٭ جهود كثيرة تبذل الآن لدعم الوحدة ورفض الانفصال، فالوحدة يمكن أن تحقق عبر أطر مختلفة، فهي مهمة للجنوب كما أنها أيضا مهمة للشمال، لأنها صمام أمان للقبائل الجنوبية فيما بينها، فبها تتعايش وتتداخل لتحقيق مصالحها. فالحركة الشعبية أجهضت مشروع السودان الجديد الذي طرحه الراحل جون قرنق الذي كان هدفه الوحدة في التنوع دون تمييز في الدين والعرق وتحقيق العدالة في السلطة والثروة. وهذا ما جاءت به اتفاقية نيفاشا.. وبعد وفاة الراحل جون قرنق اصبح الطريق ممهدا الآن للانفصاليين داخل الحركة، فتخلت الحركة عن هذا المشروع بسبب الألاعيب التي تمارسها، فلم تهتم يوماً بالقضايا القومية، وتترقب الاستفتاء على أحرَّ من الجمر لتعلن الدولة الجديدة. وأيضا تقاعست القوى السياسية الجنوبية عن الوقوف في وجه الحركة وعجزت عن تحليل الواقع واستشراف المستقبل وإلهام الجماهير. وظلت الحركة الشعبية تلهث وراء انفصال الجنوب من خلال عقد المساومات التي لا تحقق غير المصالح الفردية الضيقة. إن مشروع السودان الجديد في رأيي المتواضع يمثل حاجة ماسة لتحقيق الوحدة، وبغير الوحدة لن تستطيع حل المشكلات في جبال النوبة والنيل الازرق وفي دارفور وكردفان وشرق السودان، فالسودان بلد متعدد ومتنوع، ولا يمكن خلق دولة السودان الجديد كما يدعي الانفصاليون، لذلك لا بد من أن نجعل خيار الوحدة خيار كل القوى السياسية، والعمل معاً على أسس جديدة تراعي النوع والتعدد، وتضع الأطر القانونية والدستورية التي تحقق المساواة، وهو ما جاءت به اتفاقية السلام وما جاء في رؤية الراحل جون قرنق بناء مشروع السودان الجديد الذي اضاعته الحركة بعد وفاته. إن جوهر مشروع السودان الجديد امران لا ثالث لهما، وهما استيعاب كل أهل السودان وإتاحة التعايش السلمي والتفاعل بينهم لتحقيق مصالحهم، والثاني هو الحكم التعددي اللا مركزي الذي يتيح لكل القوى السياسية العمل والمشاركة على قدم المساواة في السلطة، وهو ما حدث الآن. الحركة الشعبية والانفصاليون فيها تحديدا قاموا بوأد مشروع الراحل جون قرنق لتحقيق أطماع فردية وذاتية، ونسوا في خضم ذلك أن أهل السودان عاشوا في تعايش سلمي لأمد بعيد، وهراء إن ظن الانفصاليون أن مشكلات الجنوب ستنتهي بقيام الدولة الجنوبية الجديدة، فأسباب الصراع ستظل موجودة، وستكون الحاجة الى مشروع السودان الجديد الذي وأدته الحركة حاجة ماسة وقائمة، وعلى الانفصاليين أن يعلموا أن مشروع السودان الجديد سيظل مطروحا، لأنه الوحيد القادر على ادارة الصراع بتعدده وتنوعه، وإلا فإن انفصال دارفور قادم ومن بعده جبال النوبة والنيل الأزرق وجنوب كردفان، وسيتجزأ السودان الى دويلات لا حول لها ولا قوة، مما سيجعلها عرضة لاطماع دول الجوار وامريكا واسرائيل، فالمخطط الاسرائيلي اليوغندي القاضي بتقديم الدعم اللوجستي للحركات الدارفورية المسلحة محاولة لاشعال الصراع في دارفور عن طريق الجنوب، حيث قامت يوغندا بتحديد مواقع داخل الجنوب تقع بالقرب من دارفور لاستخدامها منصات لطائرات مروحيات الجيش اليوغندي، تمهيدا لتفعيل نشاط حركات دارفور التي ستنطلق من الجنوب، وذلك ضماناً لاستمرارية القتال عندما تتوقف القوات المتحركة بسبب