٭ القرارات الاخيرة التي اصدرها وزير المالية، والتي قضت برفع أسعار المحروقات والسكر تعطي مؤشر واضح لمآلات الحالة الاقتصادية والايام القاسية التي تنتظر هذا الشعب في مقبل الايام، فهذه القرارات التي زادت المعاناة وأرهقت المواطن الذي طحنه الفقر ويجد مشقة كبيرة في توفير احتياجاته الضرورية لا شك أن هذه القرارات سترمي بظلالها السالبة على مجمل الاحوال المعيشية، وتؤكد وبجلاء لا لبس فيه ان الانفصال سيخلف واقعاً مأساوياً وسيؤدي لتدهور مريع في مجمل الحالة الاقتصادية، فقيام الحكومة وفي خلال اسبوعين من إجازة الميزانية العامة وقبل دخولها حيز التنفيذ الحقيقي برفع أسعار المحروقات والسكر يعني أن هذه الزيادات ستتواصل وتتزايد كلما دخلت الميزانية حيز التطبيق الفعلي، فميزانية لا تستطيع الصمود لمدة اسبوعين لا شك انها ستكون عاجزة في بلوغ امدها المحدد، فهذه الميزانية باستسهالها للحلول باللجوء لمثل هذه الاجراءات التي ستكون مقدمة لاجراءات أشد لن يستطيع المواطن احتمالها، ووفقاً لهذه الاجراءات الاخيرة فأن وزارة المالية تحاشت اللجوء للاستدانة من النظام المصرفي ولكن المعطيات المحيطة بالميزانية والظروف الاقتصادية والسياسية ومطلوبات الانفصال، لن تمكن من اللجوء لمثل هذه الاجراءات مستقبلاً وستضطر وزارة المالية للاستدانة من النظام المصرفي الأمر الذي سيترتب عليه إنخفاض القوة الشرائية للجنيه السوداني وانهياره مقابل العملات الصعبة، وسيؤدي ذلك لانخفاض القوة الشرائية للجنيه، ويرى بعض الاقتصاديين ان التدهور في قضية الجنيه سيتوالى وبدرجات متسارعة وقد تصل قيمة الدولار لاكثر من عشرون جنيهاً خلال هذا العام. فالقوة الشرائية للجنيه ترتبط بالانتاج واحتياطي الذهب والعملة الصعبة لدى الخزانة العامة، فهذه العوامل تعاني من مشكلات حقيقية، فالإنتاج يتسم بالضعف وعدم الثبات والقطاع المنتج المتمثل في الزراعة بشقيها النباتي والحيواني يعاني إهمالاً واضحاً وكل المحاولات التي تمت للنهوض به كالنفرة الخضراء والنهضة الزراعية باءت بالفشل وتم استغلال أموالها في غير ما اريد له. وقد أهملت الدولة هذا القطاع واعتمدت اعتماداً كلياً على أموال البترول في التنمية وتسيير دولاب العمل وبإعتماد الدولة على البترول بإعتباره سلعة ناضبة وبحكم طبيعتها وما يكتنفها من تحولات سياسية تكون الدولة قد دخلت وادخلت البلاد في نفق يصعب استجلاء نهاياته ومآلاته، ووفقاً للتطورات الاخيرة فإن البترول سيذهب لاصحاب الارض، وسيكون من نصيب الدولة الوليدة وستعمل الحكومة جاهدة لاستقطاع جزء محدد منه مقابل استعمال انبوب التصدير وهذه الكمية ومهما كان حجمها لن تؤدي لسد العجز الوضح في ميزان المدفوعات، فاتفاقية نيفاشا وبالكيفية التي تمت بها افقدت الميزانية العامة اهم مواردها قبل ان تعطي الفرصة في استنباط البديل وكان عليها إبقاء الاوضاع على ماهى عليه وحتى بعد الانفصال ولمدة لا تقل عن ربع القرن ومن ثم يمكن للجنوب الاستئثار