ولاية الجزيرة التي كانت قلب السودان النابض وسلة غذائه والوجهة التي كان يقصدها كل من يبحث عن الاستقرار وفرص العمل ذات العائد المجزي ،لم تعد كذلك والمكانة الكبيرة التي تبوأتها في العقود الماضية بدأت تترجل عنها عام تلو الآخر ليصل بها الحال الى درك سحيق لم يكن يتوقعه أكثر الناس تشاؤماً ،فبعد أن كانت جاذبة تحولت الى طاردة ،وتحول أهلها من أغنياء الى فقراء ،ومن مانحين للزكاة الى مستحقين ومتلقين لها ،والمشهد في الولاية الخضراء تحول الى يباب وقفر فالزمان لم يعد زى بقية الأزمنة ولا المكان مثل سائر الأمكنة ،وعلي أثر التردي الذي عم أرجاءها والبطالة التي استشرت والفقر الذي تمددت مساحاته ،هجر الكثيرون أرض الأجداد التي كانت أنشودة حلوة في الشفاه ولها في القلب مكانة وذلك لان الظروف أجبرتهم على ذلك ،فارقوا الجزيرة وفي القلب حسرة وفي العين دمعة وفي الحلق غصة ،وبات منظر هجرات الأسر والشباب من مدن وقرى الولاية مألوفا ولا يثير التعجب والدهشة فالبحث عن الحياة الكريمة بات هدفاً مشتركاً وحلماً يسعى اليه الذين شبوا وترعرعوا في ظل واقع لايمكن أن يتكرر بعد أن ذهب الى متحف التاريخ ولم يعد هناك أمل في أن يعود ،والأرقام التي لا تكذب ولا تتجمل تشير حسب إحصاءات حديثة الى أن 27% من الباعة المتجولين بأسواق العاصمة المختلفة قادمون من الجزيرة وأن 35% من السودانيين المغتربين بالمملكة السعودية أيضا خرجوا من صلب ذات الولاية ،وتشير دراسات أخرى الى أن نسبة الفقر في الجزيرة آخذه في الارتفاع بمعدلات مخيفة لم تكن مألوفة في السابق ،وأن نسبة الشباب تسير في تناقص واضح ومتتالي . كل الذين سألناهم عن الأسباب التي دفعتهم للهجرة من الجزيرة تحدثوا بحسرة وأسى بل أن رجلاً خمسيني كاد أن يزرف الدمع على أيامٍ خوالٍ وصفها بالتي لن تعود وتتكرر ،ويقول عبد الرزاق محمد الحسن من محلية شرق الجزيرة إن الظروف القاهرة هي التي أجبرتهم على مغادرة الجزيرة للاستقرار في الخرطوم ،وأشار الى أنه لم يكن يتوقع أن يأتي يوم يفارق فيه قريته ويذهب بأسرته الى موطن آخر داخل او خارج السودان ،ووصف حياتهم في الماضي بالرغدة والهادئة وقال إن الجزيرة تم ذبحها بسكين صدئة ... أحمد عثمان من أبناء منطقة الحلاويين بالحصاحيصا شاب في مقتبل العمر لم يشهد ماضي الجزيرة الزاهر غير أنه تحدث عن واقعها بشئ من الحزن فقال :كشباب كنا نعاني في إيجاد فرص العمل بالجزيرة فلم نجد أمامنا سبيل غير الحضور الى العاصمة للبحث عن مصدر رزق يكفل لنا الحصول على مال نعين به أهلنا الذين لازالوا متواجدين بالجزيرة ،وإذا ربنا أكرمني سأعمل على إحضار أسرتي لتستقر في الخرطوم وذلك لأن الأوضاع في الجزيرة لاتطاق. ولماذا لم تعد الجزيرة كما كانت في الماضي ؟سؤال لاتحتاج إجابته الى كثير عناء في التفكير ،فالمشروع الزراعي العملاق الذي كان يمثل مصدر دخل مباشر لأكثر من مائه وثلاثين ألف مزارع وعامل هوى من عليائه وعلى أثر انهياره توقفت أكثر من سبعة مصانع نسيج بمدني والحصاحيصا والحاج عبد الله والباقير ،وحتى مطاحن الغلال ومصانع المواد الغذائية توقفت آلياتها عن الدوران والإنتاج ،وعلى أثر انهيار المشروع وتوقف المصانع انهارت الجزيرة الولاية على الأصعدة الخدمية والحياتية قاطبة ،ليهجرها أهلها وهم مكرهون مرددين(الله يجازي الكان السبب)