الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    المرِّيخ يَخسر (سُوء تَغذية).. الهِلال يَخسر (تَواطؤاً)!!    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة نقديّة لرؤى "كمال الجزولي" الإسلاميّة! .. بقلم: صلاح عبَّاس فقير
نشر في سودانيل يوم 24 - 09 - 2009

بسم الله أبدأ قراءتي للرؤى الإسلامية، التي عبّر عنها الأستاذ كمال الجزولي، من خلال سلسلة الحلقات الّتي يوالي نشرها في سودانايل، والتي جاءت تحت عنوان "عتود الدولة"، وهي تسميةٌ ذات دلالة عميقة، بالنّظر إلى مناسبتها وعلاقتها بالحدثٍ المعيّن الّذي حكاه الكاتب الكبير.
ومن حقّ القارئ، قبل أن يتّصل حديثي أن أُبيِّن له دوافعي لهذه الكتابة/القراءة، والتي تتمثّل فيما يُمثله كمال الجزولي من ثقل فكريّ كبير، وقدرة على البيان العلميّ المحكم الدّقيق، قدّم بها إلى قرائه -وأنا واحدٌ منهم- خدماتٍ علمية وثقافية جليلة، أضاءت لهم كثيراً من جوانب المشهد الثقافي والفكري والسياسي في السودان.
وثمّة دافعٌ آخر أكثر عمقاً وخصوصيّةً في نفسي، فكمال الجزولي –في نظري- من المثقفين السودانيّين القلائل الَّذين يُعوّل عليهم كثيراً، في هذا الظرف التاريخيّ الحرج الّذي تمرّ به بلادنا، خاصّةًً وأنه من القلائل الذين عبّروا عن إيمانهم بمبدأ "العدالة الانتقالية"، ذلك المبدأ الّذي أنضجته التجاربُ الدولية المعاصرة في كثيرٍ من الدول باعتباره المخرجَ الآمن من نفق الحروب الأهلية والأزمات الوطنية الكبيرة! وأنا شخصيّاً أعتقدُ أنّ هذا المبدأ يُمثِّل "مقتضى رسالة الإسلام في هذا العصر، في هذا الوطن"!
وفي رأيي إنّ كتابات الجزولي وأفكاره ورؤاه "الإسلامية"، ممّا يُمكن أن يُعطيَ دفعاً كبيراً لعملية "العدالة الانتقاليَّة"، ويُسهم إسهاماً مقدّراً في بناء قاعدة وطنية عريضة متوافقة الرؤى والمشاعر، تقودنا لعبور النفقَ المظلم الّذي نمرُّ به! وقد ورد في مقدماته لهذه السلسلة ما يُشير بوضوحٍ إلى وعيه بهذا الهدف، ممّا سوف نذكره في أوانه.
وبعد فإني أطمح إلى أن تجيْء هذه الخواطر أو الملحوظاتُ، الناتجة عبر هذه القراءة، حواراً مع الكاتب والباحث المحقّق كمال الجزوليّ، ولست أدري إلى أيّ مدى سيكون مبلغُ التوافق أو الاختلاف بيننا، إذ إنّني أكتب هذه السطور ولم أطّلع بعدُ ممّا كتبهُ إلا على مقدمة الجزء الأول من سلسلة هذه الموضوعات!
فلنبدأ إذن:
صدّر الأستاذ كمال الجزوليّ الحلقة الأولى من هذه السلسلة بالحديث النّبويّ الشريف:
(مَا أَمَرتُكُم بِشَئ مِن دِينِكُم فَخُذوه، أمَّا مَا كانَ مِن أَمْرِ دُنياكُم فأَنْتُم أَدْرَى بِهِ)!