بالبترول وهذا الشرط لي في مصلحة الشمال لوحده وإنما لمصلحة الجنوب كذلك، فمعاناة الشمال وعدم استقراره ستؤدي بالضرورة لعدم استقرار الجنوب فلا يعقل أن يفقد الشمال معظم عائدات البترول ويترك ليواجه مصيره وينعم الجنوب بهذه الثروة لوحده، وبداهة فان من حقه الاستئثار بثرواته واستغلالها ولكن للشمال نصيب في هذه الثروة بإعتباره الجهة التي اكتشفتها بكل ما تملك وباستقطاب الخبرة الاجنبية لاستخراج هذا البترول، فدور الشمال في استخراج بترول الجنوب دور أصيل يجب اعطائه ما يستحق من اعتبار، ولابد من ايجاد صيغة مناسبة بين الشمال والجنوب فيما يتعلق باستغلال البترول وايجاد صيغة مناسبة تمكن الشمال من التمتع بهذا البترول وفقاً لصيغة ترضي الطرفين، وبدون هذا الاتفاق وبعد انقضاء الفترة الانتقالية فإن الوضع في الشمال سيتأزم ويدخل في مشكلات عدة يمكن أن تترتب عليها احتقانات وأزمات عصية ستنعكس على مجمل الاوضاع في الشمال والجنوب، فاستقرار الشمال سيؤدي لانسياب بترول الجنوب لمواني التصدير في سهولة ويسر والعكس صحيح. وقد برر السيد وزير المالية الزيادة في أسعار المحروقات بأن أسعارها أقل من السعار العالمية والأسعار في دول الجوار المحيطة بنا، وهذا القول غير صحيح على إطلاق وقد ينطبق على بعض الدول المحيطة بنا كأثيوبيا وأرتريا بإعتبارها دول غير منتجة، ولا يمكن ان ينطبق على الدول المنتجة كمصر وليبيا وتشاد، فهذه الدول اسعار المحروقات فيها تقل عن أسعارنا وبفارق كبير خاصة واننا دولة منتجة ولا يمكن مقارنتنا مع الدول غير المنتجة، وهذا ما ينطبق على وضعيتنا فيما يتعلق بالاسعار العالمية على اعتبار عدم استردادنا لهذه المحروقات، ومبررات وزير المالية وربطه للاسعار المحلية بالاسعار العالمية يعيد للاذهان تلك الايام التي تتراص فيها الصفوف للحصول على جالون البنزين، وفي تلك الحقبة قبل اكتشاف البترول وكل المؤشرات تشير لعودة تلك الايام بما لا يدع مجال لاي شك، فربط أسعار البترول المنتج محلياً بالاسعار العالمية لا ينبيء بخير وإنما ينذر بشّر مستطير، وحتى وأن فرضنا جدلاً صحة تبرير وزير المالية فيما يتعلق بالمحروقات فما هو المبرر لزيادة أسعار السكر مع العلم بأن أسعار السكر الذي نصدره لدول الجوار يباع هنالك بأسعار أقل من الاسعار المحلية، وإرتفاع اسعاره محلياً يعود لكثرة الضرائب والرسوم المفروضة عليه. فالحكومة لم تكتف بكثافة هذه الرسوم والضرائب بل تتمادى أكثر من ذلك بفرض زيادة مباشرة على سعره، وبهذه العقلية والتبريرات غير الصحيحة يتأكد لنا ان الفترة القادمة ستكون فترة قاسية على المواطن الذي سيكون عرضة لاسوأ الاحتمالات بالنظر للإنفلات الكبير في الاسعار وفشل الحكومة في كبح جمحه، هذه المؤشرات نؤكد بأن الحكومة لم تضع خططاً واضحة لمرحلة الانفصال. فهذه المرحلة التي لم تبدأ بعد كان لها التأثير المباشر في هذه الازمة، وشبح الانفصال يؤدي لهذه الهزة العنيفة في مجمل الواقع الاقتصادي، ويدخل