حلول الظلام، أو عندما يتطلب الوضع ذلك. إن إيواء الحركة الشعبية لحركات دارفور يعتبر ضغطاً على الحكومة، كذلك قيامها بمعالجة جرحى العمليات من هذه الحركات يعتبر خرقاً آخر لاتفاقية السلام، فالحركة الشعبية تسعى لخلق حركة دارفورية متمردة من صنعها، حيث وضعت خطة لذلك، ورأت هذه الخطة ان تقوم بتصفية العناصر المتفلتة وتحديداً العناصر الاسلامية أمثال خليل الذي يحسب على الحركة الاسلامية التي نشأ في كنفها وترعرع، وذلك بوصفه مرحلة أولى تمهيدا لمشروع السودان الجديد بفهم الانفصاليين والداعي بأن تبسط الحركة سيطرتها تماما على كل السودان. وأيضا من خطة الحركة عند اقصائها للدكتور خليل ومناوي لارتباطهما بالحكومة القائمة في فترة من الفترات، على ان تبقى على عبد الواحد الشاب الأرعن، وذلك لأن ما فعله به الموساد الاسرائيلي كافٍ ليجعل منه شابا مطيعا بلا طموح او رؤية سياسية فينفذ كل ما يوكل اليه دون تردد. والآن الحركة يقف معها عدد من الاحزاب لتكوين ما يعرف بالجبهة العريضة. وما يؤسف له حقا أن هذه الأحزاب نست ما فعلته الحركة الشعبية عندما لفظت التجمع الديمقراطي، وكذلك قطاع الشمال عندما استخدمتهم باعتبارهم ورقة سياسية، وبمجرد أن انتهى دورهم لفظتهم ورمت بهم في سلة المهملات، ولهم أن يسألوا أنفسهم أين التجمع الآن داخل الحركة؟ واين قطاع الشمال بل أين الشماليون الذين احتضنتهم الحركة في فترة من الفترات؟ وكان الأجدى لهذه الأحزاب أن تتفق على عمل وطني جامع يراعي القضايا القومية التي توحد السودان، وأن تكون عاملاً من عوامل الجذب لا الفصل. إن أحزابنا اليوم في حاجة إلى اليقظة ثم اليقظة، لأن ما يُحاك ضد السودان هو الأحرى بأن تلتفت إليه، وبحاجة أيضا إلى وقفة تراجع فيها وتمحص، لتدرك ما تبقى من زمن قبل أن يدركها الزمن. فالخطة الصهيوامريكية هدفها تمزيق السودان إلى دويلات ودويلات ضعيفة. إن امريكا تعرف هدفها لكنها حتى الآن لم تجد الطريقة التي تحشد فيها المجتمع خلفها او تحشد العالم في صفها، فهي أولاً قالت إن السودان به اضطهاد أفروعربي حتى تضمن تأييد اللوبي الزنجي الأمريكي واليهودي، أي أنهم ابتداءً بحثوا عن الشعار الذي يجذب الاهتمام وفشل ذلك، ثم جاء موضوع المحكمة الجنائية ففشلت ايضا، وظهرت قضية دارفور الى السطح وملأت الدنيا ضجيجا، كذلك تفعل الآن الحركة الشعبية عندما احتوت الحركات الدارفورية المسلحة، ومن نفس الكأس الآن تشرب أحزابنا باسم تكوين الجبهة العريضة. والسؤال الذي يطرح نفسه إذا قلنا إن هذه الحركات الدارفورية هشة في محتواها وضيقة الأفق في نظرتها الى العمل السياسي، لكن كيف لأحزابنا أن تنطلي عليها خدعة الحركة الشعبية ذات الواحد والعشرين عاماً من القتال وخمسة أعوام من العمل السياسي. كلمة نهمس بها في أذن أحزابنا.. انظروا إلى ما فعلته الحركة بقطاع الشمال وبالتجمع وبياسر عرمان الذي افنى زهرة شبابه في خدمة الحركة والأسماء كثيرة. وعلى أحزابنا أن تتفق على ما فيه مصلحة البلاد، وأن تمد جسور الوفاق بعيداً نحو وحدة السودان، فلن يكون هناك سودان تقوم له قائمة، ما لم تكن هناك وحدة تراعي التنوع وتقوم بقبول الآخر.. فهل تعي أحزابنا الدرس جيداً..؟!