إذا لم يؤدِ لغم أرضي بحياتك فلن تسلم أطرافك ...وإذا لم يتسبب مرض السل والدرن وسوء التغذية في وفاتك فلن تستطيع الهروب من العمى الليلي والأمراض الجلدية ...وإذا عرفت أن أحداهن قد فارقت الحياة وتركت من خلفها طفلاً لم يتجاوز عمره الأسبوع أو شهراً فتأكد أن عملية ولادة بالحبال قد أزهقت روحها ...لاتفكر في رؤية الكهرباء في المنطقة وذلك لأن هذا الأمر يعتبره السكان ترفاً وحلماً بعيد المنال ...طبيعي أن ترى عظام أحدهم قد بانت وكادت أن تبارح جسده ،ولاتعتقد أنه يخضع لبرنامج تخسيس بل هذا أثر الجوع ..أما إذا داهمك داء فلا تفكر في الذهاب الى مستشفيات عقيق ومرافيت وقرورة وذلك لأنه لايوجد أطباء ولادواء ..وفي ذات المنطقة المياه للشرب فقط وذلك لأنها غير متوفرة ،لذلك عندما ترى الأطفال في ثياب رثه ومتسخه فلا تتعجب . هذا هو جزء يسير من كثير وغيض من فيض ومجرد عناوين بارزة فقط لواقع الحال بمحلية جنوبطوكر بولاية البحر الأحمر التي تبعد عن حاضرة الولاية 205 كيلو متر (جنوبا) وتقع على الحدود السودانية الإرترية وقبالة البحر الأحمر ،وكانت في العقد الماضي مسرحا للعمليات الحربية بين الحكومة والتجمع الوطني والحركة الشعبية وجبهة الشرق ..هذه المحلية تبدو خارج سياق الألفية الجديدة ،ودموع الفتيات اللواتي رافقن قافلة منظمة تنادينا الخيرية مؤخرا التي بللت ثرى المنطقة حزنا على المآسي كانت أوضح تعبير للواقع القاسي والمشاهد الحزينه التي لم يتوقعن أن يشاهدنها في حياتهن داخل السودان ...والصرخات التي ظل يطلقها مواطنو المنطقة تبدو صادقة ،بيد أنها لا تجد آذاناً صاغية بداعي ظلم الإنسان لأخيه الإنسان ...في منطقة بها أخصب تربة في العالم لاتجد من يفلحها بسبب الخوف من الألغام ولإنتشار المسكيت..وذات المنطقة تشهد معدلات أمطار عالية وسيولاً جارفة ورغم ذلك يعاني السكان من العطش ويعود هذا الى أن المياه تذهب لتصب في البحر الأحمر لعدم وجود سدود وحفائر ... وفي جنوبطوكر يوجد نهر موسمي يسمى بركه يقع في مدخل المحلية وإذا فاض بمياه الأمطار تتقطع بالمواطنين السبل على ضفتيه لساعات وأيام وذلك لعدم وجود كبري ،وذات النهر الثائر والفيضانات الجارفة كانا سبباً لوفاة الكثيرين من مواطني المنطقة وآخرها قبل أشهر ،عطفا على نفوق أعداد مقدرة من الثروة الحيوانية .وبصفه عامه يبدو الوضع في هذا الجزء من السودان مأزؤما يعاني سكانه الأمرين من قساوة الطبيعة وقلوب البعض . نجلاء سيد أحمد ناشطة في العمل الطوعي والإنساني ذهبت الى محلية جنوبطوكر مؤخرا ضمن أفراد القافلة التي سيرتها منظمة (تنادينا) لازالت متأثرة بهول مارأت فهي عندما ذهبت كانت تعتقد أن المنطقة متأثرة بالسيول الأخيرة فقط ،بيد أنها اكتشفت حجم المعاناة التي يرزح تحت وطأتها السكان فقررت أن تعتبر تلك المآسي قضيتها الأساسية ومنذ عودتها الى الخرطوم ظلت تطوف برفقة عدد مقدر من الناشطين الشباب مثلها المؤسسات والجامعات والشركات لعرض قضية المنطقة سعيا وراء إستجلاب الدعم لتسير قافلة في المرحلة المقبلة ..