قدم الناقد مجذوب عيدروس ورقة حول تجربة الشاعر تاج السر الحسن الاسبوع الماضي في منتدى الزهور الثقافي، وقد شرف الأمسية الشاعر تاج السر الحسن الذي تحدث معلقاً على ما جاء بالورقة، وقدم اضافات حول تجربته قائلاً: لم يخطر ببالي في يوم من الايام ان اكون شاعراً، ولكنها ليست صدفة وليس بغير الصدفة، الموضوع معقد منذ البداية، كنت معترضا على الوضع الموجود في السودان، قرأت في المدرسة الشرقية لأنه لا بديل لها، عندما فتحت مدرسة الابيض ومدرسة خور طقت وكانت الدراسة باللغة الانجليزية رفضت الذهاب إليها لماذا؟ لا أدري! ولكن يبدو ان العنصر الديني في تكويني كان قوياً، ذهب اشقائي الحسين الحسن وعباس الحسن واصدقائي محمد أحمد جحا وحسن جحا وبقيت انا في النهود، هذه البلدة العجيبة، وهي بلدة عجيبة الى هذا اليوم، فقد لفتت إليها انظار الشعراء الكبار في السودان وكتبوا عنها شعراً، ولم اكن وقتها اعرف انها مدينة بهذا القدر من التكوين الثقافي التقليدي القديم، ربما لانها كانت مدينة جميلة وغنية بتراثها الطبيعي الكردفاني المعروف، وربما لكرم اهلها وسماحتهم وطيبتهم.. كانت النهود مقراً لجماعة من العلماء المسلمين الذين اتوا إليها من غرب افريقيا، منهم الفكي جديد والفكي أحمد الازهري وابنه عبد الخالق والفكي كرسي وآخرون، لذلك انشئ معهد النهود الديني، وعلى أيدي هؤلاء تتلمذ كثير من السودانيين الذين اصبحوا علماءً من امثال الفكي عباس الفكي علي، وهو معروف له بالفضل في أم درمان ومصر. ودرست في هذا المعهد، وعرفت النحو وحفظت الاجرومية وأنا صغير.. ثم بعد ذلك بدأت اتلمس الطريق الى الازهر، وعرفت ان ذلك ممكن، ولحسن حظي كان ان اهدتني جدتي عنزاً جميلة ولدت عددا من الاغنام بعتها بمبلغ 30 جنيها، وقررت السفر الى الازهري سراً، ولكن الحسين تآمر ضدي واخبر الوالد، ولكنه وافق ومنحني 30 جنيها أخرى، وبذلك نلت رضاء والدي.. وعند وصولي الخرطوم وفي قهوة الزئبق كان بها فينوغراف، استمعت فيه لأغنية عزة في هواك لأول مرة، واذكر انني دفعت لصاحب الفينوغراف ليكرر لي الاسطوانة، ووقتها كنت بدويا قحا لا اعرف ماذا تعني هذه الاسطوانات، حزتني هذه الاغنية.. وبعد ذلك سافرت إلى القاهرة، ومن القاهرة بدأت رحلتي التي يعلمها الجميع عام 1952م، ووجدت انني أكتب الشعر، وقد ظهرت في ندوة نظمها الطلبة السودانيون كان فيها زكريا الحجاوي، وفي هذه الامسية تحدث وزير التعليم العالي فقال إن قصيدة تاج السر التي القاها ممتازة، وهذا شعر سوداني حقيقي.. وهكذا سارت قضية الشعر والسياسة جنباً الى جنب. ومحيي الدين فارس والفيتوري وجدناهما عندما ذهبنا إلى القاهرة وهما في مرحلة النضج الكامل، وعرفنا ذلك بعد أن قرأنا مجلة «أبولو» وهي مجلة مدرسية، كما أن الديوان أيضاً مدرسة. ولعل «أبولو» اعظم من حيث عمقها التاريخي ومفهومها الجمالي. والعقاد والمازني كانا كاتبين كبيرين متمردين على اقسام القصيدة العربية القديمة، ولكنهما كانا يجهلان بقية النظريات الجمالية الاخرى، خصوصاً عندما هاجما أحمد شوقي.. وما افادنا في القاهرة اننا تقوينا بمحيي الدين فارس والفيتوري، لأننا وجدناهما راسخين في الندوات والاعلام المصري. وما اعطانا دعماً اكبر انا وجيلي صلته العميقة بادباء السودان من خلال ندوة أم درمان برعاية الراحلين عبد الله حامد الأمين ومحمد المهدي المجذوب، فقد استطاع عبد الله حامد الامين الطالب الذي لم يتجاوز