وأقول: هذا مدخل مناسب جداً في الإشارة إلى "الرؤية الإسلامية الصَّحيحة"، فهذا الحديث يُقرّر قاعدة منهجية كبيرة، يتم فيها التمييز -وليس الفصل- بين "أمر الدّين" و"أمر الدنيا"، ومن الواضح أنّ الجزولي لا يعني ذلك الفصام النّكد الّذي عرفته أوربا بين "ما لله" و"ما لقيصر"، أو بين الدين والدولة، ولكنه يعني بأمر الدين تلك الثوابت القطعية التي لا ينبغي أن يتجاوزها المسلمون وعلماؤهم، ويعني بأمر الدنيا كلّ ما كان عرضةً للتّغيير بحكم محدودية العقل الإنسانيّ، وبحكم تبدّل الأزمان! وإلى ذلك أشارت ترجمته لهذه الحلقة الأولى، فاختار لها عنوان: "ثَوابِتُ الدِّينِ أَم مُتَحَرِّكاتُ التَّدَيُّن؟!" وأجدني متّفقاً معه كلّ الاتفاق فيما ذهب إليه!
ولكي يتبيّن المضمون الكبير لمبدأ التّمييز بين الديني والدنيوي بهذا المعنى، علينا أن نذكر جيّداً أنّ الإسلام لمّا جاء للبشرية، لم يطلب منها أن تُلغي وعيها وتفكيرها وتجربتها التاريخية، بل جعل ذلك كلّه مدخلاً للحوار معها وبثِّ "رسالته الدّينية" فقد كان القرآن يُخاطب الناس بحسب درجة وعيهم وإرثهم الثقافيّ، وهذا المعنى مُضمّن في كلّ الآيات القرآنيّة التي تصف القرآن بأنه "عربيٌّ مبين"، لأنّ تلك اللغة العربية -وسائر اللغات كذلك- ليست مجرد هيكل فارغ المحتوى، بل هي حاملٌ لثقافة القوم الّذين يتكلمونها!
وليس المجال مناسباً لوضع هذا المبدأ، أي مبدأ التمييز بين الدينيّ والدنيويّ تحت مجهر البحث والنَّظر الدقيق، ولكن ممّا تتضمّنه الإشارة النّبوية في بعض روايات الحديث التي أوردها الأستاذ كمال الجزولي، وهي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، معنى التّنبيه إلى احترام حقائق الواقع والتّعامل وفقاً لها، مع اليقين بأنّ ذلك لن يكون فيه مخالفة للدين أبداً!
ولنضرب مثالاً آخرَ حيَّاً وواقعيَّاً ومثيراً: مسألة "الحكم بالشريعة الإسلامية"، بمعنى تطبيق "قوانين الحدود الشّرعيّة" في بيئتنا السودانية، بما فيها من غنىً وتنوُّع إثنيٍّ وعرقيّ ودينيٍّ، وفي إطار عالمنا المعاصر الذي نشأت فيه الدول على أساس مبدأ المواطنة! في هذه المسألة الّتي تبدو شائكةً أرى أنّ الهداية الدينيّة، استناداً إلى مبدأ التّمييز بين الدِّيني والدُّنيويّ، تقودنا إلى تذكُّر هذه المقتضيات الواقعية، ومراعاتها واحترامها، وأنّ عدم رضائنا مثلاً بأن تكون الدولةُ الحديثة قائمةً على أساس المواطنة، وإرادتنا إيّاها مستندة إلى العقيدة الإسلامية مثلاً، حُلمٌ يُخالف الواقع، ولا يمكننا تحقيقه إلا ابتداءً من الإقرار بهذا الواقع!
