أكد باختين أن الرواية هي النوع الأدبي الوحيد الذي لم يكتمل داخل قواعد محدَّدة بخلاف الأنواع الأخرى من شعر ودراما، كما أنه وُلد ونما في العصر الحديث وذو قرابة عميقة بالعصر وما فيه من تجديد. لذلك كان التجريب من مقومات وجود النوع تاريخيًّا. لقد ظلت الرواية أمدًا طويلاً ذات وجود غير رسمي خارج ما سُمِّي بالأدب الرفيع. ومن بدايات التجريب الروائيّ أنها كانت تعتصر بعض الأنواع الأدبية التقليدية مدمجة إياها معيدة تشكيلها وصياغتها أو معيدة توكيد النبر فيها (رومانس أو مقامة)، وربما قامت بالمحاكاة التهكمية لها (دون كيخوته). ويجعل التجريب الرواية أكثر مرونة وحرية وقدرة على التطوُّر وعلى نقد نفسها، كما يجدد لغتها ويُدخِل عليها تعدُّد الأصوات والانفتاح الدلالي والاحتكاك الحيّ بواقع متغير وبحاضر مفتوح النهاية. إن التجريب المستمرّ جعل الشكل الأدبي الروائيّ متطورًا قادرًا على الاستجابة لتطورات الحاضر وتفتُّحه، فهي النوع الوحيد المولود من هذا العالَم الجديد المتطور ويمتلك تماثُلاً معه. فهي تقع في نطاق الاتصال المباشر بالحاضر المتطور غير المكتمل الذي يواصل إعادة التفكير والتقييم دون حسم نهائي، حاضر يستطيع الناس رؤيته ولمسه وتصوُّره باعتباره على نحو متجدد عالَم الممارسة والملامسة. وأهمُّ مشكلة تَعرَّض لها التجريب في تاريخه الممتد هي التساؤل حول فكرة أن الرواية لا تتألف فقط من الحبكة والشخصية والوصف، بل تتألف أيضًا من البناء والتركيب والقالب اللُّغَوِيّ أي الشكل. فهي ليست أفضل في مقال أو بحث أو دراسة. فما يحاول التجريب الروائيّ تقديمه هو ما الذي يمكن أن تكتشفه الرواية وحدها الواقع لا إلى نقل التجرِبة كما هي، بل التجرِبة التي تنجزها التقنية السردية. فهذه التقنية تكتشف التجرِبة وترتادها وتنمِّيها وتقيمها وتوصل معناها ولا تكتفي بأن تعكسها. فتجريب التقنية يعتبرها سيطرة على موادِّ التجرِبة الحية لا وقوعًا في حبائلها واضطرابها كما يقع المرء في حبائل وتناقضات تجرِبة واقعية. إن التجريب التقني المتفِق مع شخصية وطابع العصر يستلزم ما هو أكثر من الموضات العصرية ومن محاكاة القردة لأساليب فن طليعي. فالأسلوب أفضل في مقال أو بحث أو دراسة. فما يحاول التجريب الروائيّ تقديمه هو ما الذي يمكن أن تكتشفه الرواية وحدها أفضل في مقال أو بحث أو دراسة. فما يحاول التجريب الروائيّ تقديمه هو ما الذي يمكن أن تكتشفه الرواية وحدها وتعرضه بطريقتها النوعية عن حاضر اليوم وعن الفرد ووجوده الداخلي. وتتحدد الرواية التجريبية بعالَمها النسبي الملتبس البعيد تمامًا عن حقيقة يقينية واحدة. كما تتصف بالتساؤل والتشكك في ما تقدِّمه أجهزة الإعلام الرائجة أو بالتساؤل والتشكُّك عمومًا. لذلك قد تبدأ مسارات التجريب الممكنة التي تتقاطع مع تاريخ الرواية الفعلي بمسار المفارقة والسخرية والتهكُّم الذي يتقاطع مع الإيهام بالحقيقة والتصوير الواقعي بنظامه الزمني المتسلسل. ويمضي التجريب في مسار إدماج الحلم أو الكابوس والخيال بالواقع ومسار تسليط الضوء الفكري على ما في الحياة الإنسانية من مجاهل دون أن يكون ذلك بحثًا فلسفيًّا. وهناك مسار خجول هو مسار إطلاق سراح الفرد من الركن الضيق للحياة اليومية وزمنه الخانق وربطه بالزمن الجمعي وفضائه الأوسع، وإن يكُن ربطه بتعدُّد الأصوات قد صار أمرًا مألوفًا غير تجريبي. إن مسارات التجريب كثيرة من الصعب قولبتها. فلقد عمل الروائيون على توظيف العديد من التقنيات داخل بنيات خطابهم الروائي، وبالأخص لدى كُتَّاب الستينيات ومن تلاهم من الروائيين الذين ابتكروا