في الخامس والعشرين من شهر نيسان «أبريل» سنة 1965م، تم طبع ديوان «غضبة الهبباي» لشاعر السودان الراحل صلاح أحمد إبراهيم «19331993م» بمطبعة المتني فرن الشُّباك لتنشر ذلك الشعر الافريقي دار الثقافة في بيروت، و«غضبة الهبباي» هي المجموعة الشعرية الثانية لصلاح بعد مجموعته الاولى «غابة الأبنوس»، وأفاد صلاح في تقديمه ل «غضبة الهبباي» بأن هذه المجموعة هي شعره في فترة سيادة الجهل المسلح «19581964م»، وقد أثارت «غضبة الهبباي» منذ صدورها في منتصف الستينيات من القرن الهائل ضجة فنية وسياسية هائلة لا يزال يُثار نقعها حتى اليوم. ومما تضمنته «غضبة الهبباي» «خواطر»، وهي قصائد قدم عنها شاعرها صلاح افادة نقدية رائعة، اثبت فيها صلاح عملياً أن الشاعر أول ناقد لفنه: «في المجموعة قسم أمسيته خواطر، وهي قصائد تامة في نظري.. اقول هذا لأن للعرب مفهوماً طولياً للقصيدة يسخر منه بيت واحد من الحكمة أو الوصف المتكامل يند من قصيدة كأنها ليل السليم أو صلاة الكسوف. صحيح أن كثيراً من الشعراء كتبوا قصائد لم تتقيد بذلك المفهوم الطولي منذ الجاهلية وان كنا في شك هل كانت الحماسيات قصائد كاملة أو بقايا قصائد حتى عصرنا الحالي، كأوصاف ابن الرومي مثلاً، ولكنها كانت تحمل سمات الموروث السائد في كل شيء آخر.. والقصيدة الحديثة التي تخلصت من قيود العمود القديم ومن وحدانية القافية أو تكرارها «الارابسك» لم تتخلص من ذلك المفهوم الطولي. ومن الصور التي رسمها صلاح في خواطره ذلك المقطع الذي ينضح بقيم النخوة العربية: وكحاتم سهران يطعم ليله الهندي نيران القِرا أشعلت في ليل العرب نار الغضب .. في «البداية والنهاية» للإمام الحافظ عماد الدين أبي الفداء اسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي «700 774ه»: «قال الدارقطني: حدثنا عثيم بن ثُوابة بن حاتم الطائي عن أبيه عن جده قال: قالت امرأة حاتم لحاتم يا أبا سفانة أشتهي أن آكل أنا وأنت طعاماً وحدنا ليس عليه أحد، فأمرها فحولت خيمتها من الجماعة على فرسخ، وأمر بالطعام فهُيِّئ وهي مرخاة ستورها عليه وعليها، فلما قارب نُضج الطعام كشف عن رأسه ثُم قال: فلا تطبخي قدري وسترك دونها عليّ إذن ما تطبخين حرام ولكن بهذاك اليفاع فأوقدي بجزل إذا أوقدت لا بضرام قال: ثم كشف الستور وقدم الطعام ودعا الناس فأكل وأكلوا فقالت: ما أتممت لي ما قلت فأجابها: فإني لا تُطاوعني نفسي، ونفسي أكرم عليّ من أن يُثني عليّ هذا وقد سبق لي السخاء، ثم أنشأ يقول: أمارس نفسي البُخل حتى أعزها وأترك نفس الجُود ما استثيرها ولا تشتكيني جارتي غير أنها إذا غاب عنها بعلها لا أزورها سيبلغها خيري ويرجع بعلها إليها ولم تقصر عليها ستورها .. ويهتف صلاح ملء صوته: وهتفت في مستسلمين إلى الكرى عند الصباح ستحمدون لي السُّرى فاستنهضوا عزماتكم حتى نرى دحر الغُزاة، وفجر تحقيق الأرب إشارةً إلى كلمة مُدوِّخ الأكاسرة والقياصرة أخي العشيرة سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضى الله عنه وأرضاه: «حين الصباح يحمد القوم السُّرى». يا كبرياء عريننا، يا ناصر العُرب الأباة، وزين آساد الشَّرى يا بسمة الأحفاد، يا نافورة الأمجاد، يا أحلى بني الضاد النبيل المنتخب، ما عمرو في الاقدام، ما ابن العاص، ما هارون في وثباته، ما عنترا؟ وجمع صلاح «الحفيد» على «الأحفاد» كما يصنع المعاصرون، وتجمع العرب «الحافد» على «الحفدة»، و«الحفدة» جمع قرآني خالص: «والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة» 72: سورة النحل. وفي تفسير «الكشاف» للزمخشري «467 538ه»: «... والحفدة جمع حافد وهو الذي يحفد: أي يسرع في الطاعة والخدمة، ومنه قول القانت: وإليك نسعى ونحفد، وقال: حفد الولائد بينهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال واختلف فيهم فقيل هم الأختان على البنات، وقيل أولاد الأولاد، وقيل أولاد المرأة من الزوج الأول، وقيل المعنى: وجعل لكم حفدةً: أي خدماً يحفدون في مصالحكم ويعينونكم؛ ويجوز أن يراد بالحفدة البنون أنفسهم كقوله سَكرَاً ورزقاً حسناً كأنه قيل: وجعل لكم منهن أولاداً هم بنون وهم حافدون: أي جامعون بين الأمرين..» ويجهر صوت الشاعر صلاح أحمد إبراهيم: بك قد سُقينا غضبة الصمصام، اقذفها بنا تعن الذُّرى وانفخ نفيرك في فم الوادي، نُلبك دارعين وحُسَّرا جُزم المضارع في جواب الطلب، والحال مفردة منصوبة «دارعين» أي لابسين الدرع، و«حُسَّرا» أي خالعيه، وبيت صلاح نفس من أنفاس العباسي «18801963م»: يا دار أين بنوك إخواني الألى رفعوا لواءك دارعين وحُسَّرا زانوا الكتائب فاتحين وبعضهم بالسف ما قنعوا فزانوا المنبرا يناجي العباسي المدرسة المصرية العربية التي التحق بها في 28 مارس سنة 1899م، وبعد سنتين من انتظامه بها استعفى لأنه رأى أنه لا أمل له في الترقي، وإن كان أول الناجحين في الامتحانات.. والعباسي في بيتيه المتقدمين يشير إلى البارودي «18381904م» ورفاقه من أبطال الثورة العرابية الذين تخرجوا في المدرسة المصرية الحربية وجالدوا بصلابة الاحتلال العسكري الانجليزي لمصر، وكانوا بحق أرباباً للسيف والقلم.. نعم تبلغ بك العزة القعساء مناط الجوزاء، وقد جهر صوت الباروي جزلاً مُسلطاً كالسيف: فإن أدركت نفسي المرام ولم أقم مقام ضليع بالذي أنت آمر فلا لاح لي في ذُروة المجد كوكب ولا طار لي في قُنة العزِّ طائر وتفيض كامليّة صلاح نيلاً وأي نيل!.. يهتز قلب الأرض من خطواتنا ويغص حلق الشمس منا عثيرا ونفيض مثل النيل في إبانه إما جرى هدَّ المدائن والقُرى فاغش المشارف كل ثغرٍ زاره حرف بإسمك يستحيل القاهرا همزات الأسماء كلها همزات قطع ما عدا عشرة أسماء همزاتها همزات وصل منها همزة «الاسم»، وفي المُفصل «ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفُسوق بعد الإيمان ومن لم يتُب فأولئك هم الظالمون» 11: سورة الحجرات. قطع صلاح همزة الوصل في عجز البيت: «حرف بإسمك يستحيل القاهرا» أخذاً برخصة العروضيين، ففي قطع همزة الوصل ضرورة شعرية، ومما استشهد به العروضيون في هذا الباب: إذا جاوز الإثنين سِرٌّ فإنه ببثٍ وتكثير الوُشاة قمين ويختم صلاح هذا المقطع من خواطره بهدير، فكأنما أرسل عليهم سيل العرم: وأرغم أنوف الحاسدين وكيدهم فالصيد كل الصيد في جوف الفرا ولا ريب في أن صلاحاً نظر إلى العباسي حيث يقول: سُبحان من لو شاء أعطاني كما أعطاهمو وأحلني هذا الذُّرى لأريهم وأُرى الزمان اليوم ما شأني فكل صيد في جوف الفرا ولا غرو أن كان صلاح أحمد إبراهيم معجباً بأمثولة شعبه شعب السودان، صعب المراس، أعزل إلا من التصميم، فقد كان سودانياً معتداً بسودانيته، سودانياً وكفى!.. «والآن «لحكمةٍ» يتجاهل بعضهم تجربة شعب السودان وكأنه غير موجود، أو كأنه امتداد لغيره من غير خصوصية رفيعة تميزه حافظ عليها منذ الأُوَل. ولكن للأسف صار التجاهل شنشنة نعرفها من أَخْزَمَ».