ومن ناحيةٍ أخرى: لو افترضنا أنّه قد تم تطبيق الحدود الشرعيّة في مجتمعنا هذا من قبل سلطةٍ راشدة عادلة، فإنّ الضّوابط والشُّروط والاستثناءات والقيود الفقهيّة اللازمة لتطبيق هذه الحدود الشرعية، لا يُمكن أن تُستوفَى أبداً في ظلّ مبدأ "ادرؤوا الحدود بالشبهات"، ونحن نعلم أنّ الحدود الشَّرعيَّة في عهد الرّسالة -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- لم تُطبّق إلا بعد أن نشأ المجتمع الإسلاميُّ المتكافل على قاعدة الإخاء والمساواة: "وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها"، فتطبيق هذه القوانين إذن أمرٌ قابل بطبيعته الظرفيّة إلى التأجيل إلى أجلٍ غير مسمّى، دونما شعورٍ من المسلم بالتّأثُّم أو ألم الضمير، بيد أنّ المسلم دائماً مطالبٌ برفع رايات العدل والمساواة والحرية واحترام الحقوق اللصيقة بشخص الإنسان، الأمر الّذي يدعونا إلى البحث مع فرقاء الوطن عن الثوابت المشتركة، لكي يقوم على أساسها نظامٌ مستقرّ، وفي ظلّ هذا الاستقرار أو بسببه يُتاح للدّعوة الإسلامية أن تُنشر عسى أن يكون الإسلام خياراً لكلّ فرقاء الوطن أو مُعظمهم!
وممّا له دلالة كبيرة في هذا الصّدد أن نَنتبه إلى أنّ الطوائف -كلَّها الإسلامية وغير الإسلامية- متّفقة على معاني العدل والحرية والمساواة، والتي صارت تتجسّد من خلال الدعوة إلى كفالة حقوق الإنسان الأساسية، وهو مما تزخر به الشريعة والقرآن والسنة، وحسبنا أن نذكر في هذا المقام "حلف الفَضول" الذي شارك فيه الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية، وتظاهر فيه مع أناسٍ مشركين وكفار، "تعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتّى تُردّ عليه مظلمته" (الرحيق المختوم، ص 66)، ثم بعد أن تنزّلت الرسالةُ قال الرسول صلى الله عليه وسلم متذكّراً ومُقرّراً: ((لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جُدعان حلفاً ما أحبُّ أنّ لي به حمر النّعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبتُ!)) (ابن هشام 1/154)، وكذلك ورد عند أحمد برواية: "شهدتُ حلف المُطيَّبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحبُّ أنَّ لي به حمر النعم وأنِّي أنكثه"!
إنّ الوقوف على الدّور الّذي يمكن أن يلعبه الدّين في واقعنا المعاصر، كان محلّ نظر كثيرٍ من المفكرين والمصلحين، وممّا يلفت النَّظر فيما قرّره كمال الجزولي بأسلوبه الرّصين وفكره القويم، في هذه الحلقة الأولى من حلقات السلسلة، أنّه يرى من أجل حلّ المشكلات والإشكالات المتعلّقة بفهم الدين الصّحيح: الرّجوعَ إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة، والتّعويل في ذلك كثيراً على فهم الصّحابة -رضي الله عنهم-، وينأى الجزوليُّ بنفسه عن سبيل المراوغة التي اضطرّ إليها الكثيرون ممّن أخذوا يتعاملون مع الإسلام بحكم ما له من ثقلٍ شعبيّ، دونما قناعةٍ بدورٍ حضاريٍّ يمكن أن يلعبه، كذلك لا يبدو أنّ الجزولي يسلك في هذا السبيل منهجاً غريباً لفهم النصوص الشرعية، أو يدخل إليها من مدخل الادِّعاء بوجود رسالةٍ ثانية للإسلام، أو غير ذلك من المداخل التي لا تحترم "الإطار التداولي" الذي وردت فيه النصوص الشَّرعية، بلسانٍ عربيٍّ مبين! لكنّه كذلك يدلف إليها وهو كمال الجزولي، الأديب والمحامي والباحث المحقق والناشط المدنيّ، الذي يعيش في هذه الحقبة المهمّة من تاريخ بلدنا وتاريخ عالمنا، حاملاً معه معاناته ومعاناة قومه، في هذا العصر، عصر العولمة وثورة الاتصال، فمدخله كذلك ليس مدخلاً سلفيّاً، يعيش صاحبُه في عصرٍ ماضٍ من عصور التاريخ!
