في الآونة الأخيرة برزت كتابات ذات أفق نظري لا تأخذ عملية الكتابة بمعزل عن بعض الفنيات التي تراها ضرورية لاستكمال الامتاع القرائي.. ولاشباع شهوة المتلقي بوجبة دسمة لا تغفل المشهيات.. او التوابل الحارقة. كما انها لا تغفل النكهة التي تعطي للنص طعمه المتفرد، ورائحته المتميزة.. وكذلك لونه، بالإضافة للمواد الحافظة. إن للكتابة فنياتها وآلياتها وضمن تلك الآليات برز مصطلح «العتبات النصية» والتي تبدأ بالغلاف، اذ يتخذ كعلامة، فضلا عن التصميم، والتشكيل والألوان والحرف وشكل الكتابة والفراغات والابعاد والاهداءات والمقدمات. وهي جميعا تعد عتبات أولية، ومداخل تساعد على إبراز النص وجمالياته، وتشكل عناصر ذات قيمة لإحداث ما اشرنا اليه من اشباع يلبي شهية التلقي، ويفتحها لمزيدٍ من الالتهام حد التخمة..!! وهنا يقدم الاستاذ مبارك الصادق الحلقة الاخيرة من دراسته . والطريفي كما نعلم هو ابن اخت محجوب، ولكن ذلك لم يمنعه حين استوى عوده وصار شابا، ونظر فرأى خاله وجماعته وهم يقبضون على اعنة ود حامد.. بل ويجثمون على صدرها عندئذٍ انبرى الطريفي وبدا اسمه يأخذ بعده وصفته تماما، اذ فارق التوسط والاعتدال وبدا متطرفا الى اقصى حد التطرف، حيث شن هجوما مقذعا على خاله وجماعته، ثم امتد الامر الى نزاع اسري في ما يتعلق بقطعة ارض كان محجوب يظن ان الارض ارضه، ولكن اولاد بكري بزعامة الطريفي تصدوا له فجأة وهو شيخ طاعن في السن.. وهم شباب ينازعونه حولا بأكمله.. يطلعون لمحكمة وينزلون لمحكمة.. خسروا الأرض. ولكنهم قوضوا سلطان وسلطة محجوب. بدأوا يقولون جهارا ما كان الناس يقولونه سرا او لا يقولونه البتة.. وكأنما البلد كانت مستعدة للتغيير، زاد الهمس وارتفع الضغط، وكان الطريفي ولد بكري يتصدى لمحجوب في المجالس ويقول على مسمع منه «هذه العصابة.. محجوب وجماعته». قال ود الرواسي إن كلام اولاد بكري بدأ يؤثر في قلوب الناس، وتكون لهم حزب معارض اخذ يقوي ويشتد، وقاموا بجمع التواقيع لعقد اجتماع الجمعية، وهو امر لم يحدث منذ تكوين الجمعية.. كان هدفهم اقصاء محجوب وجماعته من لجنة الجمعية.. وكل اللجان التي سيطروا عليها منذ أكثر من ثلاثين سنة. وهكذا انتهى الأمر بانعقاد الجمعية برئاسة باشمفتش التعاون الذي جاء خصيصا من مروي لذلك اليوم المشهود. قام الطريفي وقرأ عريضة طويلة ضمنها كل ما يمكن ان يخطر على البال - اتهم فيها خاله محجوب بالفساد والرشوة والسرقة والمحسوبية وعدم الكفاءة والاهمال. وتبعاً لذلك اسقطت ود حامد عهدها الجديد.. تحت زعامة جديدة.. يقودها اندفاع الشباب وتهوره.. وتطرف الطريفي ود بكري القائد الجديد للنظام الجديد الذي اظل ود حامد. نسيت ان اقوال لكم ان الطريفي ود بكري متزوج من ابنة خاله محجوب!! وكان سعيد البوم أحد قادة النظام الجديد، وهو من المظاهرين للطريفي ود بكري ومن السائرين في دربه وركبه.. والشاهد اننا نلتقي هنا بسعيدين - هما سعيد البوم وسعيد القانوني.. ثم هنالك مسعود. أما سعيد البوم فقد اتضح من خلال المتن انه لم يكن بوما في يوم من الايام، وانما تبوّم لحاجة في نفسه حتى قضاها، فاجبر المجتمع ان يخلع صفة البوامة عنه ليخلع عليه لقباً جديداً جميلاً - انها خلعة البسته لها «فطومة» بعد ان دفع لها عشرة جنيهات كاملة. لقد بدا لنا ان سعيد كان رجلا بارع التخطيط، بدليل انه نجح في ان يخلع رداء البوامة وقتما شاء ليلبس ثوب عشا البايتات.. كذلك نجح في أن يتزوج بنت الناظر، وتبدو المفارقة عظيمة والبون شاسعاً اذا ما ادركنا صلف الناظر وسطوته وجبروته، فماذا يشكل سعيد الى جانبه وهو الذي انفق سبع سنوات يعمل لدى الناظر؟ «يكسر الحطب، ويجلب الماء.. ويسقي البهائم، ثم وضح أن سعيد يملك من المدخرات التي صيرته تاجرا كبيرا ولديه من المال ما لديه.. وتبعا لذلك صار زعيما من زعماء العهد الجديد، بل صار امينا للمال في الجمعية التعاونية يدعو الاعيان ويولم وتلبى دعوته. ولهذا يمكن القول إن صفة كونه بوما كان يقصدها ويريدها، ولم ينفر منها او يأباها، لكونها تساعده في تحقيق غرضه او قل اغراضه المضمرة على مستوى مصاهرة الناظر، وان يصير تاجرا ومن الاعيان.. بل ويصير مقنعاً للكاشفات او عشاءً للبايتات. اما سعيد الآخر وهو صاحب الدكان، فقد كان «متلقي حجج» الأمر الذي جعلهم يطلقون عليه سعيد القانوني وهو في ما يبدو كان حقانيا.. ولعل الدرب قد طال عليه. والسن قد تقدمت به.. فترك ما يمكن أن نسميه المناكفات، ولهذا عندما ناداه محيميد بلقبه القديم: أبو القوانين اطلقها آه طويلة وهو يقول: القوانين الله يطراها بالخير الزمن ده البتكلم في حقو يقولوا عليه مشوشر!! ولهذا ليس ثمة سعيد وليس ثمة سعادة طالت او تطول ابو القوانين، فمن بقي من المسعودين الثلاثة؟ اه بقي مسعود.. وكنا قد اشرنا خلال هذه القراءة لاسماء الاضداد.. وهنا علينا ان نتوقف هنيهة عند مسعود في قصة «حفنة تمر»، حيث يتكشف لنا الى اي مدى كان اسم مسعود من اسماء الاضداد بالنسبة له. فقد قال الراوي وهو يشير الى الارض، ذلك الحقل المهول المترامي الاطراف، ليؤكد ان كل هذه الارض كانت لمسعود فباع اكثر من ثلثيها لجد الراوي، وانه لواثق ان ما تبقي من الارض سيشتريه منه في مقبل الايام؟ لماذا؟ لأنه بنظر الجد كان رجلا خاملا مزاوجا لا هم له الا النساء. وأشفق الصبي حفيد الجد على مسعود وهو يراه في زيه المقطع وحماره الاعرج، وقد دعا الدائنين لاستلام محصول البلح، فتقاسموه بينهم ولم يتركوا له جوالا واحدا، بل تركوا له غصة في الحلق، وحشرجة سمعها الصبي وهرول كي يتقيأ بعيداً عن الآخرين التمرات التي أكلها! أليس اسم متعوس والحالة هذه هو النقيض الأمثل لمسعود؟ أليست هي المفارقة «Paradox» وبعد، ومن خلال هذا المبحث الذي توفرنا عليه، وحاولنا من خلاله أن نستخلص بعض الدلالات والإشارات الموحية لاختيارات الاسماء ذات الصفات الدالة او المتقاطعة، فإننا لا نرى أن اختيار الاسم لا بد أن يكون كذلك ضربة لازب، ذلك لأن الأمر تحكمه بعض النواحي الفنية في منظور المبدع. وحتى أن بعض الأسماء لها خواصها الخاصة بها من خلال تداولها.. ومن خلال رسوخها وتجذرها في الوجدان الجمعي المتراكم عبر الأزمنة. كما أن لبعض الأسماء ظلال عرقية ومكانية وتاريخية ودينية، لا تغيب عن فطنة القارئ، فمتى ما حملتها الشخصية فإن المتلقي يقوم باستدعاء ظلالها الراسخة في الدواخل ليضعها في إطارها الموضوعي داخل بنية العمل الإبداعي وسيقاتها المختلفة. اشارات: 1 اللغة والإبداع الادبي دار الفكر للدراسات. د. محمد العبد ص 84. 2 موسم الهجرة للشمال ص 49. 3 نفس المصدر ص 59. 4 الريف في الرواية العربية/ علم المعرفة د. محمد حسن عبد الله.