البلاد في نفق من المعاناة وغلاء المعيشة، والوضع سيكون اسوأ عند دخول الانفصال مرحلة التنفيذ وانقضاء الفترة الانتقالية في التاسع من يوليو 1102م واستئثار الجنوب بالبترول الذي يمثل 06% من ميزانية الدولة فإذا كان هذا هو الحال في قبل ايلولة البترول للجنوب فلا شك أن الوضع سيكون مخيفاً وقاسياً عقب فرز الكيمان، وهل ستغطي الضرائب والجمارك والرسوم والزيادة في اسعار السلع تلك الفجوة الكبيرة التي سيخلفها إختفاء بترول الجنوب من الميزانية؟ ويرى البعض أن هذه الفجوة يمكن سدها بتنمية الصادرات الزراعية والحيوانية وتطوير التعدين خاصة الذهب، الا ان الخبراء الاقتصاديين يؤكدون بأن العائد من صادرات البترول يمثل ستة اضعاف العائد من بقية الصادرات، وهذا يعني استحالة تغطية العجز المترتب على فقدان عائدات البترول، وهنالك نقطة هامة تتمثل في صادر الذهب الذي يبلغ انتاجه حوالى طني سنوياً خلافاً للتعدين العشوائي ولم يظهرفي الميزانية حتى الآن، المهم في الامر ان الفرص المتاحة لمعالجة الموقف لن تسعف ولن تسد الفجوة الكبيرة المتوقعة، والطريق ممهد امام الحكومة لفرض مزيد من الضرائب ورفع الاسعار اطمئناناً لجانب المواطن الذي تأكد لها بأنه لن يحرك ساكناً، ولن يتخذ موقعاً على ضوء تأكيد المسؤولين بأن الشعب ما خايف ولكن ملم بالظروف التي ادت لهذه الزيادات والسؤال الذي يفرض نفسه هل الحكومة نفسها ملمة بالظروف التي يعيشها هذا الشعب المسكين؟ وان الامر اصبح فوق طاقته وانه لا يستطيع احتمال هذا العبء الذي قصم كاهله فالحياة اصبحت عبء ثقيل عليه ولا يحتمل، فالحكومة تؤكد بأنه شعب متفهم وتأتي وتهدده بأن يجرب الخروج مع نصيحتها الغالية له بالا يخرج في إشارة واضحة بأنه قد لا يعود، فالشعب حائر بين التعبير عن رأيه وبين احتماله عدم عودته لابنائه، وحتى الآن فان كفة السلامة هى الراجحة لديه وعليه الصبر والاحتمال ويوجب على الحكومة السعي لئلا تكون المعادلة لديه بأن يكون سيان عنده بأن يموت بالرصاص او يموت بالجوع فالجوع كافر وليس بعد الكفر ذنب. وعوداً على موضوع الانفصال فإن هذا الانفصال لم يتم بالسلاسة المطلوبة وقد كان انفصالاً عدائياً إعتراه كثيراً من الشّد والجذّب مما أوغر صدور الجنوبيين تجاهنا ولولا ذلك لاستفاد الشماليين من السوق الجنوبي الواعد ولاستفادوا من البترول الجنوبي في شكل استثمار وشركات وشراكات مع الاخوة الجنوبيين وقد استفاد الكينيين واليوغنديين من هذا السوق واحكموا قبضتهم عليه وكانت هذه الفرصة لنا لاعتبارات العلاقة السابقة والتداخل الاجتماعي، والعلاقة بيننا وبين الجنوبيين كان يمكن أن تكون علاقة خاصة مبنية على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة لكن قصر النظر والانفعالات وعدم التخطيط طويل الامد وعدم الالتزام بالعهود والمواثيق حولها لعلاقة ترتكز على الكراهية والضغائن والاحقاد الدفينة الأمر الذي أبعدنا عن دائرة الاستثمار في سوق الجنوب الواعد البكر. * المحامي