في حضرة سيدة المقام سيجئ يوما آخر يوم نسائي شفيف الإستعارة، ماسيُ زفافي الزيارة سلس خفيف الظل لا أحد يحس برغبة في الانتحار أو الرحيل فكل شئ خارج الماضي طبيعي حقيقي رديف صفاته الأولى درويش ممسكة بقلم الرصاص كانت تقرأ درويش في تلك الليلة الشتوية من ليلات ديسمبر، كان ذلك في زمان ما بعد الخيبة، وبعد أن قطعت شوطا في محاولة أن تصنع لنفسها في داخلها رجلا وحياة أن تصنع من بقايا أوهامها كائناً يقيها شرالتعزي بالآخرين، وعازمة علي أن تتركهم لدنياهم لتسدر هي في وحدتها، وتصنع لها من الزينة ما يجعلها متقبلة، ومحتملة، وممكنة التعاطي .. والإحتمال. قالت أن وحدتها استثنائية حين تحمل فيما تحمل معني للرفقة، والمشاركة. تستعين علي وحدتها بما تقرأ من كتب، وما تكتب من خواطر .. ومن ذكريات. كانت تقرأ كل ما يقع تحت يدها من مخطوطات، وتدون ملاحظاتها علي الهوامش .. تلجأ لذاكرتها في تبين الهنات في شعر درويش حينما لا يتفق مع ما تحسه، ومع ما ترجو، وتتمني، وتتخيل. أو حين يقر الشاعر - بلا شبهة تعمد- بعض ما كانت تنكره في طبيعة الأشياء، وما ينبغي أن يكون عليه الحال كما ترى، وساخطة كانت حينما تتذكر أنها لم تترك لنفسها شيئاً، وأنها آثرت أن تعطي دون أن تنتظر شكراً، ولا أن تخطط لأن تأخذ مقابل ما أعطت .. كانت تستحي، وكانت لاترجو شيئا في قادمات الأيام .. قالت أن الانتظار هو آفة الفرح حين يستمرئ الغياب وهو حيلة العاجز حين لا يجد ما يصنعه سوى الإنتظار .. وحينما تم لها ما أرادت، وصنعت لنفسها ما يعين وحشتها علي الالفة، لم تجد بدا سوي أن تتعزي بما صيرتها المحنة إليه من قدرة علي احتمال الأوجاع .. قالت أنها لا تأنس في ما تبقي لها من سنوات شريكا ولا رفيق، وأنها أهدرت فرصتها الأخيرة في أن تكون منه علي مسافة وصال، أهدرتها حينما ظنته ذلك الذي تربع علي عرش وجدانها حينا من الدهر، ثم لم يجد بأساً في التخلي عن كل ما صنعاه معاً .. تخلي عن كل شئ هكذا فجأة!! ومضي دون أن يلتفت مرة أخري للوراء. تري كيف يكون صادقاً في الحالتين؟ ومن أين يأتي بهذا الوجه المقنع والحاسم في حله وترحاله، وحبه وتنكره. هيامه، وقنوعه الذي يمكن أن يصل لحد التخلي دون أن يري في ذلك بأسا ولا ضير؟ لم تكن تعرف .. اللهم إلا أن يكون حكمها علي الناس أبعد ما يكون عن معقولية المعرفة وعن جادة الصواب. ضبطت نفسها تغني مع المغني (عباد الشمس شافك مشاك\ ساقك جبيرة وجد\تيار الظلام غطاك\ غياب البهجة ما هزاك\هواك هز العقول بالصد).. كانت قد قنعت من الحلم بالانتظار، تترقب وصول من تحب .. لم تكن تحتفظ له في خيالها بملامح محددة، لكنه حبيبها علي كل حال، وهو من تنتظر حين لم يبق لها شيئا سوي الانتظار، قالت بأنه لابد أن يظهر من تلقاء نفسه ذات ليلة، أوذات صباح. ولربما حمل لها من الصباحات ما يشفي غليل ليلها للضياء.. وهاهي تغني (سرق عشقك صباحاتي \شتيل احساسنا ما فرهد) .. تغنيها في كل مرة كأنما تسمعها للتو، وتجتر اكتشافها المتجدد في إعجاب. تنبه لكونها تغنيها بفتح القاف في (عشقك) علي غير ما يقول المغني .. فقرر بأنها لازالت تناجي حبها القديم، حتي بعد أن ذهب بعيدا باتجاه الغياب. تتمني لو لم يكن (هو) أو لم تكن (هي)، تملأها الحسرة علي ما أنفقت خلف خطاه من أشهر .. ومن سنوات، ليمضي بسهولة في نهاية المطاف، كأنما لم يكن ثمة ما يستحق التوقف .. والتدبر، والتأني، والتضحية، والايثار. فياتري ماذا حل بالوجدان البشري ليختار تلك الكثافة القاسية والمحايدة، يستبدل بها لطفا وحنان؟ قالت عرف الحنان؟ قال ضاحكا تري ماذا يكون فقالت:( هو لمسة يد مترفقة علي كتف غريب في قطار مظلم .. هو نهر كهارب ضوئية من اللا زمان واللا مكان، أو لنقل بأن الحنان هو كل ما لم يحدث بيني وبين من أحببت حين افتقدنا الحنان في كل ما صنعنا من ماض .. ومن ذكريات. وهاهي صاحبة الأحلام تحلم من جديد، كانت تري طفولتها عائدة من المدرسة في سنوات التعليم الأولي، وكيف أنها كانت تضيق ذرعا بكل ما يوكل لها من مهام، تدفع بالإرهاق أحيانا، وتصرح بضيقها حين تدعو في صوت مسموع .. (الله يعرس لي يطلعني من البيت دا)، وكانوا يضحكون ملء أفواههم من تلك الطفلة التي تستعجل عرسها ولما تبلغ العاشرة بعد. قالت بأنها ستعرفه حين تلاقيه بعد أن ظل يراود أحلامها لسنوات لم تكن تعرف عن ملامحه الكثير، لكنها تحفظ وجدانه وعاداته عن ظهر يقين. كانت تظن بأنها قادرة علي تخمين صفاته بنسبة عالية من الصدق، وبهامش خطأ صغير .. وقالت بأنها استبشرت خيرا حال رؤيته، ومضت في محاولة التقرب منه تلك الخطوات التي سمح لها حياؤها بها، حتي انتزعت منه ذات يوم اعترافا بالحب في واحدة من أمسيات ديسمبر، فوصلت سعادتها حد الجنون. هو ذا إذن من كان يراود أحلامها في تلك السنوات ومضت تخبره عن كل ما اختبراه معا في أحلامها من مواقف، وما تحقق فيها من أمنيات. وها هي تمنحه من حنانها ما يكفي حاجته .. وما يفيض. كان ذلك في زمان حضوره حينما حجب عنها الرؤية والدروب ولم يترك لها سوى ذلك الدرب الوحيد الذي يفضي إليه في نهاية المطاف، فياتري كم أنفقت في ظنها الخاطئ من أشهر؟ ومن سنوات؟ وكم يجب أن تدفع ثمنا للاختيار؟ قالت ردا علي بعض ما قرأت من شعر درويش أن (ليس في الحب خطأ ولا اختيار) و(ليست هناك شروطا معينة لايجاده من العدم أو التخلص منه مرة والي الأبد) .. تواصل (الشخبطة) علي الهوامش في كتاب درويش حين تقرأ(تتشعب الذكري\ هنا قمر يعد وليمة لغيابه\ وهناك بئر في جنوبي الحديقة\ زفت امرأة إلي شيطان) وضعت خطاً تحت كلمة (امرأة)، وكتبت بجوارها علي الهامش أن (ستصير أما علي كل حال). وحين كانت تقرأ قصيدة (الظل) وتصل لقول الشاعر(الظل لا ذكر ولا أنثي\ رمادي ولو أشعلت فيه النار ) تكتب معلقة علي البيت في هامش الكتاب (بل الظل ذكر يستمد وجوده من الكائن الحقيقي الذي هو بالضرورة أنثي) .. متحصنة بخيبتها كانت تنفث حسرتها وحنينها وما تعتنق من أفكار علي هوامش الكتاب الذي قرأه هو بعد ذلك بسنوات. كان يقرأهما معا هي ودرويش .. يستعين بملاحظاتها ليقرأ ما ذهب اليه وجدانها من ألم في سابقات الأعوام، وما ذهب اليه عقلها من تفكير .. كانت فرصة لينظر إليها من البعيد دون شبهة حرج، ودون أن يكون عرضة لنظراتها التي لا تترك شيئا علي ما هو عليه، وحينما أتم قراءة الكتاب كان قد حفظ ملامح جرحها عن ظهر ألم، وصار قادراً علي أن يتعاطي معها المسامرة، والحديث. كانت هي رفيقة خيبة، وكان هو أحوج ما يكون لمن يقاسمه الفجيعة والحسرات، لكن خيبته كانت ضاحكة .. تعتمد السخرية سبيلاً لمداراة ما تحمل في داخلها من خواء، وكانت خيبتها هادئة تعتمد الإنكفاء والسكون، تحاول أن لا تعلن عن نفسها إلا بتلك الطريقة الصريحة والمباشرة، حين يحل الليل .. فيأخذ حزنها تلك الصورة السائلة والمرة دموعا علي الخدود. لكنها خيبة علي كل حال، وهو ما جمعهما معاً في تلك الأمسية من أمسيات ديسمبر. لكنه كان أبعد من أن ينتخبه خيالها لملء الفراغ الذي خلفه صاحب الحلم القديم. [email protected]