لنحاول الآن تتبُّع نصوص كمال الجزولي كما وردت في سياقها:
ابتدر الجزولي حديثه بالإشارة إلى الحدث المحوري، الذي كان مناسبةً لعرض هذه الرؤى الإسلامية، أو إعادة عرضها، ألا وهو فتوى الشيخ محمد عبد الكريم عن الشيوعية والشيوعيّين، فتحدّث عن:
"مجموعة من شباب الرابطة المتحمّسين، يرومون توزيع بيان الفتوى أثناء حفل الافتتاح، ويحسبون أنهم، بذلك، إنما يُحسنون صنعاً للإسلام، وربَّما للوطن أيضاً".
ثمّ من هذا الحدث الظّرفيّ، ينتقل إلى البنية الفكرية المأزومة، التي تُنتج مثل هذه المواقف السلبية، ليذكر الجزوليّ:
"أن وجهاً أساسياً من وجوه أزمة الإسلام فى بلدنا إنما يكمن فى كوننا، نحن غالب مسلميه البدو الرعاة، وإنْ عمَّرنا المدن الحديثة، ما ننفكُّ نمحق، بلا هوادة، (صحيح الدّين) الذي هو كلمة الله في مطلق عليائه، .....، لحساب (مُتخَيَّل التديُّن) الذي هو بعض كسبنا البشري المشوب بالقصور، كطبيعة متأصّلة"
إذن، كيف يتسنّى لنا معرفةُ كلمة الله في مطلق عليائه، لنتوجّه نحوها جميعاً بالتّسليم واليقين؟
إشارة الجزولي إلى المسلمين البدو الرّعاة، تعبّر عن وجهة نظره في الإجابة عن هذا السؤال المهم، فالأمر يقتضي إعمالاً للعقل خلافاً للذّهنية الرّعوية الهائمة، وهذا ما سيتضمّنه السؤال التالي الّذي طرحه:
"فهل نحن مأمورون، حقاً، باستخدام (عقولنا) في إحسان التسليم بالعبوديَّة المطلقة لربّ هذا القرآن؟! أم بالانكفاء الوجل على (كلّ) رموزيات (التاريخ الإسلامي) بلا فرز ولا تبصُّر، وتجميدها فى الزمان السَّرمدي دونما جدارة أو استحقاق، خصوصاً حين ترتبط بأقوال وأفعال البشر!؟!؟"
ثمّ يُحدّد الجزولي طبيعة الأزمة الكبرى، الّتي يعانيها المسلمون الآن، فيما يتعلق بخلافهم حول تحديد المفهوم الصحيح للإسلام، قائلاً:
"ولعلَّ من أخطر مآلات هذا (التقديس) ل (التاريخ) ما انتهينا إليه ، فى راهننا، من وضع ديني وفكري نكاد لا نميِّز فيه بين ما هو نصٌّ قطعي الورود والدلالة في القرآن الكريم أو السنة المطهَّرة، وبين ما هو محض فقه، أي محض رأي قائم على اجتهاد بشري تُسيّجه مشروطيَّات أبستيمولوجيَّة تاريخيَّة محدَّدة، وخاضعة لمعايير الخطأ والصَّواب".
إذن، فالرجوع إلى ما هو نصٌّ قطعيّ الورود والدلالة في النّصوص الشرعية، هو القاعدة الأساسية التي ينبغي الاستناد إليها، من أجل حلّ أزمة الإسلام في هذا العصر، أو كما ورد في الحديث الصحيح: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنّتي" (رواه الإمام مالك).
