه، ونحن نحلم بدولة العدل والذكر والفكر، أن حسين خوجلى هو وزير إعلامها الأول والناطق باسمها، هكذا كنا نتهامس ونجاهر فى ليالى الشوق والأشواق، ونحن فى نبل براءة تلاميذ المدارس، منغمسين فى الاتجاه الإسلامى تنظيما ومذهبا الى حد الذوبان، وأقصد هنا ذوبان أرواحنا وأجسادنا، فى سبيل الفكرة والمنهج، وما كنا نظن أن الفكرة يوما تذوب، ويتفرق دمها إلى القبائل والجهات فى زمن الخيبات هذا، والانفصالات وخراب الدار.. وما أقسى اجتراح الذكرى فى دروب فكرة كان البذل لها مهجا وأرواحا، دما وعرقا.. ولكن «كيف لى أن أفسر هذا الأنين: «ثم أجرؤ أن أدِّعى إن هذا الغبار الذى يتلألأ فى أعين الميتين ومضة من حياة؟» وكيف يمكن أن نقارب «هذه بتلك» ... وبأى منطق، وأى إيقاع للخطو ذهب بنا هذا المذهب الذى ما اشتهته أنفس «البلاليين» الأخيار يوما قط. حسين خوجلى، من الإسلاميين القلائل الذين استطاعوا المشى فى مسحات مفتوحة، تأثيرا وتأثرا فى دوائر المعرفة والاعتزاز بثقافات أهل السودان، بتعددها وتنوعها، وبهذا استطاع أن يسهم فى عمليات تشكيل الوعى فى جيلنا هذا من الإسلاميين، الذين استطاعوا وباقتدار شديد أن يشقوا طرقا وعرة للوصول إلى خط الوسطية، فى مناهج تفكيرهم الإسلامى المجتهد فى مقاصده الكلية، فى حرية الفكر والإبداع والمسؤولية الوطنية. حسين خوجلى هو من قدم فى مدارساتنا الفكرية ومنتدياتنا التنظيمية المقفولة، الأديب على المك، «ذلك الولهان بمدينته الجامعة بين الغنى والفاقة، بين التراب والنيل.. بين الضجر الفاتك ومنتهى الأمل» حسب إلياس فتح الرحمن كما كان هو السبب فى أن يتفتح وعينا باكرا على الشاعر صلاح أحمد إبراهيم، أكثر شعراء السودان سودانية فى شخصه وشعره، والمثقف الأصيل «وليس المثقف المنبت عن أصول ثقافته». وعندما تهيب الإسلاميون فى ذلك الزمان، مفهومات مدرسة الغابة والصحراء، وغيرها من المدارس الفنية الأدبية، فى جدل الهوية والشخصية الثقافية، كان حسين خوجلى وحده يمد إلينا مفاتيح أبواب تلك المدارس، فدخلنا الى عوالم محمد المكى إبراهيم ومحمد عبد الحى والنور عثمان أبكر، وحرضنا على قراءة المجذوب وإدريس جماع وعبد الله الشيخ البشير، وكتاب «طوق الحمامة فى الإلفة والإلاف، لابن حزم الاندلسى، جنبا إلى جنب مع فقه السنة لسيد سابق، وأصول الفقه لعبد الوهاب خلاف، وقراءة مالك بن نبى. ذلك هو حسين خوجلى، فى بعض جيلنا الأدرمانى، الذى غرس فيه جسارة فتح العقول، إلى درجة أن يسهم ذلك التفتح والوعى في التحاقى بالمعهد العالى للموسيقى والمسرح. عرفناه، ومنذ ذلك الزمان، وإلى الآن، حسين خوجلى هو حسين خوجلى، يحدث، تطرب له، ويكتب فتطرب وتعجب له معا، كيف يصوغ الأفكار الكبيرة، نقدا وتحليلا وتفكيكا وفق تلك المنظورات الموضوعية للأشياء، وحضور الفلسفة والأساطير، وبذلك القدر من الإيجاز فى العبارة والقول، على طريقة الرسم والوخز ... اقرأ مثلا هذا الأنموذج: «التماسيح والعصافير والرياح والأمواج والأنسام والابتسامات والمساجد والكنائس لا تعرف الانفصال ولا تصوت له.. وتمد ألسنتها للساسة ساخرة ثم تسافر».. هذا نص إبداعى فاعل، فى توليد المعانى أو انتاجها، فى جدل الوحدة والانفصال المطروح الآن.. فبرغم بساطة هذا النص ظاهريا، إلا أنه يطرح عددا هائلا من الأسئلة، والإجابات