حتى وقت قريب كانت مدينة بورتسودان وجهة لكل من يبحث عن فرص العمل وذلك بداعي وجود الميناء والشركات والمصانع وغيرها من مرافق عامه وخاصه تتوفر فيها فرص كسب الرزق ،ومثل غيري يممت صوب حاضرة ولاية البحر الأحمر في بداية هذه الألفية ،وشاءت الأقدار أن يكون انضمامي لاعبا لأحد أندية الناشئين بالمدينة التي اشتهرت بحسن رعاية هذا القطاع سببا في التحاقي بالعمل بميناء بورتسودان الجنوبي الذي كان العمل فيه حلم كل شاب وذلك بداعي الأجور الجيدة التي كانت تمنحها هيئة الموانئ البحرية لمنسوبيها ،بالإضافة الى الدخل المجزي من العمل مع المخلصين وتحديدا في كلات الشحن والتفريغ(العتالة) ،وخلال تلك الفترة التي لم تتجاوز الثلاثة أشهر تعرفت على عالم العتالة الذي كان جاذبا لمقابله المادي الجيد ، ورغم ان دخول الرافعات الصينية الذي جاء عام 1997 الا أنه لم يؤثر على عمل العتالة ،حيث كان عملنا يتمثل في تفريغ الحاويات (للكشف) بواسطة الجمارك ومن ثم إدخالها مرة أخرى للحاوية وتأتي مرحلة الشحن في الناقلات كثالث المراحل لتكون محصلتنا من المال جيدة بنهاية اليوم ،وعمل كلات الموانئ او العتالة لم يكن مقتصراً على الجنوبية بل يمتد الى الرصيف الشمالي والمخازن الخارجية وصومعة الغلال وميناء عثمان دقنة بسواكن ،وبصفة عامه كان العتالي من علية القوم ومن أصحاب الدخول المادية الجيدة ،بل كان أنشودة حلوة في شفاه الفتيات الباحثات عن الزواج ،وكان يحظى بمكانة كبيرة لدى التجار وغيرهم ،وكان صاحب اسهام ملموس في المجتمع على الأصعدة كافة. لتدور دورة الأيام التي لاتعرف الثبات في السودان والمضي قدما نحو الأفضل ليتغير واقع مهنة العتالة في بورتسودان كليا فبعد ان كانوا أغنياء تحولوا لفقراء حيث عصفت رياح التغير العاتية بمملكتهم القوية التي باتت في مهب الريح بل تلفظ في أنفاسها الأخيرة، وأضحت على شفا حفرة من الانهيار ليلقي هذا الأمر بظلاله القاتمة على أكثر من عشرين ألف أسرة كانت تعتمد على عمليات الشحن والتفريغ في كسب أرزاقها ،ولكن حاليا تبدو مهنة العتالي في طريقها للزوال بعد أن تقلصت أدوارها وأصبحت مهنه بلا تأثير ودخل ومعظم من كان يمتهنونها باتوا زبائن لرصيف البطالة الذي يتمدد كل يوم بولاية البحر الاحمر،كيف تدهورت هذه المهنه التي كان يقتات عليها عشرات الآلاف ؟وماهو مصير من كانوا يمتهنونها ؟ يجيب حامد محمد آدم رئيس نقابة عمال الشحن والتفريغ خارج البواخر : للأسف الشديد تواجه هذه المهنه ظروفاً بالغة التعقيد بداعي التحديث الذي انتظم العمل في ميناء بورتسودان ،بالإضافة الى الخصخصة ،ولم يعد العتالي صاحب دخل عالي مثلما كان في الماضي فقد أثر دخول الآليات في الشحن والتفريغ عليه سلبا وقلص من مساحات عمله السابقة ،ورغم ذلك كان الوضع جيدا نسبيا ،الا أن ماطرأ على عمليات التخليص دق المسمار الأخير في نعش المهنة ،حيث تحولت معظم عمليات التخليص إن لم يكن جلها الى محطتي سوبا وقري وتراجع حجم العمل في ميناء بورتسودان ،والتخليص في الخرطوم جعل الكثيرين بلا عمل، ففي الماضي وعندما كانت عمليات التخليص تتم في بورتسودان كان العتالي يستفيد من تفريغ الحاويات لكشف الواردات و بعد ذلك يقوم