الثانوية بقدرته وحسه الذواق واريحيته السودانية، ان يجذب إليه المجذوب، واستطاع المجذوب أن يتفهم مأساوية وعبقرية عبد الله حامد الامين، والتحما معاً ليؤثرا بدورهما على مجموعة كبيرة من الادباء، فشكلا القطب العقلاني للندوة، بالاضافة للدكتور عبد الله الطيب، هذا الرجل العميق الذي كنت اسميه كتلة الجليد، لاننا كنا دائماً نرى منه أشياء جديدة، على الرغم من أننا كنا نقول عليه رجعي، وفي البداية كان يقول إن شعر التفعيلة كلام فارغ كما كان يقول العقاد عندما حكم على شعر صلاح عبد الصبور بأنه ينبغي ان يذهب به الى لجنة النثر، كذلك قول عبد الله الطيب مع قصيدة «آسيا وإفريقيا» وقال «ده كلام فاضي»، وقال عنها منير صالح عبد القادر إنها جغرافيا.. احترم عبد الله الطيب ولكن إلى آراء في بعض ما يقول، واعتقد انه خارج عن الصحة، ومع ذلك فهو وعبد الله حامد الامين والمجذوب وعبد المجيد عابدين وإحسان عباس وحبيب مدثر، كانوا يشكلون عقلانية الندوة. وفي هذه الندوة ظهرت «آسيا وإفريقيا» التي طلبها الكابلي من عبد الله حامد الأمين وتغنى بها، وكذلك خرجت من هذه الندوة قصيدة «محراب النيل» التي تغنى بها عثمان حسين، وقصيدة «المولد» أيضاً تخرجت من هذه الندوة. واذكر انني كنت قادماً من القاهرة وجاء محمد المهدي المجذوب وببساطته وتواضعه قال: أريد أن أدشن شاعراً حديثاً، ودشنا المجذوب في ذلك اليوم شاعراً حديثاً بمناسبة قصيدة «المولد»، فهذه المشاهد الابداعية كانت تسير جنباً إلى جنب، واستمرت المسيرة الى جانب جيلي عبد الرحمن ومحمد المكي ابراهيم، ومن أتى بعدنا من الاساتذة الاجلاء، ومعنا في هذه الامسية الشاعر عالم عباس، واحد من كبار الشعراء المعاصرين، وهو فخر كبير للسودان.. أما الشاعر الحسين الحسن فقد كتب اشياءً جميلة فيها كثير من العاطفة والرقة والوجدان والحب وهو القضية الازلية. ومع ذلك كان شاعراً وطنياً، ولكنه لم يتخل عن شعر الوجدان. وكانت أولى المداخلات في هذه الامسية من الشاعر عالم عباس قائلاً: في حضرة أستاذنا تاج السر الحسن ان كان يجمعنا حب لعزته فليت أنه بقدر الحب نقتسم.. اعادنا أدروب خمسين عاماً مضت لزمان أغير ومازال الزمان أغير.. وعندما استمعت ل «آسيا وإفريقيا» لا استطيع ان اصف النشوة التي كانت تعتريني، ففي تلك الفترة كانت العلاقة قوية بين القصيدة والزمن الذي قيلت فيه، والتفاعل الذي يحدث بين الشاعر والمتلقي، ذلك شعر ذلك الزمان، القصيدة بها رحابة انسانية، فهو غناء كوني تعدى البشر والكائنات، غابات كينيا والملايو، أى شاعر هذا ومن أي معين ينهل، ومن أي الفراديس تأتيه هذه الحوريات؟ هذا شعر ملهم.. وقال له من قبل د. علي شمو: لشد ما أدهشني قولك: والدجى يشرب من ضوء النجيمات البعيدة هذه لحظة تأمل تستطيع أن تقول فيها وتكتب من هذا المقطع الكثير من الشعر، ولهذا يخلد مثل هذا الشعر. والملاحظ أن شعر هؤلاء يدعك تتساءل هل يكتبون القص شعراً أم يقصون شعراً، هذا من بعض صفات ومميزات أشعارهم، نأمل أن يسبر طلاب الدراسات العليا أغوار هذا الشاعر أمد الله في أيامه. كما عبر الشاعر عبد العزيز جمال الدين في مداخلته عن سروره وارتياحه لحضور هذه الأمسية ومقابلته لتاج السر. والدكتور عمر قدور أشار إلى أن تاج السر رمز من رموز الأدب العربي وليس السوداني فقط، وهو شاعر مجدد، ومن الجيل الذي جدد القصيدة العربية الذي يضم الفيتوري وصلاح عبد الصبور ونازك الملائكة وآخرين.