ثم يذكر الجزولي ما يؤكد ما ذهبنا إليه في صدر هذه المقالة، من أنّ هذا الجهد التفكري الذي يبذله، إنما يصبّ في خانة إيمانه بمبدأ "العدالة الانتقالية"، وسعيه إلى توسيع دائرة المعتنقين لها، ولا شكّ أنّ السّعي إلى تحديد "مفهوم الدين الصحيح" في خضمّ المشهد السياسيّ الرّاهن، وتحريره من تلك القيود الظرفيّة الزمنية والمكانية التي علقت به وشوّهته، لهو من أولى الواجبات في مسيرة تحقيق العدالة الانتقالية في مجتمعنا، يقول:
"ضمن هذا السياق فإن هذا المبحث سوف يعنى بمشهد الخلاف حول قضيَّة (الدّين والدَّولة) في بلدنا، لا من حيث وقائع العلاقات المأزومة بين (المسلمين) و(غير المسلمين)، فهذه، على ما هى عليه من أثر وخطر بالنسبة لقضية (الوحدة الوطنيَّة)، واضحة نسبياً، فلا يجد الباحثون عُسراً فى تناولها. ولكن اهتمامنا سوف ينصبُّ على هذا المشهد، بالأساس، من زاوية الفهوم والتصوُّرات شديدة الاختلاف وسط الجماعة المسلمة ذاتها، بشأن موقف (دينها) الواحد من هذه القضية، مع الافتقار إلى الحد الأدنى من تنظيم هذا التباين أو إدارته، مضموناً ولغة واصطلاحاً، الأمر الذي يتيح لكلّ من شاء أن يحصر (صحيح الدين) في (فهمه = نمط تديُّنه) وحده، بل وليس نادراً أن يعتبر كلَّ ما عداه ضرباً من (الكفر)!"
ثم يوضح الأستاذ مقصده:
"إن العنصر الأساسي في أزمة هذه الثقافة كامن في كونها قد تشكلت على قوالب (الترميزات الأسطوريَّة) الناجزة بنفسها، كنتاج لقرون من التخلف والجمود، بأكثر ممَّا تنشَّأت على ديناميكيات (التدبُّر العقلي)، كشرط أساسي في الإسلام"!
ومن الترميزات الأسطورية التي لمسناها في خضم المشهد الراهن، وعايشنا فعلها وتأثيرها في النفوس، مقولة "تطبيق الشريعة الإسلامية"، وما يرتبط بها من نصوصٍ تُفهم فهماً أسطوريّاً، لا عقلانيّ، فالدكتور حسن الترابي وغيره من الدكاترة والأساتذة والشيوخ، وبدافع تلك "الترميزة الأسطورية" رفعوا أيديهم بلا وعيٍ مبايعين الرئيس الأسبق جعفر نميري على أن يكون إماماً للمسلمين، يقيم لهم الحدود في واقعٍٍ هم يعلمون جيّداً أنه أبعد ما يكون عن تقبّل هذه القوانين وتحقيق المصالح الشرعية المتوخّاة من وراء تطبيقها، وهذا هو ما قرّره الدكتور الترابي في محاضرة سبقت ذلك الحدث، جاءت تحت عنوان "مشكلات الانتقال في تطبيق الشريعة الإسلامية"، ألقاها في جامعة أمدرمان الإسلامية، في أعقاب ما يُسمّى بالمصالحة الوطنية، ذكر فيها أنّ هذه الحدود الشرعية عند تطبيقها، لن تَطال إلا فئة من الضعفاء وأهل الهامش، ودعا فيها إلى وجوب التمهيد والتدرج في التطبيق، ولمّا سئل الدكتور الترابي بعد انتفاضة مارس/أبريل عن هذه التجربة كلّها، اعتذر بقوله: "من خدعنا بالدين انخدعنا له"!
إذن: المخرج في نظر الأستاذ كمال الجزولي، هو في تشغيل "ديناميكيات التدبر العقليّ"! وفي هذا الصدد يذكر أنموذجين من التاريخ الإسلاميّ، تمّ فيهما تشغيل هذه الديناميكيات من أجل فهم النصوص الشرعية، من قبل بعض الأئمة، وفي مواجهة وقائع ظرفية محددة في العصر الذي عاش فيه كلٌّ من ابن رشد الفيلسوف، والإمام الشافعيّ، ... ثمّ يتساءل الجزولي متعجّباً:
"والآن، وطالما أن ذلك كله كذلك، فكيف انتهى بنا الأمر إلى هذا الحدّ المُريع من الخلط والتخليط الفادحين بين (المقدَّس) و(البشري)، بعد كلّ تلك الإشارات القويَّة في القرآن والسُّنة لمكانة (العقل) في الإسلام، باعتباره موئل التكليف، ومناط الاستخلاف، وبعد كلّ تلك المراكمات الفقهيَّة عالية القيمة عبر القرون المتطاولة، والتي يفترض أن تزوِّدنا (بالنموذج الفقهي) الملهم كما ينبغي، لا (النصوص الفقهيَّة) الملزمة كما نتوهَّم؟!"