بادخالها وأخيرا يشحنها في الناقلات التي لم تكن كثيرة قبل أعوام وقلتها كانت تتيح فرص عمل واسعة لعمال الشحن والتفريغ بالميناء و في المخازن الخارجية وهكذا،وفي ذلك الوقت لم يكن العتالي وحده المستفيد بل أعداد كبيرة من العمالة المساعدة كالعدادين والمراقبين والخفراء وأصحاب اللواري والسواقين و بائعي المأكولات والمشروبات وغيرهم من أصحاب المهن ،ويضيف حامد : نحن كنقابة تحركنا في كل الاتجهات لتخفيف الاضرار الاقتصادية والاجتماعية التي طالت أصحاب مهنة العتالة وعقدنا العديد من الورش والسمنارات ورفعنا عدداً من التوصيات للجهات المسؤولة وطالبنا بالبحث عن بدائل أخرى لعمال الشحن خاصة الشباب منهم حتى لايذهبوا الى رصيف البطالة واقترحنا تأهيلهم وتدريبهم من أجل العمل في مجالات أخرى كالزراعة والصناعة وغيرها من مهن ،وطالبنا بتعويض كبار السن ،ورغم إهتمام وتجاوب الاخ الرئيس ووالي البحر الاحمر الا ان الواقع ظل كماهو وليس هناك جديد ،وأتمنى أن تجد هذه القضية حظها الكامل من إهتمام الدولة وذلك لأن لها إفرازات سالبة لاتحصى . سمرا إدريس شاب يقطن ديم مايو عندما سألته عن ماضي وواقع مهنة العتالة كاد أن يزرف الدمع الثخين وقال بحزن وأسى : في الماضي كان العمل في هذه المهنة رغبة كل شاب باحث عن الزواج والاستقرار والمال، والسواد الأعظم من شباب بورتسودان عملوا في هذه المهنه وذلك لانها كانت جاذبة ذات دخل اكثر من جيد ،وكان التنافس بين الكلات على أشده لتجويد العمل واثبات القوة والنشاط وسط أهازيج وابتسامات وضحكات ،ولكن كل ذلك للأسف أصبح من الماضي الذي نجتر ذكرياته لنخفف من وطأة الواقع علينا ،واليوم تحول العتالة الى عطالة بسبب دخول الآله وعدم خلق البدائل وتوفيرها قبل التحديث ،وإذا أردت التأكد من صدق حديثي أذهب الى لمخازن الخارجية أصبح ينعق فيها الغراب بدل البوم وتشكو الهجران وقلة الفئران ،عموما ربنا يكون في عون العتالة الذين كانوا المحرك الأساسي لاقتصاد المدينة . من جانبه رمى محمد عثمان عمر (ود أمير ) باللائمه على نقابة عمال الشحن والتفريغ وحملها مسؤولية تدهور مهنة العتالة وقال إن الوضع في الماضي كان أفضل حينما كان نظام المقاولين هو السائد وأضاف :فيما مضى كان العمل لايتوقف طوال ساعات اليوم وكان المقابل عالٍ وجيد وبعد دخول الجمعية التي تعقد الاتفاقيات مع المشغل تراجع الدخل كثيرا بل يجد العامل معاناة في تحصيل أمواله من النقابة او الجمعية وتتأخر لشهور ،وعمال الشحن والتفريغ بعد التحديث تحولوا لفقراء رغم الأموال والاشتراكات الشهرية التي كانت تخصم منهم بواسطة النقابة والجمعية وكلاهما سيان ،والنقابة التي ظل مسيطراً عليها رئيس واحد منذ خمسين عاماً لم تقف مع منسوبيها بعد تدهور المهنه وتركتهم في العراء لمجابهة ظروف التحديث والبطالة ولم تفعل شيئاً ايجابياً رغم ان البعض تسلق على أكتافهم ووصل الى أعلى المناصب التشريعية لكنهم للأسف لم يهتموا بقضايا العتالة، وهذه المهنه التي بدأت في الإندثار بعد تراجع وندرة العمل ليس لها وجيع غير المتأثرين الذين لاحول لهم ولاقوة ونسأل الله أن يكون في عونهم بعد أن تجاهلهم الماسكون بزمام امورهم منذ خمسين عاما.