أشكالاً روائية جديدة تتلاءم والظروف التي عاشها هذا الجيل من المبدعين، ففي هذا المناخ الذي تتجاور فيه المتناقضات وتتضخم فيه الاسترابة، يختفي الوضوح وينتشر الإبهام والغموض ويحتاج الكاتب إلى تطوير أدواته وتغيير أساليب تعبيره لاستيعاب هذه الحالة الجديدة، وقد لجأ الكُتَّاب إلى فن السينما يستعيرون منه التقنيات التي تساعدهم في إنتاج هذه الأشكال الروائية الجديدة، وكان بين أهم الأدوات التي استعارتها الرواية العربيَّة من منجزات فن السينما تقنية المونتاج السينمائي. وقد تخيرت الدراسة »فن المونتاج« لأن يكون العنصر المؤثر في الرواية المصرية، حيث إن التعرُّض بالدراسة للخصائص السينمائية ولا سيما فن المونتاج في الرواية المصرية التي أهَّلَت أصحابها لاحتلال مكانة متميزة في السينما الروائية المصرية يصبح مطلبًا مهملاً في مجال دراساتنا النَّقْدِيّة والثقافية، ذلك لأن التعرُّف على مثل هذه الخصائص لا يكشف فقط عن وجه آخر لثراء أدب هؤلاء الروائيين، بل يكشف أيضًا عن أهم مقوماته التي جعلت منه مادَّة صالحة ومؤثرة لدى إعدادها في شكل سينمائي. فالدراسة تهدف إلى استنطاق عدسات التعبير الروائي المعاصر لأهمِّ مفردات اللسان السينمائي المتمثلة في »فن المونتاج«، وذلك صادر عن البيئة الداخلية لهذا التعبير، وما يعنيه الباحث بهذه البيئة هو القيمة الجمالية التي تعطي لهذا التعبير حضورًا خاصًّا مع أي قراءة كاشفة، باعتبار أن القراءة هي عملية تقشير المرآة، لكي ترى أبعد من وجهك، وهذه هي القراءة الكاشفة التي لا تقف عند حدود الذاتي الذي يطفو على سطح الفعل القرائي، بل تغوص أعمق لسبر الهمِّ الكوني بوصفه الظهير الأصيل لكل عمل أدبي يطمح إلى البقاء في ذاكرة القراءة أما كيفية الصدور فلها منطلقات مستنتجة من الحضور الذي أسَّسَه الفن السابع (السينما) -بالميثاق التواصلي- مع المتلقِّي. وجدير بالإشارة أن الدراسة لا يمكن أن تدرس التوليف السينمائي (المونتاج) منعزلاً عن مقولة السرد وشكله وعن البنية السردية، باعتبار أن التوليف السينمائي (المونتاج) هو عنصر من عناصر الأسلوب السينمائي الذي يدخل في لحمة السرد ويفصل فقط بهدف الدراسة والتحليل. ولقد تمّ تقسيم الدراسة إلى أربعة فصول، حيث اختصّ كل فصل من هذه الفصول بتقنية من تقنيات المونتاج الأربع التي تخيرتها الدراسة لتكون العناصر التي تتولى الدراسة في بيان تجلِّياتها من خلال النماذج الروائية الأربعة التي ارتأتها الدراسة لتكون النماذج التطبيقية على هذه التقنيات، فاختص الفصل الأول بتقنية »الازدواج«، وكان النموذج التطبيقي على هذه التقنية رواية »ميرامار« (1967م) لنجيب محفوظ، أما الفصل الثاني فكان خاصًّا بتقنية »المزج«، وكان النموذج التطبيقي على هذه التقنية رواية »حنان« (1981م) لمجيد طوبيا، بينما اختصّ الفصل الثالث بتقنية »الاختفاء والظهور التدريجي«، وكانت رواية »مالك الحزين« (1983م) لإبراهيم أصلان هي النموذج التطبيقي على هذه التقنية، ليأتي الفصل الرابع والأخير مختصًّا بتقنية »القطع«، وتكون رواية »أطفال بلا دموع« (1989م) لعلاء الديب هي النموذج التطبيقي على هذه التقنية. وفي النهاية يمكن القول إن أن التأثير والتأثُّر بين الفن الروائي والفن السينمائي قد جاوز الأُطُر الضيقة حيث غدت العلاقة بينهما أكثر فاعلية وتَنَوُّعًا، فلم تقف تلك العلاقة عند حدود النقل أو الترويج للعمل الأدبي أو السينمائي أو البحث عن رواية تعالج قضايا معاصرة، ولكنها اتجهت نحو تطوير تقنية السرد الأدبي والسينمائي، علاقة غنية من أولوياتها النضج والتنويع الفنيان.