ثم يعود الجزولي لتوكيد أنّ مصدر الشرعية العليا، يتمثل فيما هو قطعيّ الورود والدلالة من نصوص الكتاب والسنة، مُنوّهاً بفقه الصحابة -رضي الله عنهم-، وكونه منارةً ينبغي الاهتداء بها، مسلّطاً الضوء الكاشف خاصة على أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه-، ومنهجه في مواجهة الطوارئ والمستجدات، يقول الجزولي:
"وإذن، فالتعاطي مع النصّ من منظور وجه (المصلحة)، أي (مصلحة الأمة) أو (المصالح الكليَّة)، بالمصطلح الشرعي، إنما يشكل أحد أهمّ عناصر هذا المنهج العُمَري أو (الشروط العُمَريَّة) في مستوى التطبيق. وواضح من وقائع التاريخ الثابتة أن هذا المنهج (العقلاني) قد تطور، خلال تلك الفترة، من باب استيفائه لمقتضياته (الشوريَّة)، فلم يفرضه الفاروق فرضاً، لا على عموم الأمَّة، ولا على خاصَّة الصحابة. بل إن الأخيرين أنفسهم، والذين خصَّهم الله سبحانه وتعالى بتنزُّل الآيات، طازجة، فى حضورهم، قد دأبوا على اعتماد منهج (التدبُّر العقلي) هذا في النصوص بمعيار (المصالح الكلية)، فما كان الفاروق (شذوذاً) عن قاعدة ما، بقدر ما شكل (تجاوزاً) منطقيَّاً بقدراته الاستثنائيَّة شديدة التميُّز والخصوصيَّة".
وممّا هو ملحوظ في رؤية الجزولي التنويه بضرورة تشغيل ميكانيزمات التدبر العقليّ، على قاعدة أن الحكم الشرعي والحكم العقليّ لن يختلفا أبداً ولا يمكن أن يتعارضا، وهذا هو ما قرّره شيخ الإسلام ابن تيمية في سفره الضخم "درء تعارض العقل والنقل"، من خلال حواره مع الفلاسفة وأهل الكلام، والّذي ينتهي في صياغته إلى ثلاثة فروض أساسيّة، فالحكم العقلي والحكم الشرعي، إما أن يكونا قطعيِّين كلاهما، فيقول ابن تيمية: "لا نُسلّم إمكان التعارض حينئذٍ"، وإمّا أن يكونا ظنِّيّين كلاهما، يقول ابن تيمية: "فالمُقدّم هو الراجح مطلقاً"، أو أن يكون أحدهما قطعيّاً والآخر ظنيّاً: "فالقطعيُّ هو المقدم مطلقاً"(درء التعارض، ج1، ص 86)، ومن الواضح أنه من خلال مقولة الحكم العقلي تدخل إلى دائرة المعارف الشرعية، كلُّ المعارف والعلوم العصرية.