وتقول نجلاء عن واقع الحال بالمنطقة التي زارت فيها عشرين قرية من جملة خمس وأربعين : عندما تحركنا من بيت الفنون بالخرطوم صوب جنوبطوكر ونحن نحمل مساعدات إنسانية تبرعت بها عدد من الجهات مثل سيقا ومنظمة مكة الخيرية وغيرها بالإضافة الى دعم الأفراد ،كنا نتوقع أن تكون الكارثة بسبب السيول والأمطار الأ أننا تفاجأنا بواقع مؤلم لايمكن وصفه بغير أننا وجدنا السكان مجرد (عضم بدون لحم ) وأنهم يعانون في كل شئ ،مياه الشرب ،الطرق ،الأكل ،اللبس ،العلاج ،ووجدناهم يعتمدون على أكل العصيدة فقط دون أن تكون معها مأكولات أخرى ،وبكل صدق لم نجد مظاهر للدولة وذلك لأنه لاتوجد مستشفيات حقيقية ولاأطباء ناهيك عن اختصاصيين ،ووجدنا أن مرض السل أنهك أجسادهم وكذلك الدرن والأمراض الجلدية ،ويبدو أثر الجوع واضح في وجوه الصغار والكبار ،أما التعليم ففي مدرسة عقيق الثانوية يوجد معلمان فقط أحدهما يدرس مادتي الأحياء والكيمياء وهو خريج اقتصاد ،أما المدارس بمرحلة الأساس فالصف الرابع هو نهاية المطاف والرحلة التعليمية وذلك لعدم وجود الفصول الأخرى ،والتلاميذ تتبدى في مظهرهم المعاناة واضحة فمعظمهم لايرتدون أحذية ويمشون حفاة وملابسهم ممزقة والأدهى والأمر أن بعض التلاميذ يذهبون راجلين لمسافة عشرة كيلو متر رغم الجوع للوصول الى المدرسة في قرىً أخرى ..ومن أقسى المشاهد التي أحزنتنا وفاة الكثير من الحوامل لعدم وجود قابلات في العديد من القرى علما أن ثلاث قابلات فقط في المحلية . والجدير بالذكر أن الولادة في معظم القرى تتم عن طريق الحبل ؟،كما أن عادة الختان لازالت تمارس وقد أودت بحيات الكثيرات من الفتيات الصغار . وتضيف :ذهبنا لإحدى أسر الشهداء فوجدنا أن والدتهم ذهبت الى طوكر من أجل العلاج، ومعهم شقيقتهم الكبرى التي يبلغ عمرها 13 عاماً ولاحظنا أنهم يرتعشون ويبدون في حالة بائسة فلما سألناها عن السبب أكدت بانهم لم يتناولوا طعاماً منذ يومين ،وهذا الأمر ينطبق على معظم الأسر ،أما مياه الشرب فهي قضية يطول شرحها ويكفي أن أشير الى أن البعض يذهب لمدة 12 ساعة للوصول الى البئر (كرجاكات) ..والمواطنون هناك يقضون حاجتهم في العراء ولا أثر لإصحاح البيئة وهناك غياب تام للمحلية ،ومن خلال طوافنا على قرى المحلية نصادف دائما أن هناك رجلاً او أمرأة قد فارقت الحياة بسبب الأمراض المستوطنة في المنطقة . وترى الناشطة نجلاء أن الواقع بمنطقة جنوبطوكر جريمة لاتغتفر يقع وزرها على الدولة في المقام الأول لأنها المنوط بها توفير الخدمات لرعاياها وكل سوداني ،وأكدت أنه لو تم تسيير مائة قافلة إنسانية فلن تغير الحال ولن تؤدي الواجب الذي يفترض أن تقوم به الدولة ،وناشدت المنظمات الخيرية ورجال الأعمال والشركات المساهمه في دعم المنطقة والقافلة التي ستغادر في الفترة القادمة . من جانبه أرجع عضو تشريعي ولاية البحر الأحمر وممثل الدائرة 28 عقيق حامد إدريس سليمان التردي بالمنطقة الى عدد من الأسباب وقال :فيما مضى كانت المنطقة هي الأغنى بولاية البحر الاحمر وذلك لوجود مشروع دلتا طوكر الذي قامت على أكتافه مدينة بورتسودان ،وأوضاع المواطنين كانت مستقرة وجيدة ،ولم تكن هناك معاناة تذكر ،ولكن تضافرت أربعة أسباب في تردي المنطقة ولعبت أدواراً بارزة لافتقراها لأبسط مقومات الحياة وأبرزها الجفاف والتصحر الذي ضرب كل أنحاء السودان في العقد قبل الماضي ،لتتوالى النكبات على المنطقة في العقد الماضي عقب إندلاع الحرب في الشرق حيث كانت منطقة عمليات وأسهمت في استشهاد الكثيرين ونزوح أكثر من مائة ألف أسرة ،ولكن أعتقد أن آثار الجفاف والحرب كان من الممكن معالجتها أسوة بالكثير من مناطق السودان غير أن هذا لم يحدث بسبب تجاهل الدولة لواجباتها الأساسية تجاه سكان المنطقة وعدم إهتمام حكومة الولاية في السنوات التي أعقبت توقيع إتفاقية الشرق حيث ظلت تتعرض المنطقة لتهميش أقرب مايكون الى أنه متعمد من جانب حكومة الولاية ،وعلى أثر ذلك تدهورت البنية التحتية التي في الأساس