مِمَّا لا شك فيه أنه بالعودة إلى الماضي (flash back) كلغة سينمائية وفي الصيرورة المعرفية أو الثقافية أو الجمالية المتعددة الخلاقة، يتأكد للمهتمّ أو المتابع أو الفنان أو المتلقِّي أو الناقد أو حتى المتذوق - جدوى التلاحُم والتجاوُر، بل والتجلِّي السويّ المفرط لماهية عَلاقة الإبداع بالفنون، أو الأدب بالصورة، وملازمة كل منهما الآخر في رحلة حتمية ظهرت مع بدء الخليقة، ففي البدء كانت الكلمة «اقرأ» (سبحانه مَن صوَّر فأحسن صوركم)، وإذا افترضنا أن ثمة مجازًا تصوريًّا أو تصويريًّا حركه اليقين أو الحسّ أو حتى الموضوع، وفي ضوء الوسائط الثقافية أو المعرفية أو حتى الأدبية المتعارَف عليها، سنجد تطوُّرًا طبيعيًّا وتنافسيًّا خلاَّقًا ما بين السردي المكتوب أو المروي والمروي عنه والآخر التصويري المرئي الطارح متجليًا في صور أو لغة بصرية متعددة التأويل والإيقاعات، وتأكيدًا للغة أو لماهية تلك الفرضية، تجاور الفنون والإبداع، نحاول التقليب في ما مضى من تراث سردي وبصري لكي نستعيد ماهية العَلاقة بين مسارات السرود المتعددة، التي عددتها واشتبكت معها، بل وأرخت لها التيارات النقدية كافة في العالَم حتى صارت نظريات مسلَّمًا بها لعناوين ومعارف ومسمَّيات فلسفيَّة زادتها جمالاً وروعة ومصداقية، وانطلاقًا من هذا السياق الراسخ تَجَلَّتْ تلك المسارات المتلازمة مع عصر العلم والتنوير والحداثة وما بعدها، ولدقة التحديد التاريخي لارتباط الكلمة بالصورة، ظهرت مئات بل آلاف التجلِّيات الغربية، وكذلك العربية، التي تطرح أشكالها التي اتسعت بها ماهيات الفنون والآداب في طور التمثيلات الخاصة أو العامَّة بالشعوب. مثالاً جاءت «ألف ليلة» نَصًّا سرديًّا عظيمًا حقيقيًّا، أم تخييليًّا أو حتى أسطوريًّا؟! ليلتقي رأيًا مستنيرًا -مصورًا، أو مُخرِجًا، أو فنانًا مستترًا كالإيطالي بازولييى الذي اشتبك مع إحدى الليالي- ليصبح السرد بفلاتره ومرشحاته وضوئه وأخيرًا عينه مدفوعًا بيقين بصري وذائقة بصرية، مقدمًا تأويله في فيلمه العظيم «ألف ليلة». وتعددت المشروعات الإبداعية، انطلاقًا من نفس الفرضية الحتمية، تجاور الفنون، ولكنها اتسعت وصارت الرؤى فنًّا وفكرًا -وروى- أو سرد ما بين الأنا هنا في الشرق العربي، والغرب، لنرى العديد من التجليات نتاج الهمِّ الواحد، واختلاف الذائقة والمفاهيم. يكتب توماس مان الجرماني ويقرأ وسيط ويتأثر ذو الرؤية البصرية بالسرود ويسفر هذا التفاعل عن منتج رومانتيكي نادر. فيلم متفرد. ك«الموت في فينيسيا»، الذي يُعَدُّ من أهم الكلاسيكيات العالَمية في الأدب والفن معًا، الكلمة والصورة، ويتعدد التلاقي لنرى آلان روب جرييه الفرنسي، والكتابة أو السرد بقصدية ذات «الإبداع - والمبدع» للصورة/السينما في ما سُمِّيَ ب«تيار الوعي»، ثلاثة عشر عملاً أنتجتهم السينما الفرنسية في فترتَي الستينيات والسبعينيات، ويبلغ التأثر مداه عند كُتَّابنا الكبار، بداية من شيخ الرواية العربية الراحل نجيب محفوظ، الذي كتب أكثر من ثلاثين نصًّا للسينما، خصيصًا، لينفرد حتى لحظتنا الراهنة بماهية