وفي ختام الحلقة الأولى من هذه الرؤى الإسلامية، يطرح الجزولي بوضوحٍ وتأكيد خلاصة الرؤية التي يراها، ويعرضها في إطار المشهد المحلي والعالمي، قائلاً:
"إنَّ المسلمين، اليوم، وفى ظروف الانقسام المبهظ الذي يَسِمُ راهنهم حدَّ التَّشظِّي، والتطوُّرات الهائلة الجارية في المستويين الوطني والعالمي، والتي طالت حقول حياتهم الاقتصاديَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والفكريَّة كافة، محتاجون، أكثر من أى وقت مضى، ل "إعادة تأصيل الأصول على أساس اعتبار المصلحة الكليَّة، كما كان يفعل الصحابة. وبعبارة أخرى، فإن تطبيق الشريعة، التطبيق الذي يناسب العصر وأحواله وتطوُّراته، يتطلب إعادة بناء مرجعيَّة للتطبيق. والمرجعيَّة التي يجب أن تعلو على غيرها هى (عمل الصحابة)، فهي الوحيدة التي يمكنها جمع المسلمين على رأي واحد، لأنها سابقة على قيام المذاهب وظهور الخلاف"!
شكراً جزيلاً، أستاذ كمال الجزولي، هذا ما كنت أتوقّعه منك، مذ عرفتُك عبر الرّوزنامة، فذلك الفكر المستقيم، وذلك الوضوحُ والنقاء وصفاءُ الرؤية، كان لا بدّ أن يتمثّل كذلك في موقفكم من الدّين!
وليت كلّ المخلصين والشرفاء في وطني يتسنّى لهم إدراكُ "القيم الحضارية الكبرى" التي تتضمّنها رسالة الإسلام، ويعملوا على توظيفها من أجل النهوض بمجتمعنا، بل من أجل الخروج به من النفق المظلم!
وكنت في مقالة سابقة نشرتها بسودانايل، قد انتقدت ما أسميتُه بالتواطؤ بين "حكم الإنقاذ ومشايعيه"، وبين "معارضيه من مناضلي اليسار وغيرهم"، التواطؤ على عكس صورة مشوّهة للإسلام، يتمّ فيها انتزاع قوانين الحدود الشرعية عن سياق النصوص، وجعلها هي الإسلام، والإعراض عمّا فيه من دعوة إلى قيم الإخاء والمساواة والعدالة القانونية والاجتماعية، وما إلى ذلك!
وعلى ما أظن: هذا التواطؤ ما يزال قائماً بالفعل، ولكن هذه المواقفُ المعلنة عبر سلسلة مقالات كمال الجزولي هذه، من شأنها إذا تدبّرها العقلاء أن يتّجهوا بصدقٍ إلى إدراك حقائق الإسلام، ويتعرّفوا على ما يمكن أن يقدمه في سبيل حلّ مشكلاتنا التي نعيشها! وعلى الإمكانات النضالية الكبيرة الّتي يمكن أن يرفد بها حركة التغيير، ولينتبهوا إلى أنّ إحراز "الجبهة الإسلامية القوميّة" تلك النسبة العالية في انتخابات عام 1986م، وهي ترفع شعار الإسلام، ورغم سالفة التطبيق المُشوّه في عهد النميري، هو في الحقيقة استفتاء شعبيّ على الإسلام، وتوكيدٌ لإرادة الشَّعب، فعلى الذين يدّعون أنهم مع الشعب أن يستمعوا لهذه الإرادة جيّداً، ويعملوا على تحقيقها بصورة صحيحة ويكشفوا زيف الإسلام الجبهجيِّ!
إلى هنا أضع القلم منهياً هذه الحلقة الأولى، والتي انصبّت على ما ورد في الحلقة الأولى من سلسلة مقالات كمال الجزولي، حيث لم أجد نفسي إلا متّفقاً مع ما ورد فيها من رؤى وأفكار، مؤمّلاً الاطّلاع على الحلقات الأخرى التي لم يتسنّ لي بعد الاطلاعُ عليها، ولست أدري إلى أيِّ مدىً سأكون متّفقاً أو مختلفاً مع الأستاذ الكبير كمال الجزولي!
آملاً ألا أكون قد شوّشتُ على صفاء سرده المشوّق، وعلى حسن إصغاء متابعيه من أصدقاء الروزنامة!
وإلى اللقاء في الحلقة الثانية من هذه القراءة!
صلاح عبَّاس فقير
24/9/2009م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.