دمرتها الحرب وغطى المسكيت الذي لم يجد المكافحة من الدولة معظم مساحة دلتا طوكر فتوقف السكان عن الزراعة والرعي بسبب الألغام التي زرعت أيام الحرب ولم يتم نزعها حتى الآن وهي ظلت من أكبر المهددات التي تواجه السكان ، وأعتقد أن هناك عملاً منظماً تجاه هذه المنطقة فكل الدلائل تشير الى ذلك ولانعرف الهدف من وراء إجبار المواطنين على الهجرة بداعي عدم وجود أهم مقومات الحياة والعيش الكريم ،ووالي البحر الاحمر ظل يتجاهل جنوبطوكر في كل مشاريع التنمية وحتى معتمد المحلية مستقر في بورتسودان ويأتي المنطقة في فترات متباعدة دون أن يسأله أحد في حكومة الولاية التي تمشي على هدى توجهات الوالي الذي له رأي في سكان المنطقة لانهم عارضوا وجوده واليا عليهم . وأضاف :الوضع على الأرض مأساوي وكل مظاهر المجاعة تبدو واضحة ولولا جهود المنظمات الإنسانية لفارق الكثيرون الحياة جوعا ومرضا ،وهنا لابد من الاشارة الى أن صندوق إعمار الشرق لم يهتم بالمنطقة رغم أنها متأثرة بالحرب والاكثر تضررا ولم يسهم في تأهيل البنية التحتية وليس له وجود بل حتى أن مشروع طوكر الزراعي لم يتم تضمينه في المشاريع التي ستعرض على المانحين في الكويت خلال المؤتمر الذي يعقد في ديسمبر القادم وهذا الأمر يوضح الاستهداف الذي تتعرض له المنطقة التي تبدو وكأنها تتبع لدولة غير السودان. من جانبه أشار الأستاذ إبراهيم موسى ضرار مدير كلية الأمير عثمان دقنة ببورتسودان الى أن التنمية متوقفة تماما في المنطقة منذ سنوات خلت ،وقال: ولكن الغريب في الأمر أن رئاسة الجمهورية ظلت تولي المنطقة بعض الاهتمام الا أن المشاريع التي يتم تنفيذها تتعرض لحرب من الوالي الذي لا يخفي حربه علي اهل المنطقة ،والرئيس في زيارته الاخيرة تحدث بكل صراحة عن جنوبطوكر وأعتبرها اقل المناطق حظا في التنمية وهذا دليل واضح على أنها تتعرض لتهميش متعمد لانعرف أسبابه ،ومثل غيري أتساءل أين ذهب النازحون الذين تضرروا من الحرب التي دارت في المنطقة ردحا من الزمن ؟أكثر من مائة ألف أسرة غادرت المنطقة بحثا عن الخدمات باطراف المدن داخل وخارج الولاية ولم يجدوا من يهتم بقضاياهم أسوة بالنازحين في دارفور وتركوا لمواجهة مصيرهم دون أن يملكوا أدوات ومعطيات مغالبة وقهر الظروف الاقتصادية الضاغطة ؟ونسأل لماذا يجبر السكان على الهجرة ولماذا يتم إفراغ المنطقة من قاطنيها ولمصلحة من يحدث هذا الامر ؟وهل يعقل أن تكون جريرة السكان معارضتهم للوالي وقول رأيهم بوضوح وصراحة في تنمية الكورنيشات ومهرجانات السياحة ،ويضيف :المنظمات الإنسانية تسير قافلات بصورة راتبة وذلك لأنها وقفت على الواقع المؤسف ورغم ذلك حكومة الولاية لاتهتم بمعاناة المواطنين ولاتحرك ساكناً ولا أظن أنها ستفعل . إذن هذه ملامح عامهة عن هذه المحلية المنكوبة ،وهي أضحت بمثابة اللغز الذي يصعب فك طلاسمه رغم أنها تمتلك في باطنها ثروات مقدرة منها معدن الحديد الذي أشارت بعض الدراسات الى ان احتياطيه يتجاوز ملايين الأطنان ،علاوة أن هناك ثروة سمكية مقدرة يتردد أن الصادين المصريين هم المستفدون منها بعد أن حصلوا على تصاديق صيد من حكومة الولاية ،وفوق كل ذلك هناك أراضي دلتا طوكر الخصبة التي تأثرت بالمسكيت وسوء نظام الري ،ويشير خبراء زراعيون الى أن هذا المشروع إذا وجد الإهتمام من شأنه أن يغزي دول الخليج بالخضروات وذلك عبر ميناء عقيق الذي لايبعد كثيرا عن ميناء جدة ...رغم كل شئ يظل السؤال قائما لماذا تتعرض هذه المنطقة للتهميش الذي أجمع الكثيرون الى أنه متعمد ؟