الفصل بين النَّصِّ المكتوب للسينما والنص الأدبي -السرود- في رواياتة وقصصه، حتى إنه عند كل منعطف ظلَّ الرجل صريحًا واضحًا: «أنا مسؤول عن نَصِّي المكتوب، أما إذا حُوِّل للسينما عبر وسيط رؤيوي فأنا غير مسؤول. دا شغل مخرج»، وتعددت الاجتهادات والتأثيرات، الغربي على الشرق أو الشرقي على الغرب قديمًا.. وتزداد اللُّحمة ما بين السرود المكتوبة واللغة البصرية المرئية. ويظهر في مصر الجيل المفصلي - في الأدب والسينما، هنا وهناك على الجانب الآخر من الشاطئ يظهر جيل الهزيمة الذي ظهر في ذروة مجد محفوظ، «كُتَّاب الستينيات»: عبد الحكيم قاسم وجميل عطية إبراهيم وخيري شلبي وإبراهيم أصلان وجمال الغيطاني ومحمد البساطي وبهاء طاهر وصنع الله إبراهيم، الذين تواءم مع ميلاد حركتهم نشوء جيل سينمائي مصري وعربي جديد عُرف بحركة أو «موجة» السينما الجديدة، وتأثر بشكل خاصٍّ كل من خيري شلبي وإبراهيم أصلان وجمال الغيطاني، وكل على حدة وفي مساره، أو في ما يخصُّ أو يروق أو تتحمله ذائقته بعدَّة أشكال من تلك التجاورات أو قل الملازمة. وليس التنافس ما بين التأثر والتأثير (تأثر أصلان كمتذوق راءٍ، وقبلما يكون ساردًا، كاتبًا مبدعًا قصصيًّا أو روائيًّا- بعوالم تلك الحركة السينمائية الجديدة الناهضة في أورُبَّا، وفي فرنسا وإيطاليا تحديدًا. فنراه يصرِّح لصاحب هذه الدراسة عن تأثره بعوالم فيدريكو فيلليني المخرج الإيطالي في «الطريق» أو «روما فيلليني» أو «2/1 8»، وكذلك ناوشه فيسكونتي وبرتولوتشي وبازوليني، والثلاثة من إيطاليا، شكَّلُوا التيار الجديد في السينما الأروبية الجديدة، ما بعد الواقعية الجديدة هذا عن أصلان. أمَّا عند خيري شلبي فكان الرجل يمارس هذا الفن المرئي أو المصوَّر من خلال الدقِّ عليه ليل نهار في حواراته مع فناني مصر كافة بداية من بهيجة حافظ ومرورًا بزكي رستم و(أحمد زكي وفاتن حمامة وغيرهم وغيرهن أكثر زادت بهم رؤاه وتَعَدَّدَ تخليقه ماهية التصوير في مهده عندما اقترب أكثر فرأى وجالسهم ليكتب عنهم وعنهن أجمل البورتريهات، بل ويقدم كذلك صوره، ولغته البصرية عبر دراما مصرية خالصة في مسلسله «الوتد». وكذلك الحال المغاير نسبيًّا، تَجَلَّى جمال الغيطاني في هذا الإطار ليبرز هويته كقابض على سرود وكتابات تجاورت مع صور فيلميه، سواء كمشاهدة للتثقيف أو كتقديم نَصّ («أيام الرعب» نموذجًا) طرح أعماله دراميًّا. ليتحول السرد إلى صورة مرئية... وما بين تلك الإشكالية (المغامرة) «السرد الذاتي - والسرد السينمائي عند الكتاب الثلاثة خيري شلبي وإبراهيم أصلان وجمال الغيطاني»، نستعرض في هذه الدراسة كيف أثَّرَت الذات المبدعة وماهية تأثيرها، في كيفية وأُطُر السرود إبداعيًّا (قَصًّا ورُوًى)، أو بصريًّا/ سينمائيًّا (كصورة)، على أن نتلاقى بنموذج روائيّ واحد لكل مبدع منهم على حدة لتكون شريطة الاختيار توافر تلك الأشكال أو النماذج أو التوصيفات، أو حتى الإيقاعات، سردية كانت أو بصرية. والأعمال هي «صهاريج اللؤلؤ» لخيري شلبي، و«عصافير النيل» لإبراهيم أصلان، و«التجليات» لجمال الغيطاني