المحتملة، التى تظهر عبثية الساسة فى السودان. وفى سطور أخرى وبكلمات إيحائية قوية، يكشف الحال فى دارفور، وكثيرا ما تأخذنى تلميحاته الذكية التى تشير الى مكامن الداء الأول والرئيسى، المتمثل فى أبناء الإقليم نفسه، من الذين يلعبون أدوارا غير راشدة، ممن يمكن تأويل الغالب من سلوكهم السياسى واتجاهاتهم فى العمل العام بأنها «أدوار مزدوجة» ليست من صالح الوطن، ولا أمنه القومى، هذا ما استشففته فى كثير من قراءاتى للأستاذ حسين خوجلى فى نصوصه الخاصة بالأمر، وفى تقديرى أن تلك المعانى هى حدس خاص، وجرأة فى القول تفتقر إليها معظم الكتابات عن الأزمة، وهو نفس القول، ما أشار إليه الدكتور كمال الجزولى، أنها أصبحت وسيلة للتبضع لكثير من أبناء دارفور فى الخرطوم وخارج البلاد، وهذا المعنى ليس حصرا على المعارضين فقط، وهناك شراكة كبرى فى هذا الاتجاه بين المعارضين وبعض الساسة فى داخل البيت الكبير، من أبناء دارفور فى عمليات التبضع والمتاجرة بالقضية. فقد أفرزت الحالة الراهنة الاستثنائية فى دارفور جيوشا من التردى الأخلاقى، بحثا عن الثروة والسلطة، حتى أصبح الإقليم مسرحا للتمثيل الدرامى، وهذا ما يفسر ظاهرة تلك الاحتفاليات بالمصالحات المتكررة المدعاة، بين القبائل المتصارعة، والتى أصبحت عند المراقبين الحصيفين للشأن، ليست سوى مراسم للعلاقات العامة، والتظاهر المسنود بأدوات الإفك الاجتماعى، وسرعان ما تعود الشخصيات الى طبيعتها وحقيقتها، بعد الخروج من إهاب شخصيات أدوارهم فى المسرحية، بعد إسدال ستائر خشبة المسرح، ومن ثم يلوى المسؤول الاتحادى عائدا الى الخرطوم. هذا من جانب، ويتكرر نفس الأداء عند المعارضين، مجموعة تنشق وتوقع سلاما، وتدين الرافضين للحوار والسلام، ويستوزر منهم مباشرة، من شاء له أن يستوزر فى الحكومة الاتحادية، أو الولائية بعد التوقيع، ويعلن بعد فترة تمرده من لم يشاء له أن يستوزر، وأشباح أخرى تعود مرة أخرى فى مشهد مسرحى معد «نفس الأجساد ونفس المادة الفيزيقية وفى نفس الأماكن وبين نفس الجمهور». نفس الممثلين، مرة من الزمان بعد مرة، يظهرون، ويلعبون نفس الأدوار بنفس المكياج والملابس والأكسسوارات، نفس الحركات والإيماءات والتنغيمات الصوتية فى الكلام. أستاذى حسين خوجلى، أليس هذا فعل سياسي يتصل بطبيعة الفنون المسرحية، وأليس إعادة حكى القصص التى سبقت حكايتها وإعادة ممارسة العواطف التى سبقت ممارستها، هى ذات الاهتمامات الرئيسية فى الدراما المسرحية فى كل زمان ومكان؟ إن ما تنتجه الحالة السودانية فى دارفور بصورته تلك، هى حالة بالتأكيد عندنا تعود أصولها إلى الفن المسرحى، وهو تفسير أوردته فى مقال سابق، إلا أننى الآن استشفه، بقدر أعمق فى متن كثير من نصوص حسين خوجلى، التى يشير فيها إلى ما أشرت إليه مرة ولا أزال بالحالة الشبحية، والشبحية من الشبح أو الأشباح، وهى صور الموتى الذين يواصلون ممارسة نفوذهم على الأحياء وصور الماضى الذى يعاود الظهور بطريقة غير متوقعة وبشكل خارق للطبيعة فى وسط الحاضر. وحس العودة هذه، أن نرى فى كل مرة، ما سبق أن رأيناه السلوك المعاد فى مظاهر احتفالات المصالحات القبلية، وانشقاقات الحركات المسلحة فى دارفور إلى فصائل بغرض العودة إلى أرض الوطن، وحفلات توقيع اتفاقيات السلام.. فماذا تبقى للمسرحيين فى السودان..؟!